صفحات العالم

قصة انتحار

ساطع نور الدين
تقول الرواية الرسمية، التي يبدو أنها صحيحة، إن الانتحاري، الذي يعتقد أنه صار الآن في الجنة، انتظر إقدام زميليه على تفجير نفسيهما بسيارتين مفخختين، فراقب عن كثب قوة الانفجارين وشاهد تحول بعض المارة الى أشلاء، وسمع بالتأكيد صراخ الجرحى واستغاثتهم، فانتظر بهدوء وصول سيارات الإسعاف الى المكان، واستقل إحداها ومضى فيها مسرعاً الى المستشفى المركزي حيث فجر نفسه أمام المبنى، وأسقط العدد الأكبر من الضحايا في ذلك الهجوم الثلاثي المروع الذي هز مدينة بعقوبة العراقية امس الاول الاربعاء، وأودى بحياة 33 شخصا فضلا عن عشرات المصابين.
من السهل التكهن أن الانتحاري، الموجود الآن في السماء حسب المنطق الشائع، لم يكن راضياً على الأرجح عن أداء زميليه المبتدئين في هذا المجال ربما، وعن حصادهما الدموي الذي لم يكن يزيد على عشرة قتلى ونحو ثلاثين جريحا فقط بالمقارنة مع كمية ضخمة من المتفجرات وضعت في السيارتين قاربت المئتي كيلوغرام، فقرر أن يعوض ما فاتهما ولجأ على الفور الى تغيير الخطة أو التكليف الشرعي، حيث احتفظ بالأحزمة الناسفة حول جسده برغم أنها كان يمكن أن تنفجر في أي لحظة، وأدرك بسرعة أن وسيلة النقل الأسلم هي سيارة الاسعاف وان نقطة التجمع الأكبر للمواطنين في المدينة هي المستشفى. وهكذا كان. وهكذا صارت بعقوبة خلال دقائق شاهدة على واحدة من أبشع المذابح في العراق.
لا يمكن الحكم على ذلك الانتحاري ورفيقيه الذين يخضعون حاليا، ربما، لمحاكمة سماوية وعدالة إلهية. لا يمكن إخضاع هذا العمل الوحشي لأي معيار ديني أو طائفي أو مذهبي، وبالتأكيد لا يمكن إدراجه في أي منطق سياسي، أو حتى نفعي، على الرغم من أنه تجوز استعارة هذه القيم السابقة ومطابقتها مع التاريخ العراقي الذي لم يخل يوماً من سفك الدماء بغزارة استثنائية، وصولا الى الاستنتاج أن مذبحة بعقوبة وتفاصيلها المروعة، ليست حدثاً، وبالتالي لن يكون لها أثر بارز على أحوال العراقيين، الذين قاومت غالبيتهم الساحقة ولا تزال تلك السمة التاريخية الخاصة، وذلك المصير البائس.
المذبحة هي بلا شك من يوميات العراق العادية، التي يخترقها هذه الأيام مسار بديل لم يسبق أن اختبره العراقيون على مر عصورهم القديمة والحديثة الحافلة بالمذابح وعمليات الانتحار الفردي والجماعي.
ثمة استحضار أو استلهام أو حتى استيراد لفكرة السياسة وإحلالها محل الاستخدام الدائم للقوة واللجوء المفرط للعنف. ثمة قيمة تترسخ في الأذهان للانتخابات وصناديق الاقتراع. لم تصبح عامة أو نموذجية لكنها تكتسب يوما بعد يوم المزيد من الشرعية والمصداقية. لكنها حتما صارت من قواعد إدارة ذلك البلد المعذب وقوانينه.. التي يمكن أن تتحول بعد دورتين انتخابيتين أو ثلاث أو حتى أربع الى تجربة فريدة، ليس فيها إكراه أو تزوير، والأهم من كل ذلك، ليس فيها هذا القدر من التعصب الديني أو الطائفي أو المذهبي، الذي ألغى العصبية الوطنية تماما على مدى السنوات السبع الماضية.
سيكون الانتظار طويلا وصعبا، لأن طرق العراق ستظل معبدة بمثل ذلك الانتحاري المجنون.
السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى