صفحات ثقافية

ضوء الديموقراطية الخافت

null
أرونداتي روي
في الوقت الذي لا نزال نتناقش فيه حول ما اذا كانت هناك حياة ما بعد الممات، هل لنا أن نضيف سؤالاً آخر الى الجعبة؟ هل من حياة ما بعد الديموقراطية؟ ما هو نوع هذه الحياة؟ لا أعني الديموقراطية كمثالٍ أو كوحيّ بل أعني بها المفهوم العملي: الديموقراطية الغربية الليبيرالية ومتغيراتها، في شكلها الحالي.
اذاً، هل من حياة ما بعد الديموقراطية؟
ان المحاولات للاجابة عن هذا السؤال غالباً ما تتحول  عملية مقارنة بين أنظمة حكم مختلفة وهي تنتهي بدفاعٍ مغيظ وقتالي عن الديموقراطية.
نقول، “انها مغلوطة (الديموقراطية) وهي ليست كمالية، غير أنها لا تزال أفضل من أي شيء آخر مطروح”.
ومن ثمّ، وبشكلٍ محتوم، ينبري واحدٌ من بين الجمع ليهمّ بالقول:
“أفغانستان، باكستان، السعودية، الصومال… هل هذا ما تفضلونه؟”.
أن تكون الديموقراطية هي اليوتوبيا التي تطمح اليها كل المجتمعات المتطورة، سؤالًُ مستقل في حد ذاته .
وأظن أنه ينبغي له أن يكون كذلك.
فالمرحلة الأولية المثالية قد تكون مصدر غبطة.
إن السؤال عن الحياة ما بعد الديموقراطية موجه الى هؤلاء الموجودين بيننا والذي يعيشون أصلاً في ظلّ الديموقراطيات، أو في بلدان تزعم بأنها ديموقراطية. وليس المقصود بالسؤال هنا أن ننحدر الى أشكال قديمة ومشوّهة من الحكم التوتاليتاري أو الاستبدادي.
بل المقصود أن النظام الديموقراطي التمثيلي في حاجةٍ الى بعض التعديل الهيكلي.
قد يكون من غير الملائم أن ينتقد شخصٌ ما الديموقراطية أمام جمهورٍ يجمع بين كتّابٍ من بلدان لم تعرف شعوبها الديموقراطية قطّ، أو أن أنظمتها التوتاليتارية حرمت الشعب من الحقوق الأساسية لعشرات السنين. ولكننا كلنا نعلم أن الأنظمة السياسية مرتبط بعضها بالبعض الآخر، تماماً كالرأسمال العالمي. وفي غالبية الأحيان، تكون الأمم الديموقراطية العظمى، المتنكرة في أزياء حراّس الأخلاقية ومخلّصي الانسانية، هي التي تموّل الأنظمة الديكتاتورية والتوتاليتارية وتقوّيها. ونعلم تماماً أن الحروب في كلٍّ من العراق وأفغانستان، والتي، بسببها، فقد الآلاف من الأشخاص حياتهم ودُمّرت مدن بأكملها، قد شُنّت باسم الديموقراطية. ونعلم أيضاً أن البلدان التي تعتبر نفسها ديموقراطية تدير العديد من الاحتلالات العسكرية في العالم، وأشير هنا الى فلسطين، العراق، أفغانستان والى كشمير.
اذاً السؤال الفعلي هنا هو: ماذا فعلنا بالديموقراطية؟ وإلامَ حوّلناها؟
ماذا يحدث حين تُستهلَك الديموقراطية الى أقصى حدّ، لحظة تُفرَّغ من المعنى؟
ماذا يحدث حين تصبح كالمرض الخبيث وتتحول شيئاً خطيراً؟
وما يحدث الآن ولا سيّما أن الديموقراطية والسوق الحرة قد انصهرتا معاً في جسم مفترسٍ موحد ذي خيال نحيل وواهن يدور تقريباً بأكمله حول فكرة زيادة الربح الى أقصى حدوده؟
هل من الممكن عكس هذه العملية؟ هل يمكن أن يعود شيءٌ متحولٌ الى ما كان عليه من قبل؟
ما نحن في حاجةٍ اليه اليوم، رؤية بعيدة المدى.
هل في إمكان الحكومات التي تقوم استمراريتها على مبدأ الكسب المباشر، تأمين هذه الرؤية؟
هل يمكن أن تكون الديموقراطية، وهي الجواب المقدس عن صلواتنا وآمالنا، القصيرة المدى، والحامي لحرياتنا الفردية ومغذّي أحلامنا الجشعة، نهاية اللعبة للعرق البشري؟
هل يعقل أن تكون الديموقراطية قد نالت الشعبية الواسعة لدى الانسان العصري تحديداً لأنها المرآة لحماقتنا الكبرى: قِصَر نظرنا؟
ان عدم مقدرتنا على العيش كلياً في الحاضر (كما تفعل غالبية الحيوانات)، مصحوباً بعدم قدرتنا على الرؤية بعيداً في المستقبل، يجعلاننا مخلوقات عجيبة في هيئاتٍ نصفية، لا نحن وحوش ولا أنبياء. ويبدو أن ذكاءنا الرائع قد تخطى غريزة البقاء خاصتنا، فنحن ننهب الأرض ونعيث فيها خراباً آملين بأن الفائض المتراكم سيعوض علينا هذا الشيء العميق الذي لا يُسبَر غوره، وقد فقدناه.
شخصياً، لقد عشت كل حياتي في الهند، هذا البلد الذي يسوّق نفسه على أنه الديموقراطية الكبرى في العالم (وأقول الكبرى اذ أن التشابيه الأخرى كـ”الأعظم” و”الأقدم” قد استُعملت قبلاً). لذا، ومن بعد اذنكم، سأنتقد الديموقراطية من موقعي الخاصّ والمميز.
منذ أسابيع قليلة، أعلنت الحكومة الهندية تعبئة 26 ألف عسكريّ لشنّ عملية عسكرية ضد الماويين “الارهابيين” في الغابات ذات الثروات المعدنية الكثيفة في الهند الوسطى. ومنذ عشرات السنين حتى الآن، يقوم الجيش الهندي بالانتشار في ولايات من مثل ناغالاند، مانيبور، أسّام، وكشمير، حيث يحارب الشعب لنيل استقلاله. ولكن أن تعلن الحكومة صراحةً، تجييش قلب الهند، فإن ذلك اعتراف رسمي بالحرب الأهلية.
ومن المقرر أن تنطلق العملية، وهي، بفعل المصادفة، التسمية التي تُطلق على الحرب في أيامنا هذه، في شهر تشرين الأول، بعد أن تشارف الأمطار الموسمية الانتهاء وتغدو الأنهار أقل غضباً والأراضي سهلة الولوج. أما الشعوب التي تعيش في هذه الغابات، ومن بينهم الماويون الذين يرون أنفسهم كراية حرب ضد الولاية الهندية، هم شعوب قبلية، والأكثر فقراً في البلد. وقد عاشوا في الأرض لقرون عديدة من دون مدارس، أو مستشفيات، أو طرق، أو مياه عذبة.
جريمتهم هي بالشكل قديمة: فهم يعيشون على أرض غنية بالحديد الخام، والبوكسيت والأورانيوم والقصدير، جميعها معادن تريدها بشدة شركات التعدين الكبرى ومن بينها، تاتا وفيدانتا وأسّار وسترلايت. وكان رئيس الحكومة قد أعلن أن “حكومته معنية باستغلال ثروة الهند المعدنية لدعم ازدهار الهند الاقتصادي”. ووصف الماويين بأنهم “التهديد الأمني الداخلي الأوحد والأكبر للهند”.
أما في الصحافة التابعة للشركات، فبات استعمال مصطلحات من مثل “محو” و”ابادة”، عاماً لدى الحديث عمّا يمكن أن يُفعل بهم. حين تدخل القوات الأمنية الى الغابات، لن يعرف أحد كيف يتم التفريق بين الماويين والمتعاطفين معهم من جهة، والشعب العادي من جهةٍ أخرى.
وليس من المصادفة في شيء، أن تكون الهند قد تصدّت لتحركات أوروبية لدى الأمم المتحدة تطالب بإجراء تحقيق دولي في جرائم الحرب التي قد تكون ارتُكبت على يد حكومة سري لانكا في هجوماتها الحديثة على نمور التاميل. واعتبرت الحكومات في هذا الجزء من العالم، النموذج الاسرائيلي طريقةً فضلى في كيفية التعامل مع “الارهاب”: أَخرج الاعلام وأقفل الساحة للقتل.
بهذه الطريقة، لن يقلقوا أنفسهم كثيراً للتمييز بين من هو “ارهابي” ومن هو ليس بإرهابي. ومن الممكن أن يتسبب (هذا القتال) بفورة غضب دولية، غير أنها لا تلبث أن تخمد سريعاً.
منذ سنين، تُشَن على هذا المنوال حربٌ أهلية خافتة غير معترف بها. دُمّرت قُرى (قتلت) مئات آلاف الأشخاص وأُحرق مخزونهم الغذائي. هاجر الكثير الى المدن حيث يعملون بأجور زهيدة لا تؤمّن لقمة العيش. أما الباقون فلا يزالون مختبئين في الغابات، يعيشون من الأعشاب والفاكهة البرية، وقد أدركت المجاعة معظمهم شيئاً فشيئاً.
أما الآن فقد بدأت التحضيرات لحرب رسمية تتلقى خلالها القوى البرية الدعم من طائرات الهليكوبتر والتوجيهات الجغرافية عبر الأقمار الاصطناعية. ويتم انشاء قيادات الألوية في رايبور، عاصمة شاتيسغار. وتسيّج الغابة وتقام الحواجز فيها. وتوضع القيود على الصحافيين. ويُسنّ العديد من القوانين التي تُجرّم أي نوع من المعارضة ولو كانت سلميةًً في حين يتم توقيف أعدادٍ لا تُحصى وسجنهم من دون كفالة.
واذا أقيمت حرب تشرين الأول، من غير أن نحول دون وقفها، فستكون الدامجة، أو الزواج اذا صح التعبير، بين نوعين منفصلين من الحروب التي لا تزال تشتعل في الهند منذ عقودٍ حتى الآن: أولاً، الحرب على “الارهاب” التي تشنها الهند ضد شعب كشمير، ناغالاند ومانيبور، وثانياً الحرب للاستيلاء والسيطرة على الثروات الطبيعية. في عبارة أخرى، هي حربٌ أصبحت تُعَرّف بمسيرة “التقدّم”.
في كانون الثاني 2008، دُعيت الى إلقاء محاضرةٍ في اسطنبول لمناسبة الاحتفال بالذكرى الأولى لاغتيال الصحافي الأرمني هرانت دينك. وكان دينك قد قتل في الشارع خارج مكتبه بسبب تجروئه على اثارة موضوع محظور في تركيا: ابادة الأرمن التي وقعت عام 1915 وذهب ضحيتها أكثر من مليون شخص.
تناولت محاضرتي تاريخ الابادة ونكرانها بالاضافة الى العلاقة القديمة وشبه العضوية بين مفهوم “التقدّم” والابادة الجماعية. لا أزال مصعوقة بحقيقة أن الحزب السياسي في تركيا الذي قاد المجزرة كان اسمه “حزب الاتحاد والترقي”. تاريخ طويل يجمع بين الاتحاد والتقدم، أو بحسب المصطلحات الحالية، القومية والتطور، وهما الركيزتان الرصينتان لديموقراطية السوق الحرة.
حين كانت البلدان الأوروبية “تتقدم” و”تتنور” في طور دخولها عصر الصناعة، كانت تطور نماذج محدودة ولكن جديدة من الديموقراطية وحقوق المواطنين في “البلاد الأم”، وكانت تبيد في الوقت نفسه شعوباً بالملايين في المستعمرات.
وفي السنين الأولى من الاستعمار، كانت ابادة الشعوب الأصلية بغية التحضر، فكرة مقبولة بشكل صريح.
لكن ومع نمو الحديث عن حقوق الانسان، بدأ نوعٌ جديد من الازدواجية الأخلاقية يتخذ أشكاله، مما ادى الى ولادة ظاهرة جديدة: نكران الابادة الجماعية. والآن، حين تلتقي سياسات الابادة الجماعية مع السوق الحرة، يصبح الاعتراف الرسمي، أو النكران، أو بحسب الفترة الأخيرة، فبركة ابادات ومجازر وهمية، (يصبح) مشروع مؤسسة تجارية متعددة الجنسية، نادراً ما يتصل بحقيقة تاريخية أو بدليل جنائي، لا مكان فيه للأخلاقية. المشروع عملية مقايضة هجومية تنتمي الى المنظمة العالمية للتجارة أكثر منها الى الأمم المتحدة حيث العملة المتداوَلة هي السياسة الجغرافية والاقتصادية والبشرية، والسوق المتقلبة للثروات الطبيعية، وهذا الشيء اللافت للنظر واسمه التجارة المستقبلية، والاقتصاد البحت والقوة العسكرية.
في كلمات أخرى، تُنكر الابادة الجماعية للأسباب نفسها التي تدفع الى مقاضاتها: الحتمية الاقتصادية المشبّعة بالتمييز العرقي/ المذهبي/ الديني/ والقومي.
بمعنىً أكثر صراحةً، ارتفاع سعر برميل النفط (أو الطنّ من الأورانيوم) وهبوطه، والسماح بإقامة قاعدة عسكرية، والانفتاح الاقتصادي لبلدٍ معين، هي التي تقرّر حصول الابادة الجماعية أو عدمها.
وفي حال حصول الابادة، وتم التقرير عنها، فكيف يُحرَّف هذا التقرير؟
على سبيل المثال، لَم يتم التقرير حقّاً وبشكلٍ وافٍ عن مقتل مليوني شخص في الكونغو.
لماذا؟
وهل كان مقتل مليون عراقي في ظل نظام العقوبات، الذي سبق الاجتياح الأميركي عام 2003، ابادةً؟ (بحسب المنسق الانساني للعراق لدى الأمم المتحدة دينيس هاليداي) أو ما “يستحق العناء”، بحسب زعم سفيرة الولايات المتحدة لدى الأمم المتحدة مادلين أولبرايت؟
يعتمد الاعتبار على من يسنّ القواعد.
أهو الرئيس الأميركي؟
أم الأم العراقية التي فقدت طفلها؟
يخبرنا تاريخ المجازر الجماعية أنها ليست انحرافاً، أو شذوذاً أو خللاً في النظام الانساني.
بل هي عادة قديمة مترسّخة في الحالة الانسانية بقدر ما هو عليه الحب والفن والزراعة.
وكانت معظم المجازر ابتداءً من القرن الخامس عشر، جزءاً لا يتجزّأ من بحث أوروبا عن “فضاء العيش”، اي المرادف للمصطلح الألماني “lebensraum” بحسب العالم الألماني في علم الجغرافيا والحيوان فريدريتش راتزل.
وكان ابتكر هذا الأخير كلمة “lebensraum” لوصف ما فكّر فيه كدافع طبيعي مسيطر في الجنس البشري، ليس فقط لتوسيع محيطه بل أيضاً لضمان القوت والاستمرارية.
وفي حين لم يظهر مفهوم “lebensraum” الا في عام 1901، كانت أوروبا قد باشرت بحثها عن “فضاء العيش” الخاص بها منذ أربعمئة عامٍ ، يوم وطئ كولومبس الأرض الأميركية.
في كتابه “ابيد كل الوحوش”، يحاول سفن ليندكفيست أن يبرهن بأن بحث هتلر عن الـ “lebensraum” ، في عالم نحتته الدول الأوروبية الأخرى على قياسها، كان وراء اندفاع النازيين الى الامتداد نحو أوروبا الشرقية ومن ثم نحو روسيا. ووقف اليهود في أوروبا الشرقية وغرب روسيا في وجه طموحات هتلر الاستعمارية. ولذلك، وجب استعبادهم أو تصفيتهم تماماً كما حصل مع الشعوب الأصلية في أفريقيا وأميركا وآسيا.
واذا تسلحنا بهذه القراءة التاريخية، فهل من المنطقي أن نقلق في شأن بلد كالهند، وما اذا كان على عتبة ابادة جماعية؟ هل من الممكن أن تكون الهند التي تلقى احتفاءً عالمياً باعتبارها أعجوبة التقدم والديموقراطية، في طور استعمار نفسها، وعلى حافة ارتكاب الابادة الجماعية؟ يبدو مجرد طرح هذا التساؤل همجياً، واستعمال كلمة ابادة غير مبرر في هذه الفترة من الزمن. ولكن، لو عاينّا المستقبل، فسنجد أن قياصرة التقدم يصدّقون دعايتهم الخاصة، وأن لا بديل من نموذج التقدم الذي اختارونه. فهم تالياً مضطرون الى القتل، وبأعدادٍ كبيرة، بغية الوصول الى هدفهم.
اذا نظرتم الى خريطة الغابات في الهند وثرواتها المعدنية، وإلى أماكن منشأ شعب الأديفازي، لرأيتم أنها متداخلة. مما يعني أن من حسبناهم يوماً فقراء، هم في الحقيقة الأكثر ثراءً.
وفي حين يُحكم الاقتصاد التجاري المعولم قبضته على حياتنا وخيالنا، يتحد المستفيدون منه وينسحبون الى الفضاء الخارجي.
ومن فوق، يتطلعون الى الأسفل، الى الغابات والأودية النهرية حيث يعيش الفقراء، ويرون شعوباً فائضة، مستقرة على موارد ثمينة.
فيحتارون في أمرهم ويتساءلون:
ماذا تفعل مياهنا نحن في أنهارهم؟
ماذا يفعل قصديرنا نحن في جبالهم، وحديدنا الخام نحن في أوديتهم؟
خصص النازيون كلمة محددة لوصف الشعوب الفائضة: uberzahligen” “Essen ، أي الأكلة الفائضون.
بعد مراقبته عن كثب للصراع بين الهنود الأصليين ومستعمريهم الأوروبيين في شمال أميركا، يقول فريدريتش راتزل إن “الكفاح من أجل فضاء العيش” هو كفاحٌ مبيد. والابادة لا تعني في الضرورة قتل الشعوب أو ضربهم بالهراوة، أو حرقهم، أو طعنهم بالحربة، أو قتلهم بالغاز، أو بالقنابل أو بإطلاق النار عليهم (باستثناء بعض الأحيان وبالتحديد حين يحاول الشعب القتال، اذ يسمّى عندها “ارهابياً”).
تاريخياً، كان نقل الشعب من موطنه، وتجميعه كالقطعان، وقطع الماء والغذاء عنه، أكثر أشكال المجازر فاعليةً، إذ يموت الناس من دون أي عنفٍ ظاهرٍ، وغالباً بأعدادٍ أكبر بكثير (من اعداد ضحايا المجازر).
هذا ما حدث بالضبط في تشرين الأول 1904، يوم أباد الجنرال الألماني أدولف ليبريشت فون تروتا شعب الهيريرو في جنوب غرب أفريقيا.
وكتب سفن ليندكفيست: “وضع النازيون نجمةً صفراء على معاطف اليهود وجمعوهم ضمن “محميات”، تماماً كما حصل للهنود، وشعوب الهيريرو، والبوشمان، والأمنديبيل وكل أطفال النجوم الذين جُمعوا بعضهم مع البعض. وماتوا من تلقاء أنفسهم بعدما قُطع الغذاء عنهم”.
تشير أمرتيا سين، الى أن المجاعة شبه مستحيلة في ظل نظامٍ ديموقراطي. حسناً فلنستبدل المجاعة العظيمة في الصين بسوء التغذية العظيم في الهند. (نشير هنا الى أن الهند وحدها تحوي ما يفوق ثلث نسبة الأطفال الذين يعانون سوء التغذية في العالم وعددهم خمسة وسبعون مليون طفل).

في دانتيوارا، في مقاطعة شاتسغار، التي تحوي أجود أنواع الحديد الخام في العالم، تم اخلاء 644 قرية وتهجير 50.000 شخص الى مخيمات رثّة تابعة للشرطة، حيث اختارت الشرطة الأصغر سناً من بين المهجرين، ومُنحوا السلاح ودّربوا ليصبحوا ميليشيا شعبية ماكرة اسمها سلوا جودوم. أما الـ300.000 الباقون فهم غير ظاهرين على رادار الحكومة ولا أحد يعرف حقاً كيف يعيشون. وصبغت الشرطة كل من ظلّ خارج المخيمات بوصمة الماويين أو المتعاطفين مع الماويين، الأمر الذي يجعلهم أهدافاً شرعية لعمليات القتل الهندية.
ولا تزال قوات الأمن تتمركز في انتظار انتهاء هطول الأمطار.
ومع توافد الأخبار شيئاً فشيئاً، يبدو أن القتل والموت واغتصاب النساء، وهو شكل لا مفر منه في السياسة الحربية، قد بدأ حقاً.
كيف انتهى بنا الأمر على هذه الشاكلة؟
منذ عشرين عاماً، في شتاء 1989، شهدنا جميعاً لحظة سقوط حائط برلين وتوحيد هذه المدينة. لكننا علمنا في الوقت نفسه أن المطارق التي هدّمت الحائط كانت وليدة حرب أخرى تدور في اقاصي جبال أفغانستان الخشنة، حيث انتصرت الرأسمالية بعد جهادٍ طويل على الاتحاد السوفياتي. وفي غضون أشهر من انهيار الاتحاد السوفياتي وسقوط حائط برلين، قامت الهند بعدما عُرفت تاريخياً بانتمائها الى حركة عدم الانحياز، بقلب مسارها سريعاً وتوحدت كلياً مع الولايات المتحدة، ملكة العالم الأحادي الجديد.
فجأةً، تغيرت قواعد اللعبة في الهند بشكلٍ تام. لم يتخيل ملايين الاشخاص وبعضهم من الذين يعيشون في القرى البعيدة وعميقاً في قلب الغابات العذراء، ومنهم من لم يسمع ببرلين أو بالاتحاد السوفياتي من قبل، لم يتخيلوا كيف يمكن أن تؤثر أحداثٌ كهذه وقعت في مناطق بعيدة جداً، على حياتهم. أُلقي الاقتصاد الهندي مفتوحاً أمام الرأسمال العالمي، ففُكّكت القوانين الحامية لحقوق العمال وحلّ علينا عصر الخصخصة والتعديل الهيكلي.
أصبحت اليوم مصطلحات كـ”التقدم” و”التطور” مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالاصلاح الاقتصادي وعملية إلغاء القوانين المنظمة والخصخصة. وأصبحت “الحرية” تعني “الخَيار”، ولها في ماركات العطور أكثر مما لها في الروح الانسانية.
لم تعد “السوق” هي المكان الذي تزوره لتشتري حاجاتك، بل أصبحت فضاءً بدون حدود جغرافية، تقوم شركات تجارية مجهولة الوجه بممارسة أعمالها فيها، بما في ذلك شراء “المستقبل” وبيعه.
أصبحت “العدالة” تعني “الحقوق الانسانية”، أو أحياناً بعض هذه الحقوق.
ان نهب اللغة هذا، اغتصاب الكلمات، ومن ثمّ اطلاقها كأسلحة واستخدامها لتمويه النيات وتشويه المعاني الأصلية والتقليدية التي تدلّ عليها فعلياً، فذلك من أشدّ الانتصارات الاستراتيجية ذكاءً في التوزيع الجديد.
وقد سمحت لهم هذه الاستراتيجيا بتهميش منتقديهم، وتجريدهم من اللغة التي تساعدهم في توجيه انتقاداتهم، ونبذهم في المقابل على أنهم “ضدّ التقدم”، “ضدّ التطور”، “ضدّ الاصلاح”، وطبعاً “ضدّ القومية”، وهذه أسوأ أنواع الأضداد الممكن اطلاقها.
لمن ينادي بإنقاذ نهر وحماية غابة، يجبهونه بالقول “ألا تؤمن بالتقدم؟”.
للناس الذين غرقت أرضهم بالخزانات والسدود، وتُمحى منازلهم، يسألون “ألديك نموذج بديل للتطور؟”.
ولهؤلاء المقتنعين بأن الدولة مجبرة على تأمين أسس التربية والصحة العامة والضمان الاجتماعي للشعب، يقولون “أنت ضدّ السوق.” ومَن غير المختلّ عقلياً ليقف في وجه السوق؟
نحن ككتّاب، نجتهد في حياتنا لتقليص المسافة بين الفكرة والتعبير، ساعين لإعطاء شكلٍ لأفكارنا الأكثر حميميةً وبدائية.
أما لغة التقدم الجديدة هذه فتفعل العكس تماماً: فهي مصمَّمة للغش ولاخفاء النيات.
هذه اللغة المسلوبة قد تكون الحجر الأساس لخرابنا.

فيما كنت أحاضر أخيراً أمام حضور متوتر في إحدى جامعات اسطنبول (سبب التوتر إستعمالي لكلمات مثل الوحدة، والتقدّم، والإبادة، والأرمن التي، عند جمعها في حديث واحد، تُغضب السلطات التركية)، رأيت راكيل دينك، أرملة هرانت دينك، تجلس في الصف الأمامي وقد ذرفت الدموع طوال فترة محاضرتي. وعندما انتهيت، عانقتني وقالت لي: “نحن نحافظ على الأمل”.
قالت نحن.
لم تقل أنتِ.
في تلك اللحظة، استذكرتُ كلمات الشاعر الأوردو فايز أحمد فايز التي غنّتها عبيدا بارفين، وحاولت ترجمتها:
“إن أُحبطت الأحلام فعلى التوق أن يحلّ مكانها
إن استحال الالتقاء فعلى التوق أن يحل مكانه”.
ترجمة دلال حرب
كلمة الكاتبة الهندية أرونداتي روي (صاحبة كتاب “إله الأشياء الصغيرة”) في افتتاح مهرجان الأدب العالمي في برلين ، تمثّل وقفة ضمير أمام أسئلة الديموقراطية الراهنة.
النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى