رحيل عمر أميرالاي

حكمة الألم

null
الياس خوري
امس مات عمر اميرالاي. المخرج التسجيلي السوري الكبير الذي انتظر الياسمين يُزهر في دمشق، شمّ ‘رياح الجنة’ التي هبت من افياء تونس وامتدت الى ميدان التحرير في القاهرة، فاكتفى من الياسمين بعطره، ومن ربيع العرب باحتمالاته، فمضى الى موته، بعدما رسم حكاية جيلنا بالضوء والعتمة.
الحوار الذي بدأه عمر مع سعد الله ونوس ومع نهر الفرات، لا يزال مفتوحاً على احتمالات البداية، لكن الموت تسلل الى العينين المتوهجتين بأحلام الحرية، كي يذكّرنا بحكمة الألم.
حوارات عمر مع بلاده وناسه اتخذت منذ اندلاع ثورة الياسمين في تونس بعداً جديداً، وتحوّلت مع ثورة النيل في مصر الى بركان من النور الذي يبدد عتمة هذا الزمن العربي المتكلّس. المخرج السوري الذي تعلّمنا معه كيف نقاوم الاستبداد بالصبر، والحماقة بابتسامة الكبرياء، يمضي اليوم الى حيث يمضي، كي يخبر سعدالله ونوس وسمير قصير ان شجرة الحياة ازهرت في بلاد العرب، وان الفرات لن يتأخر عن ان يُسمع النيل هدير حريته.
‘ ‘ ‘
تعبّر سينما عمر اميرالاي عن اشكاليات مقاومة الاستبداد والسخرية من الزمن. مزيج من الذكاء الحاد والفن الجارح، ورؤية تتشكّل في علاقة الصورة بفن ابداع الحياة. كان فيلمه الأخير ‘طوفان في بلاد البعث’، نموذجاً لاكتمال رؤيته، ودرساً تطبيقياً في كيفية مقاومة الديكتاتورية بالصورة والكلمة. رحلة الى اعماق الجزيرة السورية، وحوار مع الضحايا بلغة الهزء من السلطة والألم الساخر.
فنان لا يستسلم للسهولة، ولا يسقط في فخاخ المتوقع، وعندما رثى صديقه/صديقنا ميشال سورا، رسم جدار الخيبة والمرارة بحنو لامع، وحنان كان يتسلل من شقوق الذكاء الحاد.
كل فيلم تسجيلي انجزه عمر كان حكاية لأنه على غرار عنوان فيلمه الشهير عن الحرب اللبنانية ‘مصائب قوم’، كان ينقسم الى نصفين، نصف للسخرية ونصف للأسى، وفي نقطة تقاطع النصفين تقع حكايته الشخصية التي كانت على شكل ‘حب مخمور’، ترك لسعدالله ونوس ان يرويها في احد اعماله المسرحية التي كتبها خلال حمّى المبارزة الأخيرة بين المسرحي السوري والموت.
‘ ‘ ‘
كان فيلم ‘الدجاج’ ذروة في قدرة السينما التسجيلية على تحويل الواقع الى استعارة. جاء هذا الفيلم القصير بعد فيلمي ‘محاولة عن سد الفرات’، و’يوم في حياة قرية سورية’. المثقف اليساري العائد من غبار ثورة ايار 1968، يكتشف بلاده بعينين جديدتين وبحس نقدي حاد. حوّل عمر التسجيل الى بنية متكاملة. نجح في تحويل عناصر الواقع الى ما يشبه شخصيات قادرة على القبض على الاستعارة الفنية. عمل كروائي من دون رواية، وكرسّام من دون موديل، لكنه استطاع ان يبني شخصيات كبرى لا تنسى، تشبه في الكثير من ملامحها شخصيات الأعمال السينمائية الروائية.
يكفي انه جعل المتفرجين يخافون من الدجاج، محولا الاستعارة الى رؤية بصرية مصنوعة من عناصر الحاضر التي صارت اكثر خيالية من الخيال.
فيلم ‘مصائب قوم’، اكثر اشكالية، لأنه يمزج الخدعة البصرية بخداع الحرب، يكفي ان نتوقف امام المشهد الأخير، حيث ننتقل من غسل الموتى في المشرحة الى دولاب اللعب الذي يدور بالبطل والمتفرجين، ويأخذ الحرب اللبنانية الى احدى اكثر استعاراتها وحشية وهزلا.
‘ ‘ ‘
لكن فيلمه عن سعدالله ونوس يبقى بالنسبة لي شهادة جارحة عن الخيبة والأسى في مواجهة النهاية. صحيح ان الأمل يمتزج بالألم، وان جيل الهزيمة الحزيرانية يرتسم على الشاشة ببهاء معاندة القدر، لكن الموت الذي احتل الفيلم، لا يترك في الذاكرة سوى دمعة المصل وهي تتسلل الى الجسد الهش، وصوت التحدي الذي يخرج من حنجرة افترسها السرطان.
هنا تتجلّى قسوة الحنان، او حنان القسوة. هكذا رسم عمر اميرالاي صورته في مرايا الآخرين، وهكذا تصّور الحياة السورية والعربية في وصفها تراجيديا مقاومة لم تكتمل.
***
حين روى عمر وقائع ذلك التحقيق السوريالي الطويل الذي اخضع له، بعد فيلمه ‘طوفان في بلاد البعث’، تبادر الى ذهني ان المخرج السوري يتمرّن من خلال رواية ما جرى على كتابة فيلم جديد.
وقائع المنع من السفر، وحكاية المحقق الذي تقمّص شخصية الناقد السينمائي وهو يحلل لقطات الفيلم، كانت تثير ضحكنا وعجبنا. لكن عمر لم يضحك. كانت هذه هي احدى المرات النادرة التي لا ترتسم فيها على شفتيه ابتسامة السخرية الشهيرة، التي صارت احدى علاماته المميزة.
كنت اتوقع ان يحوّل حكاية هذا التحقيق الكافكاوي الى فيلم، لكن مخرج ‘الطوفان’ فاجأنا بأن روى عن مشروع فيلمه مع اغراء.
مرة ثانية قرر عمر ان يستعير الآخرين كي يرسم ملامحه في المرايا، فهذا المخرج الذي يتمتع بسلطة مطلقة على الكاميرا، خجول ومتلعثم امام حكاياته.
قال انه سجّل لوالدته ساعات طويلة قبيل وفاتها، وقال انه سيصنع فيلما عن هذه المرأة اللبنانية التي ترملت شابة في دمشق، والتي كانت علاقة عمر بها هي سرّه الحقيقي. لكنه آثر ان يؤجل الكلام عنها الى ما بعد، تاركاً الحكاية من دون نهاية.
‘ ‘ ‘
هذه الكلمات ليست رثاء، فأنا لم اعد احتمل الرثاء. الموت حقنا الأخير في الحياة. وعمر اميرالاي الذي مات في دمشق الشام، ودفن قرب ضريح ابن عربي، ذهب حاملا معه ابتسامته، لكنه قبل ان يموت، شمّ رائحة الياسمين التونسي، ورأى حلم مصر يتفجر غضبا وثورة، ففتج يديه في انتظار ان يتفتح ربيع العرب في دمشق، ومات.
وداعا ايها الصديق.
القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى