رحيل عمر أميرالاي

حوار غير منشور مع عمر أميرالاي حول فيلمه طوفان في بلاد البعث: اشتغلت 35 عاماً لأصنع 17 ساعة فقط تحكي تجربتي

null
ريما المسمار
في تموز 2004، عرض السينمائي الراحل عمر أميرالاي شريطه الوثائقي “طوفان في بلاد البعث” في مهرجان السينما العربية في باريس، حيث جرى هذا الحوار وظلّ سجين الكاسيت طوال السنوات الست الفائتة لأسباب لا تخفى على أحد، الأمر الذي حملني على الإعتذار من عمر مباشرة وبعد مرور ثلاث سنوات عما اعتبرته “خيانة” مني لصراحته وثقته بي، ليفاجئني بردّ فعله الهادىء المعهود ورحابة صدره التي ضاعفت من ارتباكي. لا يعني نشر هذا الحوار اليوم تبدّل تلك الأسباب جذرياً، إذ كان يمكن نشره في أي وقت خلال السنوات الخمس الفائتة لولا شعور كاتبة هذه السطور بأن لا فائدة من نشره في غير وقته. ولكن الرحيل المؤلم لأميرالاي قبل نحو أسبوع، شرّع الذاكرة على كل أثر خلّفه، فإذا بهذا الحوار، لدى سماعه مرة ثانية، يتّخذ مسوّغات جديدة لإبصار النور: فهو أولاً حوار حول الفيلم الذي انتهى ليكون خاتمة مسيرة مخرجه الإبداعية، وثانياً حوار مازال صداه يسمع اليوم وبقوة كأنه لم تمر سنوات عليه، وثالثاً هو حوار يحمل الكثير من أفكار أميرالاي السينمائية والسياسية ومن جرأته وشراسته وحنانه وصدقه وشفافيته. ولو أن نشره بالصوت كان متاحاً، لأضافت نبرة صوته وسخريته الظاهرة في الضحكات او في طريقة الحديث الكثير.
هنا نص الحوار كاملاً.
هناك شيء يحدث على مستوى العالم ككل.. الرياح تعصف في كل مكان..
وبات من الصعب احتجاز هذه الرياح في غرفة
منذ العروض الأولى لفيلم “الطوفان”، بدأ يظهر بعض التعليقات والتساؤلات حول موضوع “الأمانة” و”المعايير الأخلاقية” في علاقته بالشخصيات. كيف تردّ على هذه التعليقات؟ وما هو تعريفك لفكرة الأمانة والمعايير الأخلاقية في العمل الوثائقي؟
عندما يتعاطى العمل الفني موضوعاً يعني بلداً ومجتمعاً وتاريخاً ترزح منذ 40 سنة تحت حكم حزب أوحد وسلطة استبدادية، تصبح الأمانة للحقيقة هي الأولوية، وليس الأمانة للإعتبارات الشخصية أو لفلان وعلاّن. الأمانة في هذا الفيلم قائمة تجاه الوصول إلى الحقيقة بالوسائل المشروعة وليس بغيرها. اخترت الشخصيات بحكم علاقتها مع مدخل الفيلم، أي مع السبب الذي جعلني أعود إلى الفرات. ففيلمي الأول عن الفرات وكذلك الثاني. فهذه المنطقة بالذات، أعتبر نفسي منتمياً إليها سينمائياً لأنها شهدت بداياتي وربطتني بالمجتمع السوري وبالحلقة الحقيقية فيه، أي الريف، لأن المجتمع السوري مجتمع ريفي حكماً. لذلك، عودتي إلى منطقة الفرات ليست اصطياد منطقة تعتبر الأضعف في سورية. الأمر الثاني على علاقة برحلة البحث عن الفيلم الوثائقي التي تتخذ شكلين: الأول يقوم على البحث ومن ثم كتابة سيناريو ورسم الخط الفكري للعمل وبعدها التنفيذ. لا أنتمي إلى هذا الجنس من العاملين في الفيلم التسجيلي، بل إلى الشكل الثاني. أترك للواقع أن يقودني إلى الأماكن التي تثير فضولي وتجعلني أتفاعل معها. أثناء الإستطلاع، وبمحض الصدفة تماماً، وقعت على قرية في منطقة الفرات اسمها الماشي. كانت فكرة المشروع وقتها تدور حول 15 سبباً تجعلني أكره حزب البعث، وكنت أبحث عن شواهد وإثباتات لهذه الأسباب. ولكن عندما وصلت إلى القرية واكتشفت أن “الماشي” ليس فقط اسمها اسم أهلها واسم المدرسة وبئر الماء… شعرت أن الواقع يقدّم لي هدية جاهزة تلخّص حالة البحث المتناثرة. إنها الومضة المشعة الدرامية والمثيرة التي تجعلك تمسكين الفيلم من البداية إلى النهاية. وهذا ما حدث. مباشرة ربطتها بسورية النظام وبكيفية مصادرة هذا البلد وشعبه وطبيعته ومرافقه وطاقاته الخلاّقة. وجدت أن الواقع يقدم لي عينة مصغرة عن البلد الذي أحيا فيه. ومن محاسن الصدف أيضاً أن القرية تحكمها عشيرة، مثل البلد الذي تحكمه عائلة. مضمون الكلام أن القرية عبارة عن عينة مصغّرة قدّمت شخصياتها بنفسها. وبالصدفة أيضاً تبيّن أن ابن أخ شيخ العشيرة هو مدير المدرسة ومسؤول الحزب في آن معاً. كلها صدف وحقائق يتمنى السينمائي التسجيلي أن يحبيه الواقع بها.
كيف تعاملت مع الشخصيات؟ كيف قدّمت لها فكرة المشروع؟
أحبّذ أن يولد تواصل إنساني مع الأشخاص الذين سأصورهم قبل أن أبدأ بالتصوير، لأنّني لا أؤمن كثيراً بالتّماس الأوّل الكاذب في معظم الأحيان. فالإنسان لا يفصح عن نفسه حقيقة إلا في حالات المآسي القصوى مثل الموت أو الألم أو الظلم العالي، أي عندما لا يملك شيئاً يخفيه، فتخرج كل أحاسيسه الحقيقية. في الحالات المستقرة العادية، غالباً يتوجّب عليكِ النفاذ عبر طبقات من الدفاعات عن النفس والمتاريس التي يتخفّى وراءها الكائن البشري عادة للوصول إليه. عندما دخلت إلى القرية، لم أقل أبداً أنني آتٍ من التلفزيون السوري، ولا قلت أنني بصدد صنع فيلم دعائي عن سوريا والبعث والنظام السوري. قلت إنني سأنجز فيلماً عن سورية اليوم، بل من ما قبل التاريخ إلى اليوم. هكذا قدّمت الفيلم. وخلال النقاشات، فهمت الشخصيات تماماً، ليس فقط شخصيات الفيلم وإنما أيضاً الناس الحاضرون في المضافات، حيث كانت تدور نقاشات بصوت عالٍ حول الديمقراطية والوضع ومايحدث في العراق وما يشبه الفساد في سورية، وأحياناً بوجود ضباط مخابرات كانوا يزورون الشيخ، فهموا موقعي تماماً. وكان الشيخ يغمزني أحياناً ويقول لي “اسكت، حاجي”. هذا ردّ على موضوع الأمانة التي فيها برأيي فيها نوع من المازوشية من قبل المتحدّثين بها. أنا لم أورّط الشخصيات ولا استغفلتها واستدرجتها لقول شيء أنا كمخرج خططت له أما هي فغُرر بها. سمعت هذا الكلام. ورداً عليه أقول: الأمانة عند السينمائي، لاسيما التسجيلي الذي لا يعرف في الغالب وسلفاً كيفية تركيب فيلمه في ما بعد، تكمن في عدم تزييف موقعه. عندما يكشف عن هوية أفكاره، فإنه يتيح للشخصية اختيار أن تتعامل معه أو أن ترفضه. ثانياً، عندما تختارين شخصيات وتسألينها الأسئلة التي تجيب عليها سواء أمعك أو مع مفتش التربية او مساعد في المخابرات بنفس الطريقة والأجوبة، فهذا يعني أنك أخذت منها تماماً الخطاب الذي تريد التعبير عنه، أكان ذلك عمقاً تفكيرياً أم لا. هذه الشخصيات، كما لاحظت، أجابت بالطريقة الرسمية تماماً، لم تنتقد واحدة منها النظام. لم أجعلها تنزلق. قلت لشيخ العشيرة النائب في البرلمان أنني سأجري معه مقابلة أسأله فيها عن الحركة التصحيحية وتجربته البرلمانية وحياته الشخصية. فوافق. على عكس ما كان بمقدور السينمائي فعله هنا، اي أن يأتي بشخص إنتهازي يقدم الخطاب الموالي للأسد ولكن لا تصدّقين كلمة مما يقول، هنا شخص مؤمن تماماً بما يقوله وبدون ادّعاء أو زيف. الأمانة هنا للموضوع بالذات، الموضوع الأساسي الذي هو عبادة الفرد التي هي جوهر النظام السوري فيما الحزب مجرّد قبعة لهذا الجوهر. هذا ما أردت تقديمه في الفيلم. وقدّمت نموذجاً للولاء الصادق وليس الولاء الكاذب. بيّنت لؤم هذا النظام الذي يكافئ حتى الولاء الصادق بالإحتقار. عندما يعرّض الشيخ أولاده للقتل في حوادث الإخوان، فإنه يفعل ذلك في سبيل هذا الولاء. ولكنّه عندما طلب سيارة من الرئيس حافظ الأسد قال له ما حاجتك إلى السيارة؟ سمعتك بتكفّي. بالنسبة إلي، الإدانة ليست إدانة للشيخ لأنه صادق وأنا لم اقم يتحريف كلامه بل قدّمت مقطعاً يشبهه تماماً. ولكن على الرغم من انه صادق، إلا أنه ليس بريئاً، بل هو ذراع النظام ضاربة بحكم قوته العشائرية. بالنسبة إلى من يبحثون عن الأمانة، أقول أنني لا أذهب إلى الجلاد وأقول له سأجري معك مقابلة لأدينك ولأفضح إجرامك. هذا منتهى السخافة. الوصول إلى الحقيقة بدون تزييفها ولا تحريفها لا يحتاج إلى تقويل الناس بل إلى جعلهم يقولون ما يفكّرون به. هذه هي الأمانة.
[ يختلف الأمر جذرياً مع شخصية مدير المدرسة. فلماذا هذا مدان والشيخ غير مدان؟
– بالنسبة إلى الشخصية الثانية، مدير المدرسة ومسؤول الحزب، كنت أقسى معه لأنني عندما زرت المدرسة للمرة الاولى صُعقت بالطريقة العسكرية التي تقاد بها. هذا الشخص أيضاً قدم ايضاً أفكاره كما هي، ولكنني لا أستطيع ألا أدين الأدوات التي اعتمدها حزب البعث لتشويه اكثر من جيل. المدير هو الأداة المنفّذة لبشاعات الإيديولوجيا البعثية التي ارتكبت بحق أجيال وأطفال. كيف يمكن التعاطف مع شخص ينفّذ هذا؟ لو انه كان بعد أدائه لعمله يقوم بمراجعة لشيء ارتكبه كمدير مدرسة لكنت تعاطفت معه. ولكن هذا الشخص يطبّق يومياً مبادىء حزب البعث وهذا النظام العسكري في هذه المدرسة وبالتالي هو أداة منفّذة لسياسة التدجين التي اتبعها النظام لغسل أدمغة الأطفال. بدلاً من أن يتألم بعضهم على هذه الشخصيات، اهتموا بأمانة هذا الشخص ونسيوا ما يرتكبه في حق الأطفال. نسوا البشاعة. برأيي ان الباحثين عن الأمانة هم من يصطادون بشكل غير أمين قراءتهم للفيلم. عدم الأمانة كامنة عندهم لأنهم يتغافلون عن الحقائق البشعة التي ارتكبها النظام خلال أربعين سنة ليتوقفوا عند هل كان المخرج أميناً في تعامله مع الشخصيات؟ حتى لو افترضنا ان الأمانة غير موجودة، فإننا لا نستطيع ان نضع في مكيال واحد عدم أمانة المخرج من جهة وبشاعة الوثيقة من جهة ثانية.
إلى أي حد كنت تعرف الإجابات عن اسئلتك؟ فعندما تسأله عن عودة حزب البعث لحكم العراق مثلاً، هل كنت تتوقع أن يجيبك بالنفي؟
كنت أتمنى أن يكون قد غيّر رأيه أو أن يتلكأ أو أن يفاجئني بقول أن هنالك أخطاء. أما أن يرد علي بنفس الميانيكية والعزيمة قائلاً أن حزب البعث يجب أن يعود إلى الحكم لتعود الاشياء إلى طبيعتها، فهذا يكشف عن طبيعة هذا الفكر الذي يعتبر أن الشيء الطبيعي أن يبقى حزب البعث إلى الأبد، ويوضح تماماً محدودية وحماقة البشرية التي تكرّر نفسها إلى ما لا نهاية. بعد دمار العراق وانفراط حزب البعث بالطريقة المأسوية التي انفرط بها، كل هذا لم يجعله يتساءل. كان حازماً حزم الحماقة.
أنا مؤمنة تماماً بقيمة الفيلم كوثيقة لا تبهت. إنما التوقيت لا يرتبط حتماً بالنقد الذاتي لمشروعك الأول الذي أتخيّل انه وقع قبل زمن طويل. فهل التوقيت متعلق بموت الرئيس حافظ الأسد، بتبدّل قناعاتك أو بتلمّسك تحوّلاً ما في الوضع الداخلي؟
هي جملة عوامل وليس عاملاً واحداً. لا شك في أن رحيل حافظ الاسد ضعضع جدار الخوف والرهبة في المجتمع السوري. هذا أساسي. كأنك سحبت من الجدار قضبانه الحديدية. هذا التخلخل يمنح الإنسان من دون شك المقدرة على الإقدام والشجاعة للتفكير بصوت عالٍ وبتلمّس بدايات حرية التعبير، ولو أن هذا الشيء ليس حقيقياً إلى الدرجة التي توهّمناها جميعاً. فمن وفاة حافظ الأسد إلى مجيء بشار ووعوده الوردية بالإنفتاح على المجتمع السوري وإطلاق بعض الحريات… والواقع انه في السنة الأولى حدث شيء من هذا القبيل. لم أكن وحدي متوهّماً بإمكانية انفتاح المجتمع السوري، لأن الأخير تحوّل إلى حلقات حوار، فتحت منتديات في كل أنحاء سوريا، تجرأ الناس على قول آرائهم بصوت عالٍ… كانت إلى حد ما بدايات عودة السياسة إلى المجتمع السوري بعد نحو خمسة عقود من مصادرتها من ممارسات المجتمع، من عصر الوحدة إلى يومنا هذا. كانت هذه ظاهرة عامة في المجتمع السوري. بحكم أنني سينمائي وبالتالي مؤمن بأن نقطة الحرية التي يصل الإنسان إليها من الصعب التراجع والتخلي عنها، لأنها ليست نزهة خارجية تعودين بعدها إلى البيت بل استكشاف لا حدود له لهذا الهواء النقي… نقطة الشعور بتذوق لحظة الحرية هذه اعتبرتها منطلقاً لإنجاز فيلم جديد عن سورية. فيلم يستحيل أن يكون أقل حرية من اللحظة التي عاشها، على الرغم من تراجع هذه اللحظة والحريات في سورية من ثلاث سنوات إلى اليوم وعودة المنطق الأمني بسابق عهده، واعتقال الناس بتهمة حرية الرأي. المعتقلون العشرة في السجون اليوم هم معتقلو رأي وليسوا معتقلين سياسيين وليسوا مخرّبين ولا إرهابيين. هم معتقلون لأنهم قالوا رأيهم فقط. هذا ما جعلني أكمّل من اللحظة التي وصل إليها المجتمع السوري: لحظة الحلم بالحرية. ومن هنا انطلقت لعمل هذا الفيلم، لا لأعبّر عن هذه اللحظة فقط وإنما لأذهب أبعد، لأحاول صنع فيلم في مساحة الحرية التي يتيحها الفيلم. وهي مساحة واهية لأن الفيلم إذا لم يعرض ولم يصل إلى الناس فكأن شيئاً لم يحصل. الفيلم حرية محجوزة إلى حين وصولها إلى الناس. صدف في الوقت نفسه انه قبل عامين ونصف العام، انهار سد في وسط سوربا اسمه سد زيزون وأدى إلى مقتل 30 شخصاً ودمّر قرية بأكملها. بعد شهرين، تصدّع سد ثانٍ هو سد الفرات الذي كنت قد صورته في أوائل السبعينات. هذا ما أعاد لذاكرتي هذا الفيلم القصير “محاولة عن سد الفرات”. وبعدها نشر تقرير عن السدود في سورية يحذّر السلطات السورية من ضرورة إصلاح 36 سداً بنيت في فترة البعث وإلا فكلها معرّضة للإنهيار. هذا السيناريو الكارثي هو الذي وضعني على سكّة العودة إلى الفرات. ولهذا مدلول رمزي. عندما انهار سد زيزون، صورت وأجريت مقابلة مع المختار الذي ذكر كلمة الطوفان فأوحى لي بها. الفساد والجهل والإهمال في سوريا الذي أباد قرية قادر على إبادة بلد كامل. مرة أخرى، الواقع هو الذي يلقّمك الحقيقة والأفكار والسيناريو.
“الفيلم حرية محجوزة إلى حين وصولها إلى الناس” جملة تنفي كل كلام عن أن النظام لم يقم بردة فعل تجاه فيلم “الطوفان” ذلك أن رد فعله الأكبر هو منعه.
بوسائل الإتصال الموجودة اليوم، لم يعد مصير الفيلم رهن جهة واحدة كما كان بوبين الـ35 ملم في السابق. انكسر حاجز القبضة الحديدية للرقابة في العالم. انفتحت السماء وصارت ملكاً الجميع. أقول ان هذا الفيلم إذا لم يصل إلى الناس فسيظل حرية ناقصة. أنا مؤمن جداً انه على الرغم من كل الإشارات التي تدل على أن النظام يريد إحكام قدرته على الأفكار والمشاعر والآراء والتعبير، إلا أن حركة الواقع صارت أقوى من الجميع والتحول صار من الضرورة بمكان حتى أجهزة أمنهم والعقلية المتحجرة التي مازالت تؤمن بمنطق الأمن والقوة لإيقاف حركة التاريخ، لا تستطيع العمل ضد هذه الحركة. اليوم هناك شيء يحدث على مستوى العالم ككل. الرياح تعصف في كل مكان. وبات من الصعب احتجاز هذه الرياح في غرفة.
افتتحت فيلمك السابق “الرجل ذو النعل الذهبي” عن رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري بالإعتراف بعجزك عن إدانته. وتفتتح “الطوفان” باعتراف أيضاً تلوم فيه نفسك على صنع فيلمك الأول عن الفرات. هل ترى إلى السينما وسيلة علنية مفتوحة على مراجعة الذات؟ هل هذا مرتبط بالسينمائيين المسيّسين أكثر من سواهم؟ وهل من المشروع أن تكون الأفلام عملية مراجعات مستمرة؟ أم أن هناك لحظة حقيقة لا رجوع عنها؟
عامل السن يلعب دوراً في إيصال الإنسان إلى كرسي الإعتراف. أو إلى سرير التحليل النفسي. التجربة التي عشتها في التعامل مع الواقع والحياة والحقيقة على مدى أكثر من ثلاثين عاماً، يستحيل ألا يتخلّلها وقفات تقييم ومراجعة، لسبب وحيد هو أن الأخيرة تتحول وقوداً يمنحني طاقة جديدة للإستمرار بوعي جديد أو بتطوير وعيي للوصول إلى هذا البحث الدائم، وربّما العبثي، عن الحقيقة. مررت بهذه المحطّات لأنني إبن جيلي وإبن التحولات التي أصابت الأفكار والأحلام والأماني وانهيار الأوهام. من السخافة بمكان أن يكون الإنسان إزاء كل ذلك مجرّد فلّينة عائمة فوق الأحداث والأنواء والأهواء. لا حرج عندي من قول أنني أتطوّر أو الأحرى أتحوّل- ربما لا أتطوّر. شعوري أن هذا التحوّل يقرّبني من نفسي أكثر ويصالحني أكثر مع إنسانيتي، بخيرها وشرّها. وهذا بخلاف ما كان الإنسان سائراً فيه مغمض العينين على أنه رسول خير وممسك بمفتاح الحقيقة، يصل إليها أينما وجدت. ولكن هذا المفتاح، للتذكير فقط، ليس موجوداً إلاّ عند الحرامية. مفتاح خادع ومزيّف. بالتالي عندما كنت مغمض العينين وممتلكاً ذلك الشعور بأنني أحمل هذه الرسالة الأبدية، رسالة الخير والحقيقة، تكسرت ضلوعي على واقع الأشياء وعلى صخرة الملموس. حصيلة هذه التجربة 17 ساعة، هي مدة كل أفلامي التي تحكي تجربتي خلال 35 سنة. إذاً، يفترض بهذه الساعات السبع عشرة إذا استعرضت أن تبين عيشي ومشاهداتي وتردداتي وخيباتي وأوهامي وتفاؤلاتي وصراعاتي الدونكيشوتية… المفروض بهذا الشريط الذي يشبه الومضة قبيل الموت، أن تكون ومضة تجربتي. تصوري أنك تعملين لمدة 35 عاماً لتصنعي 17 ساعة. هذه بحد ذاتها حصيلة واهية ووهمية. ربما تكون عبثية الاشياء هذه هي لحظة التأمل والنضج الفلسفي عند الإنسان، عندما يفهم كيف يمكن أن تختصر حياته بحفنة ساعات.
هل يمكن القول أن “الطوفان” يشكّل نهاية مرحلة؟
أقول أنه منذ عشر سنوات دخلت هذا السياق، سياق التأمل في الفلسفي والوجودي، والفيلم ليس مجرد إثبات براعة أو صنعة أو مصدر إرتزاق أو مجال للّعب وتسجيل المواقف. يتوجّب على العمل الفني، بعد تجربة معيّنة، أن يحمل خلاصة ما توصّل وعيي وتجربتي الإنسانية إليه. عندما تصنعين فيلماً، لا تصنعينه لللآخرين، وإنما لنفسك. هو نوع من العلاج النفسي والروحي والفكري. إذا لم تنقلي أسئلتك إلى عملك الفني، فهذا يعني أنك مجرّد تكنوقراط، تحكين عن الآخرين، تصوّرين الناس وحيوات الآخرين وانت مجرد عين وصنعة وبراءة، يمكنها أن تصنع أفلاماً جيدة، ولكن تنقصها الروح والبصمة الإنسانية. وهذا يدلّ على انهيار الفرد عندنا، عندما يصل الإنسان إلى هذه الدرجة من العمى والميكانيكية في التفكير وغياب الفطنة والثرثرة بلا تفكير وبلا أسئلة.. هذه كلها دلالات على بؤس الإنسان عندنا. 45 سنة من غسل الدماغ والتدجين والتلقين لا يمكن أن تكوّن إنساناً سويّاً. حتى إذا لم تنجح الأنظمة في التوحيد بين الوعي الداخلي والوعي الخارجي، فإنها ولدت الإنفصام، ونجحت في أن تجعل الفرد يمارس وعيه الداخلي كفأر ووعيه الخارجي كعبد. وعلى هذا المستوى، نجحت كل الأنظمة التوتاليتارية في العالم كلّه وليس فقط حزب البعث والأحزاب الشيوعية. جعلت الإنسان فأراً في بيته وعبداً في الخارج.
تقول في مقدّمة الفيلم انه يقدّم عيّنة عن بلاد يحكمها البعث، اي أنك حدّدت إطار المشاهدة مسبقاً ولم تترك للمشاهد اكتشاف شيء بنفسه.
صحيح. لأن هذا فيلم يحمل البعد الوجداني، أي الإعتراف وما شابهه، ولكنّه يحمل في الوقت نفسه جذوري اليسارية والنضالية. هذا فيلم نضالي لأنه مصنوع بهدف إدانة هذا الحزب. أنا لم أقل أنني أصنع فيلماً فنياً ولا فيلماً وجدانياً. استعجلت لألتقط وثيقة من الواقع حتى إذا حدث وانهار هذا الحزب أو غيّر جلده لن يستطيع إنكار هذه الحقيقة. هذه وثيقة لا يمكن أي نظام قادم أو أي شخص كان متلبساً بحكم البعث أن ينكر يوماً ما كيف كانت تتم عملية تدجين وغسل دماغ وعسكرة الأطفال الأبرياء في المدارس الحكومية السورية وإدارتها كسجون. بالنسبة إلي، هذا عمل، على الرغم من مستوى الإيحائية الموجود فيه، لا يقوم على أسلوبية مباشرة ولكن الوثيقة هي المباشرة. الوثيقة فجّة ولا يمكن أن تكون غير ذلك. وثيقة منقولة بفجاجتها وصفاقتها، وكل شيء قمت به أنني انتزعتها من سياقها الطبيعي حيث نداءات الطلائع ونشيد البعث تعرض كل اسبوع في برنامج الطلائع الذي يبثّه التلفزيون السوري. كل الأطفال في سورية يرسلهم أهلهم إلى المدارس ويعرفون أن تحية الصباح هي تحيّة للقائد والحزب ونداء بشعارات الحزب وأنه كلما دخل إلى الصف غريب أو مدير المدرسة، يقف الطلاب ويؤدون له تحية القائد. كل ما عملته أنني ألصقت هذه اللحظات وصنعت منها وحدة مكانية وزمانية.
وقمت أيضاً بتبديل الأدوار بين المدير والطالب بمكر طريف…
هذه لقطة أدين بها لكرم الواقع. كنا نجرّب حركة “الترافيلينغ” للكاميرا. طلبنا من تلميذ أن يؤدي المشهد أثناء البروفه ولكنّه تلعثم. فما كان من المدير إلا أن تبرّع مكان الطالب فصوّرته. لست أنا من استدعاه. ولكن هناك مفارقة طريفة في هذا المشهد. هذه الأنظمة، نظام حزب البعث تحديداً والأحزاب الشيوعية، الإيديولوجيات التي تجرّد الواقع وتعيد صوغه مفصّلاً على مقاس الإيديولوجيا التي قاموا برسمها، يحوّلون العلاقة مع الواقع والحياة إلى سيناريو مسرحي. يمسرحون الواقع والحياة وأداء الناس وخطابهم. عندما تسألين الإنسان سؤالاً، تجدين أنه يؤدي دوراً وينطق بما يشبه الحوار الملقّن، وعندما يتوقف ليتذكر، فإنه يستحضر صورة الكلام الذي حفظه عن ظهر قلب، تماماً كالطالب الذي يحفظ درسه صمّاً. الكاميرا هنا تعبير فوتوغرافي عن الحافظة الكلامية.
لماذا لم تصوّر أشخاصاً عاديين في القرية؟
عطفاً على الفكرة حول الشكل المسرحي، النظام، سواء أفي اجتماعات الحزب أو الخطابات أو غيرهما، هو في حالة تمثيل دائمة وتقديم نفسه بطريقة مسرحية representation. أداء طقوسي ممسرح للتأكيد على البعد الألوهي للقيادة والزعامة في هذا النظام. وهذا الأداء لا يتجسّد بجوهره إلا بمزيج من الإستعراض وطقوسية المعابد. اخترت مراعاة هذا الجانب واعتمدته في اسلوب تقديم الشخصيات: المكان، الإضاءة… الأسلوب مستل من مفاهيم العمل المسرحي حيث الكاميرا تقف على مسافة واللقطات عامة والزمن زمن مسرحي وليس سينمائياً، اي غير مألوف، وهناك لحظات صمت طويلة ليست مألوفة في التلفزيون. الإستعارة من الشكل المسرحي لتقديم الإيديولوجيا لنفسها ولأشخاصها. من هنا، لا يعود من مكان للناس. إذا شاهدت التلفزيون السوري، فلن تتمكني من رؤية الناس. الخطاب يجرّدهم ويلغيهم. النظام ألغى الناس من الحياة وألغى الحياة من الناس، وصادر الإثنين معاً، الحياة والناس، وقدّم نفسه اختزالاً لهما وناطقاً باسمهما.
يأتي فيلمك هذا في وقت تغرق الشاشات فيه بأفلام عن الحدث السياسي وحيث للمخرج موقع امام الكاميرا. كيف ترى إلى هذه الظاهرة؟
المطب الذي يقع فيه السينمائي التسجيلي عندما يريد أن يواكب الحدث وأن يسير بسرعته وأن يكون على مستواه ومرآته، هو أن الواقع غالباً ما يخذله الأن الحدث في نهاية المطاف أهم منه والواقع أهم منه. وإذا لم يستطع السينمائي التسجيلي من خلال عمله تقديم شيء أهم من الواقع وأهم من الحدث فهو إنما يشتغل تحت مستوى الفن، يسجّل ما يحدث في الشارع وأقوال الناس والمصائب. وهذا موجود في العمل التقريري والإخباري ويملك قيمته المستمدة من دراما الحدث. أما عندما نبدأ الحديث عن السينما والفن، فتصبح القيمة التي يضيفها السينمائي إلى الواقع والحدث هي المعيار. الفيلم التسجيلي إبداع والإبداع يعني إضافة لأنه يقوم على الخلق. يستحيل على الفيلم التسجيلي الإبداعي أن يكون مجرّد ناقل أو مرآة لصورة الواقع. وهذا لا يعوّض عنه حضور صانع الفيلم بطلاً فيه، لأنه يصبح اشيه بإظهار الحصان الذي يقود عربة الفيلم. وهذا برأيي ضعف إبداعي وقصور الأنا الإبداعية التي لا تستطيع أن تترجم في حل فني وبصمة إبداعية داخل الفيلم، فتتحول مسرحاً، ويخرج صانع الفيلم من وراء الكاميرا ليقول ما يريد قوله، فيما تكمن الشطارة في القدرة على الخلق من وراء الكاميرا.
ألا تشعر ان هذه الظاهرة تعبّر أيضاً عن مأزق هوية تكثر الاسئلة من حوله في الأفلام الوثائقية الجديدة؟
مجرد أن إشكالية الهوية تطرح نفسها فهذا يدل على خلل. هناك شيء من الحقيقة في هذا الطرح ولكنني لا استطيع فهمه لأنني غير معني بسؤال الهوية إلا كوعي بلحظتي الوجودية. أنا اليوم منتمٍ أما غداً فقد لا أكون منتمياً. اليأس أو الخيبة تحملني في لحظة ما على رفض الإنتماء. وهذا مشروع وإنساني. أما إذا ألغينا الأحاسيس والوعي والإدراك فعندها يصير الإنتماء وشماً وليس خياراً. الإنتماء خاضع للإرادة المعجونة بالوعي والأحاسيس والقرار. أنا أقرّر أن أنتمي. خلاصة هذه الأسئلة والبحث حول الهوية أجدها ظاهرة صحية ولا بد أن تصل إلى شيء.
المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى