صفحات العالمما يحدث في لبنان

الاستقرار السياسي في لبنان وتطوير الدولة

سليمان تقي الدين
بلغت المديونية العامة للدولة اللبنانية الخمسين مليار دولار منذ العام 1990 . ورثت الحكومات المتعاقبة ديناً لا يزيد على المليار ونصف المليار من آثار الحرب والإنفاق على تسليح الجيش في صفقات مشبوهة . أرقام المديونية موزعة على النحو التالي: أقل من خمسة مليارات صرفت على البنية التحتية من اوتسترادات وجسور ومرافق عامة . إحدى عشر ملياراً هي ديون مؤسسة كهرباء لبنان التي تقوم الدولة بتسديد عجز ميزانيتها . أكثر من ثمانية عشر ملياراً ذهبت إلى مجموعة من المصارف كفوائد على الدين العام وحركة تقلب العملات . لكن الدولة قامت بجباية أكثر من مائتي مليار دولار خلال هذه السنوات وذهب إنفاقها الأساسي على مؤسسات الدولة الأمنية والإدارية . وهناك مليار ونصف المليار أنفق على صندوق المهجّرين، ومثلهما على صندوق الجنوب وعلى الهيئة العليا للإغاثة . هناك مصادر هدر استمرت في مؤسسة الضمان الاجتماعي والانفاق على السياسية الصحية والشؤون الاجتماعية . وهناك إنفاق طاول ترميم الأبنية المدرسية والمؤسسات الحكومية والجامعة اللبنانية في الحدث وتجهيز مطار بيروت والمدينة الرياضية والاوتوستراد العربي بين بيروت ودمشق وتوسيع الطريق الساحلي اللبناني . لكن المرفأ البحري في بيروت والمرافئ الأخرى لم تحظَ بأية رعاية في صور وصيدا والجية والدامور وجونية وشكا وطرابلس . لم ينجز مطار الرئيس رينيه معوض في الشمال (القليعات) ولا مطار البقاع (الرياق) . لم تجدد سكة الحديد، ولا طبعاً معامل الطاقة الكهربائية وباستثناء سد شبروح في كسروان لم ينجز المخطط الواسع لنشر السدود وتوفير الطاقة المائية للري ولإنتاج الكهرباء .
ما زالت الدولة تنفق ميزانية كبيرة على الخدمات الاجتماعية لكن من غير تنظيم، فما زالت نسبة الجدوى والمردود ضعيفة خاصة في الصحة والتعليم الرسمي . بعد عشرين سنة من وقف الحرب لم تضع الدولة يدها على أملاكها العامة البحرية والنهرية التي جرى التصرف بها من قبل النافذين .
تفاقمت ظاهرة المركزية الإدارية بعد الحرب والاستقطاب المديني . أكثر من نصف سكان لبنان يقطنون المدن وضواحيها القريبة . النقل العام ظل دون الحاجات الأساسية، المحروقات تشكل جزءاً من مداخيل الدولة الأساسية .
انشأت الدولة شركتين للهاتف النقّال وأعطت امتيازهما لمجموعة نافذة فجرى استخدام اشتراكات المواطنين لتمويلهما وحققا أرباحاً طائلة . استردت الدولة رخصة الشركتين بعد التعويض وما زالت بعض الأوساط تسعى لتخصيصهما .
خلال السنوات العشرين الماضية زادت كلفة الصناعة والزراعة وأعبائهما فتقلصت فرص تطويرهما . تراجع هذان القطاعان لمصلحة تضخم هائل في حركة قطاع البناء وقطاع الخدمات والسياحة والمصارف . القطاع التجاري اللبناني هو القطاع الجاذب بسبب حرية الاستيراد وتبادل العملات . زادت ودائع المصارف أضعافاً حتى بلغت حوالي المائة مليار لكن سياسة الإقراض ما زالت محافظة جداً . ليس هناك مصارف متخصصة تساهم بالتنمية . وحدها القروض السكنية عرفت بعض التطور المحدود لكنها لم تعد تتوافق مع حجم ارتفاع أسعار العقارات والأبنية .
نص اتفاق “الطائف” على بند ميثاقي أساسي صار في مقدمة الدستور لمصلحة اللامركزية الإدارية والتنمية المتوازنة . حكومات ما بعد “الطائف” لم تتناول هذا الموضوع أبداً . استبدلت التنمية بشعار الإعمار . كانت سياسة الحكومة تعتقد أن على الدولة فقط أن تطور البنية التحتية وتترك للرأسمال وديناميته أن يخلق فرص العمل والحركة الاقتصادية . آلت هذه السياسة إلى زيادة ملحوظة جداً في اختلال بنية الاقتصاد اللبناني . ظل الإعمار محصوراً في بقع صغيرة وخاصة في العاصمة، وأفرغت الأرياف من سكانها وزادت أعباء الانتقال اليومي إلى العاصمة، ولم تعرف أي منطقة من لبنان مرفقاً حيوياً جديداً يستقطب القوى العاملة . لم تعد الصناعة اللبنانية قادرة على المنافسة، لم تتأمن الطاقة الكهربائية بشكل كامل . المواطنون يدفعون فاتورتين عن الخدمات الأساسية في الكهرباء والماء والهاتف .
فوائد الدين العام السنوية أكثر من أربعة مليارات دولار . يحقق لبنان بعض معدلات النمو لكن نظرية النمو المجردّة لا تفيد أن البلاد في حالة معافاة اقتصادية . هناك مداخيل بسبعة مليارات دولار تأتي سنوياً من الاغتراب . هناك حركة تملك للأجانب فاقت الحدود التي يتوقعها القانون . هناك اقتصاد استهلاكي غير معقول . نصف اللبنانيين يملكون سيارات خاصة، وكذلك الهاتف الخلوي . توسع الحاجات الاستهلاكية تنعكس سلباً على امكانات الاستقرار في لبنان . مستوى الأجور والرواتب متدنٍ جداً . الاستقطاب الاجتماعي حاد في لبنان بعد انهيار الطبقة الوسطى . الفئة الأولى من الموظفين في لبنان لا تستطيع برواتبها أن تستأجر مسكناً في قلب العاصمة . هناك دائرة ضيقة من الشوارع والأحياء الفخمة المحاطة بمجمعات فقيرة وحجرة لفقراء المدينة إلى الضواحي . الفساد السياسي والإداري خطير ومرفق العدالة غير فعال وغير ذي مصداقية . كلفة المعاملات الإدارية والتجارية هي الأعلى في العالم . تضخم المهن الحرة بالقياس إلى السكان يخفض أهميتها .
في المهن الحرة هناك احتكارات أيضاً . شركات الأطباء والمهندسين والمحامين تسيطر على الجزء الأكبر من أعمال ومداخلي هذه الفئات . النقابات العمالية باتت هياكل خاوية من دون قواعد شعبية . لم يسهم انتشار التعليم المهني في تصحيح العلاقة بين التعليم وسوق العمل . لبنان يصدر العنصر البشري الكفء . هو بلد يهدر الرأسمال الأساسي الذي هو الإنسان . كلفة التعليم هي عالية جداً ولكنها الاستثمار الأساسي . يبيع اللبنانيون أملاكهم لتعليم أبنائهم، ويصدرونهم إلى الخارج . في منطقة الخليج وحدها أكثر من نصف مليون لبناني . المغامرون اللبنانيون يقصدون حتى البلدان غير الآمنة حيث تجدهم في العراق وأفغانستان، أما في إفريقيا فحدّث ولا حرج رغم ما تعرضوا له من مضايقات . خسر لبنان في حرب تموز/ يوليو 2006 ما قيمته حوالي ثلاثة مليارات دولار، المساعدات العربية هي التي تولت تغطية القسم الأكبر منها . ارتبط لبنان بتوصيات مؤتمرات باريس الثلاثة، وهي التي قدمت مساعدات وقروضاً ميسرة، لكنها اشترطت تصحيحاً في أوضاع الإدارة وتحديثاً للقوانين ومكافحة للفساد وتفعيلاً لنظام العدالة واستقراراً سياسياً . لم يحصل شيء من هذا .
بيان حكومة الائتلاف الوطني وعد ببعض المعالجات لكن المشكلة الأساسية ما زالت طواعية القوى الطائفية على القبول بمرجعية الدولة . أي وقف التحاصص الطائفي مع أرجحية عنصر الاستزلام على عنصر الكفاءة ومع رفض ومحاصرة لفاعلية هيئات الرقابة والمحاسبة . على مدى ربع قرن لم تنجح محاولة واحدة لمكافحة الفساد . هناك عطل أساسي في تلك المحاولات لأنها اتجهت إلى إقصاء الأشخاص وليس إلى وضع ضوابط قانونية . أصدر رئيس الحكومة الشهيد رفيق الحريري قانونين عند بداية ولايته لتصحيح أوضاع الإدارة ولم يطبقا . حاول الرئيس اميل لحود مواجهة بعض رموز الفساد لكنه استهدف جهة سياسية بعينها وفشل المشروع .
ثمة حاجة لورشة إصلاح شاملة مركزية تتناول كل مفاصل الدولة ومؤسساتها بحيث لا تبدو مرتبطة بتوازنات القوى ولا تُلجم بالاعتبارات الطائفية . من المفيد لو أن الحكومة تنشئ مجلساً أعلى للتخطيط، الوزارة المتخصصة وحدها لا تكفي . وزارة التنمية الإدارية التي تم استحداثها لم تعط صلاحيات على هذا الصعيد، وهناك دراسات هائلة في الإدراج لم توضع قيد التنفيذ ومشاريع قوانين لم تقر . فرصة الاستقرار السياسي والتفاهمات والتسويات عساها تكون مناسبة لتحقيق بعض الإنجازات والتقدم في طريق تحديث الدولة . لكن المسألة تتوقف بالدرجة الأولى على الإرادة السياسية التي لا تبدو حتى الآن جاهزة لإطلاق عملية الإصلاح .
الخليج

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى