صفحات الشباب

متلازمة تونس لا أستوكهولم

كنان قوجه
تجتهد مراكز الدراسات في الدول الديمقراطية عند أي استحقاق إنتخابي برصد مايسمى بالصوت المتردد
وهو الصوت غير الملتزم حزبياً أو سياسياً ويؤثر على قراره نوع الشعارات المرفوعة وعلاقتها بواقعه المعاش
يبدو هذا الصوت عربياً وقد حسم أمره وقال كلمته بشكل مدوّي في كلا الحدثين التونسي ومن ثم المصري الأمر الذي شكّل مفاجأة التغيير لهذه الأنظمة الحاكمة المعتادة على التعامل مع معارضيها بالعقلية الأمنية الأرشيفية فهي تعرف هؤلاء المعارضين وترصد تحركاتهم وتنجح غالباً في إستيعابهم أو قمعهم ،لكنهاتبدو الآن في مأزق أمام الحراك الجديد لهذا الجيل الشبابي الغامض أمنياً والذي يستخدم أساليب الإتصال الحديثة كالأنترنيت والخليوي
هذا الجيل يشكّل معضلة أيضاً للمعارضات العربية الوطنية الديموقراطية منها أو الإسلامية ،فهذه المعارضات التي نجحت سنوات القمع المديدة في تحجيم حضورهم العام ووضع سقف لمطالبهم يكاد ينحصر بإصلاحات خجولة هنا أو بحصّة ما من كعكة السلطة هناك تبدو الآن قاصرة عن اللحاق بمطالب الشارع المطالب بالتغيير الشامل رغم محاولة بعضهم لركوب موجة التغيير وطرح أنفسهم كبدائل محتملة لايقبضها الشارع جدّياً،
هذا الشعب الذي أعادت ثورة تونس بالأساس الإعتبار له كمصدر للسلطات أثبت عن وعي يتجاوز كل التصنيفات المسبقة تبدو ملامحه واضحة في سلمية الحراك وإحترامه لمؤسسات الدولة ونوعية الشعارات المرفوعة وحسن التنظيم والمواكبة محققاً تضامناً عربياً غير مسبوق أظهره على نطاق واسع موقعي  الفايسبوك والتويتر ويمكن القول أن هذين الموقعين حظيا بالنجومية الإعلامية في تغطية الأحداث الجارية كما سبق وبنت محطة السي إن إن مجدها الإعلامي على حساب الحرب الأولى على العراق والجزيرة على حساب حدث 11 أيلول وتداعياته في أفغانستان والعراق ،
الشخصية الإعتبارية الثانية التي أُعيد إعتبارها هي المؤسسة العسكرية الوطنية فالجيش التونسي الذي تصرّف كجيش للوطن وليس للنظام أضحى ملهماً لآمال باقي الشعوب العربية في سلوك مماثل لجيوشها ويبدو الجيش المصري حتى اليوم يسير على نفس الخطى مما يطوي صفحة سابقة مريرة من نظرة هذه الشعوب لجيوشها،
ولكن ما الذي حدث اليوم وأدى إلى خروج هذا المارد الشعبي من قمقمه بهذا الشكل الصارخ الذي لاتبدو هناك أي قدرة للسلطات لإعادته إليه ؟
فالشعب التونسي لم يكتفِ بإزاحة الديكتاتور بل تعدّى ذلك إلى فرض شروطه على مرحلة التغيير بحيث يفوّت الفرصة على إحتمال ثورة مضادة والشعب المصري يبدي نضجاً وحكمة في مواجهة كل مناورات السلطة وصموداً استثنائياً إزاء محاولات القمع التي تقوم بها ،
يمكن ذكر كثير من العوامل التي مهّدت وأدت لما يحصل ولكن يبدو أن أهمها هو إنسداد الأفق تماماً بأي أمل للتغيير أو أقله الإصلاح من قبل هذه الأنظمة وفقدانها لأي مشروعية وطنية أو سياسية أمتلكتها بعض الأنظمة  العربية في مراحل سابقة نتيجة لإزاحتها لنظم فاسدة مكروهة وقيامها بعمليات تحول إقتصادي استفادت منها فئات من الشعب ولكن لم تلبت هذه الأنظمة أن تحولت لنمط من الفساد تجاوزت الأنظمة التي أنقلبت عليها وأضحت تحكم لمجرد الحكم وإستمرار نهب المحكومين في سلسلة وراثية ينتقل فيها الحكم من الآباء إلى الأبناء ،ورغم أن الغزو الأمريكي للعراق وماتلاه من مذابح وخراب أتاح للأنظمة تسويق فكرة الأمن الناتج عن القمع كمبرر للإستمرار وخاصة في الدول المتمتعة بتعددية مجتمعية طائفية أو أثنية
هذه الفكرة لاقت رواجاً ساعد عليه كتابات إستشراقية لها مريدين من المثقفين العرب تنظر للشعوب العربية على أنها غير ناضجة ولاتستحق الديمقراطية وكأن هذه الشعوب مصابة بملازمة استوكهولم ٠
وهي المتلازمة التي أتى إسمها من حالة إختطاف في استوكهولم عاصمة السويد عام 1973 وأُحتجزت فيها عدة نساء ورجل لمدة ستة أيام على يد مجرمين أثناء عملية سطو على مصرف ووصل المحتجزون إلى حالة أقتنعوا معها أن هؤلاء اللصوص كانوا يحمونهم من رجال الشرطة ،وأعلنت إحدى النساء خطوبتها على أحد الخاطفين وذلك بعد إطلاق سراح المجموعة كما بدأت ضحية أخرى بحملة دفاع عنهم ،وأصبحت هذه المتلازمة تصف الأشخاص الذين يترابطون مع آسريهم وحتى يتصرفون بطريقة تظهر عرفان الجميل تجاههم ،
ويشرح علماء النفس أن هناك أربعة عوامل تؤدي للإصابة بهذه المتلازمة :
العامل الأول : هو أن تشعر الضحية أن حياتها مهددة من الآسر وتفترض أن هذا الآسر سينفذ تهديده
العامل الثاني :هو أن يظهر الآسر بعض اللطف تجاه الضحية كأن يأتي ذلك على شكل فترات استراحة من التعذيب أو إعطاء الضحية وجبة محترمة
العامل الثالث : يتمثل في عزل الضحية عن التواصل مع أي شخص أخر غير الآسر
العامل الرابع : هو إقناع الضحية أن كل طرق الهرب مسدودة أمامه
ونتيجة لتوافر هذه العوامل الأربعة في الحالة العربية معطوفاً عليها عدم قيام الشعوب العربية بأي رد فعل واضح على تسلط هذه الأنظمة سمح للكثيرين بالإعتقاد أن الشعوب العربية لا أمل لها بالتغيير من الداخل ولم يعد البعض يجد حرجاً في تبرير الغزو الأميركي للعراق مثلاً أو الدعوة لإمتداده لدول عربية أخرى ٠
هذا النوع من التوصيف للحالة العربية تبدو تورة الشعب التونسي وثورة مصر المستمرة بعدها وقد أطاحت بها وفتحت الطريق لشعوب عربية أخرى لإستلهام هذين النموذجين كل شعب حسب خصوصيته ،فيصح اليوم أن نقول أن هذي الشعوب تحكمها متلازمة تونس لا أستوكهولم ،
يبقى أن أسوأ أنواع الردح والنق سنسمعها من هؤلاء المستشرقين ومريديهم أن قرر الشعب التونسي أو المصري في حال نجاح ثورته أن يعطي للإسلاميين حصة معقولة في تركيبة السلطة القادمة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى