رحيل عمر أميرالاي

عمر أميرالاي ترجّل قبل الأوان تاركاً حصاناً لا يستطيع غيره أن يمتطيه

null
قيس الزبيدي: الرواد الملعونون
حينما سمعت الخبر شرقت بالدمع حتى كاد يشرق بي.
أن يرحل النبيل عمر أميرالاي عنّا فجأة بهذه العجالة غير المتوقعة إطلاقاً، فإنه يضعنا في حالة حزن وخوف من المصير المأساوي نفسه الذي ألمّ به.؟ هو نفسه يقول لكم هو «صعب فقدان الأصدقاء والأحبة، لما يرحلوا بيخاف الإنسان من مواجهة الفراغ».
كل من صاحب عمر وعمل معه في صنع أفلام وناضل معه في نشر الثقافة السينمائية وسعى لتهيئة كادر سينمائي عربي يحمل رسالة سينما بديلة في كل الأوطان العربية يسأل نفسه: «هل كنا نحن وإياه من مملكة واحدة؟» لكن عمر وإن كان معنا هنا أو هناك، إلا إنه في سرّه كان يبتغي كما المتنبي: ما ابتغي جلّ أن يُسمى.
ليس عمر أميرالاي التسجيلي الأبرز في سوريا، انه فارس السينما التسجيلية العربية الحديثة، انه واحد من أولئك السينمائيين المُبدعين، الذين ساهموا في صنع تلك السينما التسجيلية التحريضية في العالم، والتي كانت «الساقية الصغيرة، التي توصله إلى نهر الحياة الفسيح، ليصبح هاجسه: كشف بؤس الواقع، علّنا نساهم في تغييره. إنه كما يقول المتنبي: لو كُنت بحراً لم يكن لك ساحل/ أو كنت غيثا ضاق عنك اللّوح.
تجربتي معه في الحياة وفي العمل، تجربة غنية وفريدة، فمنذ البداية شاركته في «الحياة اليومية في قرية سورية» وهو الفيلم «الأسطورة»، الذي يُعد نقطة تحوّل في تاريخ السينما التسجيلية العربية الواقعية التحريضية، والذي رغم العوائق غزا بنجاح غير معهود المهرجانات الدولية. ومن ثم شاركته في أفلام أخرى منها «عن ثورة» و»فاتح المدرس» إضافة إلى عملي الطويل معه في النادي السينمائي في دمشق وفي مشاركتي معه، مثل غيري من السينمائيين أيضا، في معارك «السينما البديلة» التي لا يعرف أحد حتى الآن، أن عمر أميرالاي هو الذي دوّن بيانها السري، الذي لم ينشر، كوثيقة، إلا بين صفوف قلّة من رفاق المعركة. ولا أنسى عملي معه، لأكثر من سنة ونصف، في تجربته الرائدة والفريدة في «المعهد العربي للفيلم» في عمان، التي أثمرت كتجربة نوعية مميزة في تأهيل كادر سينمائي تسجيلي عربي من نوع جديد. ولن أنسى دعمه البارز لي في تحقيق فيلم «محكومون بالأمل» عن صديق صباه سعد الله ونوّس، الذي حقق معه فيلم «الأسطورة».
من هو هذا الأمير الذي أحبه زملاؤه، من دون أن يشجعهم هو على حبه. من هو هذا الأمير الذي كرهه بعض آخر، من غير زملائه، وروّج لكراهيته علناً؟ من هو هذا الأمير، الذي كان يُفاجئنا في الغالب بشجاعته في عمل ما لا يمكن أن يُعمل وفي نشر ما لا يمكن أن يُنشر!
إنه الكبير كما كان للمتنبي يصف أمثاله: إذا كانت النفوس كباراً/ تعبت في مرادها الأجسام.
هل استطعنا حقا أن نكون جديرين بحب هذا الفارس الذي ترجل قبل أوانه، تاركاً لنا حصانا، لا يجرؤ احد غيره أن يمتطيه؟
آه يا عمر: لماذا خدعتنا هكذا ولم تمنحنا فرصة كافية لوداعك. آه يا عمر: لماذا لم يبق لنا بعدك، في هذا الوطن، سوى أن نتعلم منك، علّنا نكون روادا ملعونين!
^يوسف عبد لكي: لمـن تتركنـا
أيها الموت ما أبشعك. تخطف أعزاءنا وضمائر بلدنا، وتمضي بكل صفاقة، كأن شيئاً لم يكن. في بلدنا مئات الآلاف من العسس، والقوادين، وتجار الدم، وتجار العقارات الوطنية، والملايين من وضيعي النفوس، والدجالين وصغار الفاسدين… تترك كل هؤلاء وتخطف عمر! يا للوضاعة!
وتخطفه متى! الآن! الآن ونحن نرى كيف يخرج شعبا تونس ومصر العرب من عصر الظلمات ونفق المهانة! هذه اللحظة المجيدة ينتظرها جيلنا وكل الأجيال منذ أربعين عاماً. شابت رؤوسنا، وانحنت ظهورنا، وتخت عظامنا في السجون والمنافي ونحن ننتظرها. استكثرتَ على صانع الجمال هذا أن يفرح مرّة في حياته!
في أقل من أربعين عاماً صنع عمر أكثر من عشرين فيلماً تسجيلياً طويلاً، وهو رقم كبير في السينما العربية. لأن السينمائي لا يستطيع أن يجلس في غرفة ويصنع فيلماً، مثلما يفعل الشاعر أو الرسام أو الروائي. يحتاج صانع الأفلام إلى تمويل، إلى جهة منتجة. وليس مصادفة أن نرى العشرات من سينمائيي بلادنا الموهوبين ينجزون فيلماً أو اثنين ثم يصمتون على الرغم منهم، لتعسر إيجاد التمويل اللازم لمشاريعهم.
انجز أكثر من عشرين فيلماً، منها ما أصبح علامة فارقة في تاريخ السينما التسجيلية العربية، مثل: «الحياة اليومية في قرية سورية»، و»الدجاج»، و»هناك أشياء كثيرة كان يمكن للمرء أن يتحدث عنها»، ولا يحتاج المرء للكثير من التبصر ليرى أن كل أعماله من الفيلم الأول إلى الفيلم الأخير محكومة بأقنومين: النقد والسخرية. امتلك عمر حساً نقدياً عميقاً؛ كان يمسك بمبضع الجرّاح ويشرّح حياتنا الحقيقية. ولم يؤخذ في أي يوم بالشعارات، والعواطف الوطنية السهلة، والمساومات. عقل بارد موضوعي نقدي وجارح. لذا كانت أفلامه دائماً مزعجة للسلطات والرقابات، وليس مصادفة أن فيلمه الأول ممنوع من العرض في بلده سوريا (مثل كثير غيره) منذ أربعين عاماً. غير أنه إلى جانب ذلك كان يشع من أفلامه دائماً عطر السخرية وذكاؤها. سخرية هادئة عميقة… وجارحة بدورها. ومن يعرف عمر يعرف أن ذلك كان هو. هو بعينه. رجلاً ذكياً، يقظاً، نقّاداً… وساخراً في الآن نفسه. كم كان بديعاً أن ترى تلك المعادلة شبه المستحيلة التي تتلخص في وحدة الكائن: الوحدة بين شخصه وعمله. كم كان بديعاً أن تراها في عمر.
في أحد الأيام صور فيلماً عن رجل سياسة لبناني يجمع بين المال والسلطة. ذهب عمر إلى التصوير ورأسه كالعادة مليء بآرائه النقدية عن الظاهرة، وأثناء العمل تعاطف انسانياً مع الرجل، وعرف أن الخمسين ساعة التي صورها والتي ستتحول إلى ٥٢ دقيقة عرض لن تتضمن الحقيقة. احتار طويلاً، وقلّب في رأسه كل الحلول، وأخيراً لجأ إلى ثلاثة أصدقاء من المثقفين اللبنانيين النقديين ليتحاوروا، ليقولوا بالكلام ما لم يستطع هو أن يقوله في الصورة. فأي ضمير حي هو هذا. لا يباع ولا يشترى.
لم يخفِ عمر في أي يوم وقوفه مع أبناء شعبه وسعيهم لتوسيع هامش الحرية في حياتهم، ولم يهادن في ذلك، كان جزءاً من حراك النخبة في سبيل حياة أخرى، حياة تتوفر فيها لقمة كريمة، وتعدد سياسي، وحرية قول. وبقي كذلك بهدوء من دون ضجيج، ومن دون افتعال معارك، ولكن بصلابة، ولم يقايض على ذلك في أي يوم، وفيلمه الأخير «الطوفان» دليل لمن يريد أدلة.
لمن عرف عمر عن قرب يعرف فيه ذلك الفتى الوسيم، الممشوق، الأنيق الكلام، وكانت أفلامه على شاكلته أناقةً، إذ على الرغم من شراسة نقده كان صانع أفلام جميلة. لذا يحار المرء بهذا الزائر الهمجي الذي لا يعرف العدالة! إذ كيف يخطفه ويخطف جوزيف سماحة وسمير قصير وفواز الساجر ومارون بغدادي ويترك إشارات القبح في حياتنا وعلى قلوبنا من زعماء عشائر، ورؤساء خالدين، وملوك مهترئين، وأمراء طائفيين، ومثقفين مأجورين، وحثالات من كل صنف ونوع.
أيها الموت ما أبشعك.
^ هالة محمد: منطقـة مظلمـة بـلا خيـال
رسمتُ الكثير من السيناريوهات في حياتي للحظة موتي. لكنني لم أتخيل أبداً لحظات موت أحبتي.
كانوا يموتون في منطقة مظلمةٍ بلا خيال، فتشتدّ رهبة أحزاني ووحشة الدنيا.
وها أنت يا «عُمر» تُجبرني على هذا الخيال.
مات عُمر أميرالاي. يجب أن يردِّدها المرء كثيراً ويسخر من الدنيا.
نصل بيته في ساحة عرنوس في دمشق أسامة شقيقي صديق عُمر «عُمَرْ « وأنا.. لنرى الأصدقاء شباباً وشيباً ملمومين بلا عُمر.
ونسمع من بعيد في منافي الأرض وأوطانها، من يبكيه من الأصدقاء.
سيطلّ باسماً حُكماً، ثم ستضحك ابتسامته بذكائها ومعانيها وسنفرح معاً قبل أن نبدأ الكلام؟
يطول الصمت. من يستطيع أن يُعزّي بعُمر! كيف نُعزّي أنفسنا بموت أحد أجمل الحالمين!
ماذا نقول! وقد ماتَ حلمٌ من أحلامنا وتركنا عُزّلاً حتى من السخرية على أنفسنا.
مات جميلُ الروح بهيّ الطلة، النزيه المبدع الواثق الشريف العصاميّ المثقف الحرّ والمستقلّ.
ماتَ الطليعيّ الجـريء مُحبّ الحيـاة والمُعارض
عمر أينما حلّ هو نسمة من نسمات التغيير. ونافذة مشرّعة لهبوب الحرّية والأفكار الجريئة والصادقة.
ميزان عدالة بين الأصدقاء المتصارعين في اختلافاتهم على الآراء والأشخاص. في غياب الأطراف الغائبة، عمر لا يتآمر، يكون حادّاً في بحثه عن الحقيقة وفي التماعة طريقته في البحث عنها في عقله مشاركاً عقل الآخر، فيصيب بعدوى الجمال.
كنا نحكي يومين قبل رحيله عن ثورتي تونس ومصر، عن الشباب الذين نزلوا إلى الشارع دفاعاً عن كرامتنا. وهو كان يقول إنه «تدرّبَ» على الثورة في أحداث الـ 68 في باريس.
في طريق عودتنا من اللاذقية أسامة وأنا بحثاً عن «عُمر»، تأمّلنا كم كان مخلصاً لحياته.
اشتغل السينما التي يُحبّ، وقال الأفكار التي يؤمن بها، وسلك السلوك الذي يشبهه. لم يثنه المنع، زاده تأملاً وعمقاً وجرأة وسخرية. ورغم أنه مؤسس سينمائي تسجيلي في الوطن العربي، ورائد في هذا المجال، وصانع رياح تأثير وتغيير في السينما التسجيلية العربية. ورغم أنه كان عالمياً منذ زمن بعيد، وتعرض أفلامه في أوروبا، ويؤمن بقدراته الممولون الكبار للسينما التسجيلية العربية والعالمية، إلا أنه لم يتحوّل إلى مناضل مدّاح لذاته. سخر من هذا النوع من السلوك، وصداقته مع الشباب كانت البعد العصري والواقعي لثقته بالتغيير.
تنظرُ صورة «أم عصمت»، أمـــه، التي رحلت السنة الفائتة. سبقته لتحفظه خارج الموت. تتفرّس وجوه الأصدقاء في صالون بيته، فنخفي عنها النبأ.
يطول الصمت، ومن يستطيع أن يُعزّي بزين الرجال.
ابتسامة وبكاء طالع من جذور الضمير يهبّ في صدري.
^ إحسان عنتابي: «ما بدو شي من الدنيا»
وداعي لك يا عمر سيكون ثرثرةً اعتدنا عليها حين كنا نطوي معاً شوارع دمشق المقفرة في أمسيات شتائها البارد من العام 1965. توصلني إلى بيتي ثم أوصلك إلى بيتك، ثم نعود للبدء. كان يصعب علي فراق صحبتك المرحة وخيالك الخصب في ابتكار النكات وصدى الضحكات ترافقنا إلى يومنا التالي.
أتذكر يا عمر حين علا صوتك ببعض من الغناء الأوبرالي في مرسم السنة الأولى لكلية الفنون الجميلة. تسمّرنا جميعاً ننظر إليك وفي أنفسنا شيء من الغيرة. ما لهذا الشاب؟ موهبة في الرسم وأيضاً موهبة في الصوت، وظرف نادر. وسامة وعضلات مفتولة.
في منزلك الصغير الدافئ نلتقي والدتك لتحيل المكان فضاء من الحرية والغبطة نستعرض فيه رسومك الصحافية، تقنيات قلم الرصاص، الحبر الصيني والألوان المائية. ليبدأ النقاش والسجال بعدها، فقد عرفت الحياة المهنية قبل دخولك الكلية.
حين سألك الأستاذ ناظم الجعفري أثناء رسمنا لطبيعة صامتة وضعها لنا «من أين أتيت بتلك الظلال يا بني؟»، أجبته بهدوئك المعهود «من بيتي». عندها ثارت ثائرة الجعفري وأصبحت وإياك من الطلبة العاقين وطردنا من رعايته، عندما عاتبتك على جوابك هذا، قلت لي «تأمل سينما الأسود والأبيض الكلاسيكية. انظر إلى تنوع الظلال وقدراتها التعبيرية. هناك منابع للنور وليس منبع واحد».
أدركت حينها أن في رأس عمر موالاً آخر. لم يكن ليقبل عزلة المرسم, أراد عملاً إبداعياً يشترك به مع الآخرين، ويتوجه إلى أوسع شريحة من الناس. كان الظلم هاجسه الذي لم ينقطع أبداً.
«سوف أسافر يا إحسان»، أجابني، «ستكون شاشة السينما لوحتي الجديدة».
في باريس (1969- 1970): أرجوك يا عمر. لقد داهم الأمن الأستوديو أكثر من مرة يبحثون في الكتب والأوراق ويسألونني عنك وعن علاقتي بك مع بعض الشتائم المهذبة. وأخشى أن يرمونا خارج فرنسا.
كان يقضي أيامه في شوارع باريس إلى جانب ثورة الطلاب آنذاك، التي اندلعت قبل عام مضى. ليعود بعدها منهكاً إلى القراءة ومشاهدة أفلام السينما بنهم كبير، مقتنعاً بالقليل من الغذاء النباتي، تاركاً لروحه فسحة أكبر من التأمل والتفكير.
أتذكر يا عمر الاستديو الذي شغلناه سويا. خضنا معاً تجربة الحياة والموت. وكنت يا عمر نبيلاً في إنقاذ حياتي. وأنا أغادر المشفى لم نتوقف عن الضحك الذي آلمني آنذاك.
لم يفقد أبداً مرحه ودعاباته الذكية، قال لي مرة فاتح المدرس «غريب ها العُمَر ما بدو شي من الدنيا»!
هل توافقني الرأي؟
قلت نعم أوافقك. وأضاف كانت مسافته من الدنيا العطاء لا الأخذ.
عمر كان عمله. وعمله كان حريته.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى