رحيل عمر أميرالايمحمد علي الأتاسي

عمر أميرالاي يتحدث عن بلد اسمه سوريا الأسد في “الطوفان”: دمّـرنـا الـحـقـائـق فـي الـسـابـق كـي لا نـضـطـر الـى مـواجـهـتـهـا

null
فـلـنـتـرك لـلـضـحـايـا الـحـق فـي أن يـكـونــوا ضـحــايـا
محمد علي الاتـاسي
يعود المخرج عمر أميرالاي في فيلمه التسجيلي الجديد، “الطوفان”، الى الواقع السوري بعد غياب استمر ربع قرن تقريباً. فبعد فيلمه الاول، “محاولة عن سد الفرات”، في العام ،1970 أنجز عمر أميرالاي فيلمي “يوميات قرية سورية” و”الدجاج” عن بلده سوريا، ثم انقطع عن هذا الواقع، وقادته تجربته السينمائية الى تناول موضوعات شتى في بلدان مختلفة، ولكن دائماً من خلال رؤية نقدية جارحة وخاصة، جعلت منه أحد رواد السينما التسجيلية الطليعية في العالم العربي.
كارثة إنهيار سد زيزون وتشقق سدين آخرين واحتمال مواجهة بقية السدود السورية المصير نفسه، دفعت بالمخرج الى أن يعود بكاميراته ليتفقد المكان الذي قادته اليه في أحد الايام، كما يقول، حماسته الشابة التي تؤمن بتحديث بلده سوريا بأي ثمن، وحتى “لو كان الثمن تكريس فيلمي الاول للاشادة بأحد منجزات حزب البعث الحاكم: بناء سد الفرات” (من مقدمة فيلمه الجديد).
لكن عمر أميرالاي لا يلبث ان يستخدم سد الفرات واحتمال انهياره كمجاز ينطلق منه لمعاينة الواقع السوري اليوم من خلال قرية تقع في حوض الفرات اسمها قرية الماشي يستخدم المخرج مدرستها، بمديرها واساتذتها، كعيّنة عن العلاقة التي تربط حزب البعث بالمجتمع السوري اليوم. يقول عمر اميرالاي في مقدمة فيلمه: “حول بحيرة الاسد يمتد اليوم بلد اسمه سوريا الاسد. من سوريا الجديدة هذه اخترت قرية. هذه القرية وأهلها وحتى بئر الماء فيها اسمها الماشي. قرية يحكمها شيخ عشيرة هو نائب في مجلس الشعب يعاونه إبن أخيه مدير المدرسة ومسؤول الحزب. انها في عبارة اخرى عيّنة من بلد يحكمه حزب البعث منذ اربعين عاماً من دون منازع”. اذا وضعنا جانباً النقد الراديكالي الذي يوجهه أميرالاي في فيلمه الاخير لعسكرة المجتمع وللدور التسلطي الذي يلعبه حزب البعث في واقعه المحلي، فإن هذا الفيلم يطرح من الناحية الفنية  سؤال العلاقة بين الصورة والواقع  ومنزلة الفيلم التسجيلي بين التوثيق والخلق.
يعتبر المخرج الفرنسي جان لوك غودار ان “كل الافلام الروائية الكبيرة تميل الى التسجيلي، وكل الافلام التسجيلية الكبيرة تميل  الى الروائي”. فيلم عمر أميرالاي الاخير ينتمي بالتأكيد الى تلك الفئة من الافلام الوثائقية التي تسمّى في عالم الفن السابع “الفيلم التسجيلي الإبداعي” (Documentaire de creation)، ولكن هذا لا يمنع من أن نعيد عليه طرح الاسئلة الاولية عن علاقة شخوصه بالواقع. هل يعتبرهم ممثلين أم شخصيات حقيقية؟ وهل وافقوا سلفاً على أن يصنع المخرج بصورهم ما صنع؟
في النهاية، ورغم التحفظ الذي يتملكنا عن العديد من الخيارات الفنية التي يلجأ اليها عمر أميرالاي في فيلم “الطوفان”، فلا يمكن الا ان نحترم فيه الشجاعة التي قادته الى طرق مثل هذا الموضوع الشائك وفي هذا الوقت بالذات.
nانت من رواد الفيلم التسجيلي في السينما العربية،  كيف ترى علاقة هذا النوع بالواقع المعيش؟ وما الذي يميزه حقيقة عن الفيلم الروائي؟ واين ينتهي الجانب التوثيقي في افلامك ليبدأ الروائي؟
– لنتفق اولا على ان عصب التعبير في الفن هو الدراما، سواء وجدت هذه الدراما في الواقع نفسه، ام  نشأت من احتكاك المبدع بهذا الواقع. المقصود بالدراما هي الحياة طبعا، بحكاياتها وصراعاتها ومصائر شخصياتها، ولا اظن واقعا في الدنيا يفتقد مثل هذه المقومات الاساسية في حيوات الناس. من هنا تجدني احرص على الامساك بهذا العصب دائما لأنه في نظري كشّاف الحقائق بلا منازع.
ان مجرد اختراق السينمائي سطح الواقع المحض، بحثا وتفسيرا وترجمة لاوالياته الدرامية، هو بمثابة عبور لعتبة هذا الواقع الوثائقية، وولوج في عالمه الروائي من بابه العريض.
تبقى مسألة البحث عن الحقيقة ومن اركانها الظن، في رأيي، وانا امارس هذا الظن كفضيلة، لا كإثم، كما يريده المسلّمون (بتشديد اللام) بمنزل الحقائق والاشياء. فكل حقيقة راهنة هي مشتبه بها وملتبسة ونسبية ما لم يخضعها الوعي الانساني والتاريخ لقانون محاسبة ما!
وهذا الامر ينطبق على السينما ايضا. فما كان في وقت من الاوقات وثائقيا، اصبح اليوم افتراضيا بمجرد انتفائه من الواقع، وما كان افتراضيا اضحى اليوم اكثر من واقعي، كأفلام الخيال العلمي مثلا.
لذا، فأنا اعزو سبب تماوج افلامي بين التسجيلي والروائي الى نزعة متأصّلة عندي لمماحكة الشك ومداعبة الالتباس.
دجل فني
n هل ترى في “الفيديو آرت” دمقرطة لفن السينما ام تهديدا له؟ الا تعتقد ان فن الفيديو يتيح لأعداد متزايدة من الشباب التحرر من ثقل البنية الانتاجية الضخمة والمكلفة للانتاج السينمائي او التلفزيوني، وبالتالي من انتاج افلام بموازنات متواضعة، ولكن ذات قدرة عالية على النقد الاجتماعي والسياسي، وحتى على نقد الصورة السينمائية او التلفزيونية من خلال منطق الصورة نفسه؟
– كلمة فيديو باللاتيني تعني “انا ارى” وليس “انا ابدع”، وشتان طبعا بين المعنيين.
اما “الفيديو آرت”، فيشبه في فورته ظواهر اخرى سبقته في يوم من الايام، نتيجة “دمقرطة” وسائل التعبير البصرية والسمعبصرية، وحاولت دخول محراب الفن ولم تفلح. والدليل على ذلك السينما التجريبية في نهاية الستينات، التي طواها النسيان بعدما عجزت عن ان تضيف شيئا يذكر الى الفن السابع.
ان الصخب الدعائي الذي يروّج اليوم لظاهرة “الفيديو آرت” لا اساس له، وينطوي مع الاسف، على قدر كبير من الدجل الفني والتكريس القسري لأعمال تبعث فعلا على اليأس. ولا اغالي إن قلت ان احسن ما رأيته من ابداع هذا “الفن” لا يضاهي في قيمته الفنية لقطة ذكية في فيلم سينمائي جيد. لذا لا استبعد ان تتحول هذه الصرعة الى حالة افتراضية كما هو مضمونها.
هذا لا ينفي طبعا ان هناك افلاما تسجيلية مصورة بتقنيات الفيديو تجاوزت عتبة الفن السينمائي واصبحت جزءا منه. لكن هذه الاعمال من وجهة نظري تنتمي بالكامل الى المطبخ الفني للسينما. في المحصلة لا بد لأي عمل طليعي يريد تجاوز السائد ان يمتلك المعرفة السينمائية اللازمة، لأنك لا تستطيع ان تخلق شيئا من اللاشيء، ولا بد من امتلاك الزاد المعرفي والتجربة الحياتية والفنية الضرورية لذلك. في المحصلة، فإن الدمقرطة الحالية لوسائل التعبير السينمائي وادواته لا تكفي وحدها لانتاج فيلم جيد، ويظل العبء الاساسي ملقى على عاتق المخرج.
n  هناك ظواهر فنية جديدة في مدن مثل بيروت والقاهرة تحاول ان تحاكي تجارب الفن المفهومي والتجهيز و”الفيديو آرت” في الغرب، لكنها في الكثير من الاحيان تعيش غربة حقيقية وقطيعة مكرسة مع هموم واقعها المحلي وتحدياته، بحيث يكون جل ما تقدمه في النهاية فنانين “معدين للتصدير الخارجي” فقط. حالة تشبه في جوهرها، اذا جاز القول، معامل تصنيع الاحذية الرياضية ذات الماركة العالمية القائمة في دول النمور الآسيوية والتي تصدّر بضاعتها بشكل اساسي الى اسواق اوروبا واميركا. ما رأيك في هذا القول؟
– مرة اخرى يسعى الغرب الى تكريس كل ما يشبه ثقافته عندنا، لتأكيد موقعه المهيمن كقطب حضاري اوحد في عالمننا المعاصر، وهذه حقيقة لا يستطيع المرء انكارها او تجاهلها. لقد تعوّد الغرب ان يوفد من وقت الى آخر عرابين الى المنطقة، من مسؤولي متاحف ومنظمي معارض، بقصد اكتشاف “مواهب” تمارس آخر فنونه، وتتبنى شبابا اغرارا جذبهم التقليد والمحاكاة السطحية لتعبيرات فنية هي من نتاج تطوره الطبيعي. وصاية من هذا النوع تسلب واقعنا حقه في ان يكون غارقا في “عصر ما قبل الحداثة” مثلا. ولم لا؟ انهم يقررون سلفا ومكاننا ان لدينا فنا “ما بعد حداثوي”، ونحن لم ندخل بعد عربة الحداثة! يستكثرون علينا ان نشبه انفسنا حين ينكرون علينا فننا كما هو، وليس كما يشتهونه.
قررتُ أن أغنّي موالي
nيبدأ فيلمك الجديد، “الطوفان”، بصور حزينة وخلابة احاول قراءتها من منظور علاقة الانسان كجسد وذاكرة بالارض/ الجسد والتاريخ. صور تحيلنا على بداياتك السينمائية في التعامل مع المجتمع السوري من خلال فيلميك، “الحياة اليومية في قرية سورية”، و”الدجاج”. لماذا عودتك المتجددة الى موضوعات صبغت بطابعها بدايات مشوارك السينمائي؟ وما الذي تغيّر خلال هذه المدة الطويلة (ربع قرن) في عمر اميرالاي، وفي عمر المجتمع السوري؟ واين احلامك واوهامك من زمننا الحاضر؟
– بين فيلمي “الدجاج” و”الطوفان” مسيرة ربع قرن من الانزلاق التدريجي والحثيث لسوريا نحو العبث وحافة اليأس. انها ثبات صورة عائلية شاحبة لـ18 مليون انسان تخشبت ابصارهم امام عدسة المجهول. طبيعة صامتة لجرود قاحلة تغرّد فيها، من حين الى آخر، طيور برية رائعة. والنتيجة؟ بلد معذب، متعب، هدّه الصبر والامل بفرج قريب.
هجرتُ لسنين طويلة تصوير الواقع السوري لسبب اجهله صراحة، وإن كنت قد طرحت على نفسي هذا السؤال مرارا، تخففا ربما وليس بحثا عن جواب. لا شك ان للرادع الامني الذي صار متأصلا في لا وعي الفرد عندنا دورا ما في هذه المسألة، لكن ثمة عاملا آخر اظنه كان وراء ثنيي عن التحرش بهذا الواقع، وهو خشيتي ربما من ان يكشف العمل الفني صورة العجز المشين الذي نتخبط فيه جميعا، مثقفين وفنانين ومعارضين سوريين، ويفضح استقالتنا المفجعة امام رؤية خراب بلادنا.
واليوم، لا يكفي ان نسلّم بأهمية التحرك المدني المعارض الذي نبا مع بداية العهد الجديد ثم خبا فجأة، ليس بفعل قمع السلطات له فقط، وانما ايضا لسلسلة من العلل المزمنة التي تشل المعارضة في سوريا، اولاها اخفاقها المتكرر في وضع صيغة مشروع وطني ديموقراطي موحد للبلاد، وصولاً الى الوقوع في عدوى الصرع القومي الذي اصاب العديد من رموزها عشية حرب العراق الاخيرة واثناءها. لذا، وعلى خلفية غياب وجود فعل جماعي مقاوم يتصدى لمرض الانتكاس الخطير عند السلطة والمعارضة على حد سواء، قررت ان اغني مواليّ الشخصي فكان فيلم “الطوفان”.
مسرحة الواقع
n شخوصك في الفيلم الاخير تبدو صنمية، تتحرك كدمى في منظومة قمعية لا تفعل شيئا سوى تحطيم الذات الانسانية لهذه الشخصيات، واعادة انتاجها بشكل نمطي ميكانيكي داخل بوتقة جمعية تلغي عنها كل امكان للتعبير الحر عن  فرديتها الانسانية، حتى يخال المرء اننا في عالم جورج اورويل وروايته الشهيرة “1980”. الا تعتقد انه مهما بلغت درجة القمع والسيطرة على حيوات الناس، فان هؤلاء قادرون يوما في احلك الظروف، على ابتداع آليات موازية وخفية للمقاومة والالتفاف على هذه المنظـومة القمعية التي تحاول – واشدد على كلمة تحاول – تأطيرهم؟
– لعلك لم تلحظ جيدا الشكل المسرحي المتعمد في الفيلم على صعيدي تقديم الشخصيات والبناء السردي والبصري له. فهو اذاً خيار لا عفوي ولا شكلاني، وانما اسلوبي يراد به غاية. فمحور بناء الفيلم مجازي، كما اعلن عنه المؤلف في البداية، واكده اكثر من مرة في سياق العمل، وتالياً فإن اي قراءة قصة “واقعية” له، تغفل هذا الجانب، تصبح معرضة حتما لأن تقع في الاستنتاج الميكانيكي الذي توصلت انت اليه.
والسؤال الذي يجدر طرحه هنا: لماذا اختار المخرج ان يمسرح الواقع في هذا الفيلم بالذات؟
اذا سلّمنا بحق الفنان المشروع في اختيار ما يراه مناسبا للتعبير عن ذاته وموضوعه، فإن الذي جنح بي الى اعتماد هذه اللغة الفنية المتقشفة جدا في الفيلم، هو الواقع السوري نفسه في وضعه الراهن وصمته الثقيل.
لغة الفيلم “فوتوغرافية” فعلا، لكن المراد منها حث المشاهد على قراءة ما وراء الشفاه والحركة والصوت. فالسوريون فاقدون، مع الاسف، ملكة النطق والتعبير الحر منذ صادرها منهم الناطقون باسمهم. ويكفي ان يتابع المرء مقابلات التلفزيون السوري مع الناس العاديين، وغير العاديين، ليصعق حيال حجم الدمار الذي لحق بلسان الفرد وبتعبيره خاصة عند الشباب والاطفال.
لذا، فإن شخصيات الفيلم، وبشكل خاص تلاميذ المدرسة، ينطقون بلسان غير لسانهم، وبأفكار غير افكارهم. الصورة صورتهم، والكلام لغيرهم: انه “دوبلاج” رديء لشعب ابتدعه مخرج رديء.
اما رواية اورويل، يا صديقي، فاهميتها وديمومة تأثيرها ليستا بسبب تناولها مقاومة الانسان لظلم اخيه الانسان، وانما، ويا للعجب، ما يسع الانسان ان يفعله بأخيه الانسان! وهذا هو مقصد فيلم “الطوفان”.
n  غالبا ما يُستخدم الاطفال في الافلام السينمائية لاستحضار شيء من البراءة والامل والمقدرة على تعرية الواقع وقول الحقيقة بلغة مبسطة. التلاميذ والاطفال في فيلمك يغدون جزءا اساسيا من آلية عمل هذه المنظومة القمعية. بل انهم في احيان كثيرة متواطئون، رغما عنهم او برضاهم، في منظومة القمع هذه. اذا كان هذا صحيحا فكيف تفسره؟
– افهم من كلامك انه كان  يفترض بي ان اجعل الاطفال ينطقون بالامل، كي لا ينتصر الشر على الخير في النهاية.  ولأنهم ليسوا كذلك في الفيلم، فقد اضحوا في نظرك اطفالا متواطئين في منظومة القمع الذي يمارس عليهم!
هذه الدعوة العجيبة لانتحار الفن على مذبح التفاؤل تعيدني الى ستينات القرن الماضي، حين كانت رؤيتنا للواقع لا تستقيم الا عبر منظار الايديولوجيا وتسويق التفاؤل الكاذب. ويا ويل هذا الواقع إن تجرأ وناقض مسلّماتنا، لأننا كنا ببساطة ننشر عرضه، ونتهمه بخيانة التاريخ، بعد ان ننهال عليه طبعا بوابل من نقدنا الثوري.
لسنين طويلة تجاهلنا حقائق جوهرية، فقط كي لا نعترف بوجودها، وفي بعض الحالات ذهبنا الى حد تدمير هذه الحقائق كي لا نضطر الى مواجهتها. لذا، اناشدك ان تترك للضحية حق ان تكون ضحية، من دون حاجة الى التنكيل بها.
دفع المتلقي الى الادراك
n مع ذلك اعتقد ان تجريد الضحايا في فيلمك من اي بعد انساني وحصرها في دور الضحية الخانعة فقط، يمكن ان يفسر كشكل من اشكال التنكيل بها. ما رأيك؟
– لا ابحث عن البعد الانساني في صورة الاطفال، ولكن في دفع المتلقي الى ادراك هول ما يمارس على هؤلاء الاطفال. البعد الانساني يولد من التفاعل الذي تولده فجاجة هذه الوثيقة عند المتلقي.
n  محاولتك في الفيلم تشريح آلية عمل السلطة داخل البنية المجتمعية يغلب عليها الطابع النقدي الحاد لخطاب السلطة، والذي تعمل جاهدا على تعريته وابراز وجهه البشع واللاانساني. الا تخشى بخياراتك الجذرية والراديكالية هذه، ذات البعد الواحد احيانا في التعامل مع الموضوع ضمن منطق ابيض / اسود، ان تكون قد اوقعت نفسك في رؤية قسرية واحادية الجانب ايضا؟ بمعنى آخر،  معاداتك الشديدة لدعائية السلطة ونفورك منها قد يكونان أوقعاك في دعائية مضادة تنهل احيانا من الجذر نفسه. ما رأيك؟
– لقد نجحت السلطة الى حد كبير في ان تنتج معارضة على شاكلتها. معارضة كلامية خطابية – وفي بعض الحالات غوغائية – همها مناقرة السلطة فقط، على اعتبار ان المجتمع ورقة مضمونة في جيبها. وهذه حقيقة سقطنا جميعا في فخها، منذ وجد شيء اسمه معارضة في سوريا البعث.
ولا استثني من هذا السياق الثقافة ولا الفن المعارضين، لأن افلامنا ايضا سارت على الدرب نفسه. ما زلت اذكر كيف ان اكثر ما كان يثيرنا في عملية صنع الفيلم، لعبة التحايل على السلطة ورقابتها التي كنا نلجأ اليها لامرار غمزنا النقدي، السياسي والاجتماعي لها، غير عابئين إن كانت شطارتنا هذه سوف تعني شيئا للجمهور ام لا. فكيف تريدنا اليوم ان نكون محصّنين من النظرة الاحادية للاشياء، والقطيعة بيننا وبين الناس على هذا القدر من الجفاء؟
فيلم “الطوفان” مصنوع بمزاج مختلف أملاه الظرف الخاص الذي تمر به سوريا الآن. انه ينتمي الى مدرسة (الآجيت بروب)، اي التحريض الدعائي، ولكن بأسلوب مضاد، على مبدأ من فمك ادينك.
n في الكثير من افلامك بما فيها فيلمك الاخير، يغيب الجانب النقدي الذي يتناول سلطة المخرج على شخوصه في الفيلم وعلى الواقع في المجمل. والمرة الوحيدة التي تناولت فيها صراحة هذا الجانب، كانت في الفيلم الذي اخرجته عن رفيق الحريري. ولكن بدلا من ان تستخدم الكاميرا كسلاح نقدي في تعرية الحريري كمشروع سلطة، اعترفت بفشلك في الذهاب بعيدا في هذا المنحى النقدي. كيف تفسر ذلك؟
– في لعبة السلطة التي جمعتني مع الحريري في هذا الفيلم والتي وعيتها تماما، كان في استطاعتي كمخرج ان استخدم “سلاح الكاميرا” بطريقة سلطوية تسيء كثيرا الى الحريري، لكني لم افعل. فأمام العقد الاخلاقي الذي جمعني مع رفيق الحريري، لم أسىء استخدام سلطتي، وهو الآخر لم يفعل ذلك. عندما اعطى الحريري موافقته على المشاركة في الفيلم، كان امامي انسان ولم يكن سلطة. لقد رأيت الحريري اولاً كانسان وليس كحساب في مصرف، والنزاهة الاخلاقية كانت تقتضي مني ان لا اخلّ بهذا العقد المهني. وعندما اصبح هناك عدم تكافؤ في العلاقة بيننا، اعترفت بذلك في الفيلم. لحظة الصدق عند المخرج اهم من عمله واهم من الاضرار التي يمكن ان تلحق بذاته.
مساعدة البعث في ايجاد مخرج!
n تتناول في فيلمك بالنقد بعض رموز الدولة. كيف تتوقع ردود الفعل على ذلك؟
– يقولون ان الالوهية كلما تقلصت، سعت الحرية الانسانية لأن تحل محلها، وهجر الانسان الارض ليحتل وظائف السماء. امنية لا ادري ان كنا سنعيش لنراها تتحقق في يوم من الايام!
ما يعنيني في الوقت الحاضر ان تتاح للناس مشاهدة ما يمكن ان يعصي على اي وضع سياسي مستجد نكرانه، كما يعنيني ايضا ان يرى البعثيون الشرفاء هذا الفيلم، كي يتبينوا بأنفسهم حجم الخراب الذي الحقه استغلال الحكام لعقيدتهم بالبلد والناس، منذ عرفت هذه العقيدة طريقها الى السلطة، لعلهم يتداركون اخطاء الماضي، فيطيحون قياداتهم، وينفتحون على الشعب من خلال مشروع مصالحة حقيقي، وانضمام حر الى القوى الديموقراطية الفعلية في المجتمع، قبل فوات الاوان.
وهذه ليست تكتيكا، كما يمكن ان يتبادر الى البعض، وانما اقتناع لديّ بضرورة مساعدة حزب البعث في ايجاد مخرج له من مأزقه التاريخي الراهن، إن كان ذلك ممكنا طبعا. فقد لمست خلال تصوير الفيلم مدى التجذر الفعلي لعقيدة البعث في بعديها القومي والفلاحي في الريف السوري، بحيث اتوقع لهذا الحزب ان يحتفظ بقاعدة شعبية وقوة تمثيلية لا يستهان بها حتى في ظل وضع سياسي جديد.
nقدّم سدّ الفرات لسوريا الكهرباء طوال عقود ثلاثة، وتم استصلاح آلاف الهكتارات من الاراضي وتوزيعها على الفلاحين. لماذا لا ترى الا الجوانب السلبية في انشاء هذا السد؟ الا تعتقد انك تبالغ قليلا في عدم رؤية اي جانب ايجابي من بنائه؟
– في فيلمي الاول الذي حققته عام 1970 اشدت بسد الفرات، لأنني كنت من مؤيدي تحديث سوريا بأي ثمن، ولو كان الثمن حكم البعث. لذلك لم ابال يومها بتبعات بناء هذا السد، ولا بالضرر الذي الحقه بأراضي الفرات الزراعية (آفة التملح) وبحياة الناس وبالأوابد الاثرية لهذه البقعة الحضارية الاستثنائية في تاريخ البشرية.
ويا ليت الامر بقي عند هذا الحد وحسب، لأن المصيبة الكبرى حلت في ما بعد، عندما جرى توسيع بحيرة الاسد، وتشييد سدّ جديد على مجرى الفرات هو سد تشرين، وذلك من اجل تزويد سوريا مخزونا مائيا احتياطيا استراتيجيا يقيها شرّ الجارة تركيا في حال استخدامها سلاح المياه ضدها.
لست خبيرا في شؤون المياه واستراتيجياتها، لكني اتساءل ماذا قررت ان يحدث لشمال سوريا اذا قررت تركيا لا ان تقطع المياه عنا، وانما ان تفلت لساعات قليلة بعضا من مخزون سدودها العديدة على مجرى الفرات.
موضوع السدود في الفيلم ورد كحافز فقط، او كحجة دفعت المؤلف لأن يخرج الى الواقع كي يعاين وضع بلده. وقد حرّضته على ذلك سلسلة من الحوادث المتتابعة التي تنذر باحتمال وقوع الطوفان، بدءا من انهيار سد زيزون، مرورا بتشقق سدين آخرين احدهما سد الفرات، وانتهاء بكشف النقاب عن وجود تقرير رسمي يحذر السلطات من اخطار تتهدد جميع سدود سوريا الـ،36 ما لم يجر اصلاح هذه السدود على وجه السرعة.
كناية الفيلم تنطلق من وجود سيناريو كارثي يعلن احتمال حدوث الطوفان الاكبر، وليس قضية السدود والحداثة، وإن كنت اؤمن في العمق بهشاشة كل حداثة تقوم على اساس نظام سياسي متخلف وفاسد، وما العراق الا افجع دليل على ذلك.
لا امل يرتجى
n يكاد يغيب الامل بالمستقبل عن فيلمك الاخير، بحيث نراك توحي ان لا بديل من النظام القمعي القومي، في المستقبل القريب، الا النظام القمعي الاسلامي. ورغم ذلك فإن مخاطرتك بإخراج فيلم نقدي جريء اليوم، هو في حد ذاته فعل مقاومة وبالتالي بصيص امل. ضمن اي سياق تضع عمل فيلمك هذا؟ ولماذا اليوم وليس قبل سنوات؟ وما علاقة ذلك بأحداث العراق؟ والى من يتوجه هذا الفيلم في الدرجة الاولى؟ الا تخشى ان يؤول عملك خطأ، خصوصا انه من انتاج اوروبي وسيعرض على شاشات التلفزة الاوروبية؟
– البارحة اطلّ من على شاشة قناة فضائية عربية مرتد لبناني ماركسي سابق، هدته الخمينية الى الاسلام، في وقت من الاوقات، فجعلت منه ارهابياً. واليوم عمّقت “اللادنية” ايمانه، فجعلته داعية وقحا لأفكار “القاعدة” وجرائمها. كثيرون هم الماركسيون الذين عادوا الى دين الله بعدما كفروا بماركس والشيوعية اثر انهيارها، وكثيرون هم البعثيون الذين سيلعنون غدا عفلق والقومية العربية، وإن كان عفلق قد احتاط للامر وبلّغ اتباعه بما ينتظرهم في كتابه الشهير “في سبيل البعث”: “ولسوف يجيء يوم يجد فيه القوميون انفسهم المدافعين الوحيدين عن الاسلام”.
شخصيا، اعتقد ان لا امل يرتجى من واقع اختارت فيه امة ان يتناوب على الاستبداد بها الدين والقومية.
n رغم ذلك اذكّرك هنا بما قاله صديقك الكاتب المسرحي سعد الله ونوس في اشد لحظات اليأس التي كان يمر بها: نحن محكومون بالامل.
– مواجهة الموت الفردي المادي، وارادة الانسان في التغلب على هذا الموت قوة لا يملكها الواقف على عتبة المجهول. موضوع الامل تحدده الحال التي نحن فيها والتي من خلالها نرى خلاصنا الوجودي. من موقعي الحالي لا ارى وجود مثل هذا الامل. وربما يخالفني في ذلك الكثير من السوريين الذين قد يرون في الاسلام مخرجا. الامل مرتبط عادة اما بالرغبة واما بالواقع. فمثلما تحوّل الرغبة الامل ايديولوجيا، يحوّل الواقع هذا الامل موقفا ملموسا يدفع بصاحبه اما الى التفاؤل و/او الى التشاؤم. ان الاحباط واليأس اللذين وصل اليهما الواقع السوري اليوم، وانعدام البدائل والخيارات المتاحة امامه، تقودني لأن اكون اكثر تشاؤما بالمستقبل من اي وقت مضى.
nبدأت مسيرتك السينمائية بالاشادة بمشروع التحديث وبناء سد الفرات في العام ،1970 ووصلت اليوم الى الادانة المطلقة لكل النتائج التي ادى اليها مشروع التحديث البعثي في سوريا الحاضر، بما فيها سد الفرات نفسه. ضمن اي منطق تأتي الاشارة في فيلمك الاخير الى هذا التحول الذاتي في المواقف؟
– تقضي النزاهة الفنية، اي الصدق مع الذات، ان يتحمل المرء مسؤولية مشاركته، في وقت من الاوقات، في منظومة فكرية كانت وراء مشروع الحداثة في سوريا، ولم يكن البعث الا طرفا حاكما ومنفذا فيها. ان المثقف النقدي لا يستطيع، ويجب الا يرضى اصلا، ان ينسلّ بريئا طاهرا نافضا يديه من تاريخ بلده، راجما الآخرين فقط بحجر الخطيئة.
n اريد ان اسألك بلسان الراحل ادوارد سعيد: لماذا آمنت وانت مثقف بإله ما على اي حال؟ من اعطاك الحق كي تتصور ان ايمانك سابقاً وخيبة املك اللاحقة، مهمان جدا؟ الا تعتقد ان الخطأ يبدأ في الاساس من ايمانك بآلهة ما؟
– انت تحاول ان تصنّف شخصا لا اعرفه. اما اذا كنت انا المقصود بذلك، فقد اخطأت مرماك لأني بالفطرة محصّن بسخرية تسفّه الايمان الاحمق، وتسخّف تأليه الاشخاص والافكار على حد سواء. ان انهيار اليسار الوثني لا يعني في الضرورة زوال نظام الكهانة المتأصل فيه. الدليل انه يعيد الى اليوم انتاج قديسيه.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى