صفحات الناس

منظومتا استثناء، لا واحدة، في سورية

null
ياسين الحاج صالح
كان مشروع قانون الأحوال الشخصية السوري الجديد، وقد طويت صفحته في مطلع تموز الفائت، مناسبة لتبين شيء قلما أمكن تبينه من قبل عموم الناشطين والمثقفين السوريين، أعني وجود منظومتي استثناء في سورية، لا منظومة واحدة.
المنظومة الأولى، المعروفة جيدا، تتمثل في حالة الطوارئ والأحكام العرفية المفروضة في البلاد منذ اللحظات الأولى لاستيلاء حزب البعث على السلطة عام 1963. مفعول هذه المنظومة تعليق القوانين “الطبيعية” وإطلاق يد السلطات في الحياة العامة والخاصة للسكان. وقد اقترنت على الدوام بتقييد الحريات السياسية لعموم السوريين ومنعهم من المشاركة في الشأن العام لبلادهم، إلا عبر أقنية محددة تقررها السلطات وتتحكم بها. ولطالما أتاحت هذه المنظومة اعتقال مواطنين دون محاكمة، أو تقديمهم بعد سنوات تطول إلى محاكم استثنائية، ومنحت حصانة مطلقة للأجهزة الأمنية.. ومحصلة آثار هذه المنظومة، التي تمثل فعليا “دستور الدستور”، منع السكان من ممارسة الحقوق والحريات السياسية المرتبطة بالمواطنة، بما فيها تلك التي يقر لهم بها الدستور السوري.
وتتمثل منظومة الاستثناء الثانية في قوانين الأحوال الشخصية المتعددة، المبنية على النظر إلى السكان كمجموعات معرّفة بأديانها. لا مواطنين هنا بل أتباع أديان، ولا سوريين بل مسلمون ومسيحيون ويهود، وقد تتمكن طوائف ضمن هذه المجموعات الدينية من الحصول على قوانين خاصة بها، على نحو ما هو محقق اليوم في سورية لكل من الدروز المسلمين والكاثوليك المسيحيين.
لكن لماذا نصف المنظومة هذه بأنها استثنائية؟ ووفقا لأي معيار؟ لكونها لا تطبق القواعد نفسها على السكان جميعا، لكون السوريين غير موحدين وغير متساوين أمامها. أي أن معيار التقرير في شأن الاستثناء هو الدولة الوطنية الحديثة التي تقوم على المساواة بين السكان ووحدتهم وعلى احتكار السيادة. فالدلالة الجوهرية لوجود قوانين أحوال شخصية غير موحدة هو وجود ولاية غير ولاية الدولة على السكان، ولاية الدين (الأديان)، الأمر الذي يمثل “شِركا” في سيادة الدولة وإضعافا للوحدة المجتمعية.
قد يُعترَض بأن قوانين الأحوال الشخصية هي في الواقع “طبيعية”، تنبع من عقائد السكان وأديانهم، في حين أن قانونا مدنيا مزعوما للأحوال الشخصية هو “الاستثناء”. وقد يشتبه بأن قانونا كهذا سيحتاج إلى القسر والاستبداد كي يفرض، فيما القانون الأهلي أو الديني هو مألوف الناس وشرعهم. يبدو الكلام وجيها للوهلة الأولى. لكن يختلط فيه رفض محق للأساليب الفوقية المحتملة لفرض نظم قانونية جديدة، مع رفض باطل للأسس الفكرية والقيمية لهذه النظم القانونية (المواطنة، وحدة السكان، سيادة الدولة)، المتفوقة أخلاقيا وإنسانيا بلا شك، استنادا إلى نظم قديمة، ليست مبرأة من السلطة والامتياز. سلطة وامتياز هيئات وأجهزة دينية.
هذا فضلا عن أن “الطبيعي” هو “العرف” في الواقع، وأن السند التشريعي لتعدد قوانين الأحوال الشخصية، أي “الشريعة الإسلامية”، صنعي بالفعل، أنتجه وينتجه فقهاء وخريجو مدارس وكليات دينية حديثة من متون فقهية قديمة، منفصلة في الغالب عن الخبرة الحية لجمهور السكان، وهي خبرة مدونة في “العرف”.
فضلا أيضا عن أن الجمهور هذا غير موحد دينيا ومذهبيا، ولا يمكن أن يتوحد على أسس دينية، الأمر الذي يعني أن استبقاء القوانين القديمة يحرس تفتته وانقسامه، فيقوض الدولة ذاتها في النهاية. هذه النقطة تنطبق على “العرف” كما على “الشريعة”.
وحتى لو تطابق هذان، العرف والشريعة، فإن قوانين أحوال شخصية مؤسسة عليهما استثنائية حتما من وجهة نظر الدولة الوطنية الحديثة القائمة، كما قلنا، على المواطنة والمساواة بين السكان ووحدانية السيادة وانحصارها في الدولة.
بيد أن الضعف الفكري والأخلاقي لدولنا المعاصرة، وبالخصوص منافاتها للأسس التي ذكرنا للتو (المواطنة، المساواة، الاندماج الواسع بين السكان..)، هو ما يبقي على شرعية المنظومة الثانية، بل لعلها ينعشها ويسبغ عليها بعدا احتجاجيا.
فمن يفرض منظومة استثناء سياسية، متمركزة حول مبدأ حفظ السلطة لأوليغارشية حاكمة ممتازة، ومن لا يكف عن تقويض مؤسسة المواطنة بأبعادها السياسية والقانونية، لن يتجشم عناء العمل على تجاوز نظم الاستثناء والامتياز الموروثة من الماضي. الأرجح أنه سيساوم النظم هذه أو يسكت عنها كي يضمن سكوت القائمين عليها عنه. هذه صفقة محققة في سورية اليوم. ونخمن أن مثلها محقق في أكثر البلدان العربية.
على هذا النحو يتحقق ضرب من التفاهم الذي قد يكون قلقا وغير مستقر بين نخب الدين ونخب الدولة على حساب مجتمع المحكومين: تنازل سيادي من قبل الدولة عن وحدة القانون الوطني وعموميته، مقابل تنازل سياسي من قبل الدين، أي التخلي عن المنازعة السياسية للحاكمين.
ومحصلة هذا التفاهم أن الدولة في بلدنا تكف عن كونها عامل عقلنة وتجانس اجتماعي واندماج وطني لتمسي عامل تحنيط لبنى امتيازية واستثنائية موروثة، اعتدنا أن نربطها بالبنى الإقطاعية والدولة السلطانية، وعامل توليد لبنى امتيازية وإقطاعية جديدة. هذا بالطبع يطعن في وطنية الدولة طعنا خطيرا، لا يقلل منه التفافها عليه برد الوطنية إلى إيديولوجية موجهة ضد الأجنبي و”الخارج”.
ومع الزمن قاد مبدأ حفظ السلطة، وقد رفع منذ سبعينات القرن العشرين إلى مرتبة أولوية وطنية عليا ودائمة، إلى تكون “بنية سلطانية محدثة”، تجمع بين منظومة استثناء سياسية موجهة إلى نزع الاستقلال الاجتماعي والسياسي والثقافي، ومنظومة استثناء قانونية تعيد إنتاج أوضاع امتيازية وتقليدية ناكصة حتى عن مشروع التنظيمات العثماني. ومن ملامح هذه البنية نظام الوراثة السياسي، والتطييف الاجتماعي المنتشر، والخوف من الفتنة كشكل محتمل للصراع الاجتماعي السياسي.
على هذا النحو تجنح منظومتا الاستثناء إلى الترابط فيما بينهما، بحيث أن فرص تجاوز إحداهما تمسي مرهونة بفرص تجاوز الأخرى.
هل يسعنا الاستناد إلى إحدى منظومتي الاستثناء من أجل التخلص من الأخرى؟ إلى المنظومة الدينية (المتوافقة مع التجزؤ الاجتماعي) للتخلص من المنظومة السياسية (التي يرتكز عليها الاستبداد)؟ أو إلى الاستبداد الراهن للتخلص من التجزؤ الاجتماعي؟ ولا بأي حال من الأحوال. فلو تسنى الحكم للإسلاميين في بلداننا لكان مرجحا أن يفرضوا نظاما اجتماعيا قانونيا قائما على التجزؤ والمِلليّة، ولما كان النظام هذا غير “طبيعي” بمقاييس العصر، ترجّح أن يسيجوا سلطانهم السياسي بمنظومة استثناء تشبه حالة الطوارئ التي نعرف. ولقد ذكرنا فوق أن تمركز منظومة الاستثناء الأولى، حالة الطوارئ وتوابعها الجهازية والسياسية والخطابية، حول مبدأ حفظ السلطة، يدفع إلى التعايش مع منظومة الاستثناء الثانية، القانونية الدينية. هذا لأن للدولة الوطنية الحديثة منطق ذاتي يتعارض مع الاستثناء السياسي الذي تفرضه دولتنا الراهنة، فإن فرض الاستثناء مع ذلك، كان مرجحا أن يفتح أبواب الاستثناء الأخرى. وتاليا، فإن من يسعى وراء استثناء واحد سوف يحصل على اثنين. فيما لا نصون فرص عمومية القانون ووحدته وسيادته إلا بالعمل ضد كل استثناء.
وكان يمكن أن نتأدى للنتيجة نفسها إن وضعنا في بالنا أن منظومتي الاستثناء وجهان لبنية سلطانية محدثة كما قلنا، الأمر الذي يجعل مصيرهما واحد، فلا مجال للاستناد إلى أحدهما للتخلص من الآخر، ولا مجال للتخلص من واحدة دون إلحاق أختها بها.
هذا بالطبع يعقد النضال الديمقراطي كثيرا. لدينا مشكلتان لا واحدة. استبداد وتجزؤ اجتماعي، دكتاتوريات سياسية ونقص في الاندماج الوطني. وهذا الأخير يوفر هامش مناورة واسعا على الدوام لأطقم الحكم الدكتاتورية، مما هو محسوس ومعاين حولنا، ولا يكاد يحتاج إلى برهان.
هذه المناقشة الوجيزة مناسبة للتساؤل عن الموقع الثقافي والسياسي للفكرة والقيم الجمهورية في ثقافتنا واجتماعنا السياسي المعاصر. الفكرة الجمهورية هي النقيض الجذري للسلطانية المحدثة، وهي الأساس الذي يمكن الاستناد إليه لإخراج العمل والتفكير الديمقراطي من أزمته. غير أن هذا يقتضي بداية مختلفة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى