صفحات سورية

هل يكون خطاب الفساد الكسول سبباً من اسباب تمكّنه؟

null

دلال البزري

الكلام او الكتابة عن الفساد معادٍ بداهة للفساد. اذ لا يمكنك ان تمدح الفساد مثلاً، حتى لو كنت فاسداً. وهذا الكلام، أو الكتابة عن الفساد كثُر في الآونة الاخيرة، كثرة الفساد نفسه. وباتَ اشبه بوعاء المواقف والآراء. فإذا كنتَ معادياً للقطب الفلاني، كان هذا القطب «فاسداً». واذا كنت معارضاً لسياسة العهد في بلدك، فان كل تجليات هذا العهد أو تبدلاته هي سبب اكيد للفساد فيها.

يرصد باحث مصري في ملف طويل عن الفساد «الاسباب» التي حوّلت بلاده الى اكثر البلدان عرْضة للفساد. ويمكن ايجازها بالتالي: الحِراك الاجتماعي، الثراء الجديد، غياب الانتماء الوطني والطبقة الوسطى، تراجع الثقافة، إنتشار المفهوم «غير العقلاني» للدين، شخصيات الرؤساء والوزراء والمسؤولين، السلطة المطلقة والدولة البوليسية، هزيمة 1967، الاحباط العام، غياب القانون وسلطة عاجزة عن التصدي له، الانغلاق على العروبة، الخضوع للارادة والادارة الاميركيتَين، التساهل مع الاستثمارت الاجنبية، قدوم الاستثمارات الاجنبية، البطالة، المساكن العشوائية، الاكتظاظ السكاني، سيادة الضمني في الأقوال، العولمة… (اذا رفعت عن هذه «اللائحة» السبب «الديني» ووضعت مكانه سبباً دينياً نقيضاً، يقول بأن «إنعدام الدين» هو سبب من اسباب الفساد، فستكون من المعارضين للحكومة، ولكن من منطلق ديني).

بعض «ألاسباب» لا ضير منها؛ وإن اختلطت أحياناً بالنتائج، مثل غياب القانون والسلطة المطلقة. وإن كان بعضها الآخر أيضاً سبباً بديهياً، تؤكده نسبة الفساد المتدنية في الدول التي فيها تداول سياسي ومؤسسات، وانتخابات. وقد تلعب «اسباب» الاخرى دوراً في تعزيز الفساد، مجرد دور، مثل الازدواجية والضمنية، والحراك والاحباط. أيضاً: قد تكون نوعية اتفاقية السلام، الغامضة والخجولة والمغمغمة سبباً من اسباب الفساد؛ لا السلام نفسه.

ولكن بالتأكيد، فإن لا الخضوع لأميركا ولا استقالة الدولة هما من «اسباب» الفساد. بدليل ان الصين، صاحبة اكبر دولة – حزب يديران اقتصاد وسياسة البلد، صاحبة معدلات النمو الاكثر ارتفاعاً في العالم، صاحبة الموقف المعرقل، الحقيقي، للسياسة الأميركية في العالم… هي ايضاً دولة يشكل الفساد «احد أعمدة» اقتصادها الوطني. وهي تنتج وتصدّر النسبة الأعلى من البضائع الفاسدة، من بين ما تنتجه الامم الاخرى. الهلع الذي احدثته بضائعها في الاسواق الاميركية دفع بتجارها الى دمغ بضائعهم بإعلان (China free)، اي حر من اية أيدي صينية. أما الاتحاد الاوروبي فأصدر العام الماضي لائحة بـ 605 منتجات عالمية «خطيرة»، 60 في المئة منها صُنع في الصين.

اما ايران، التي قد تندلع حرب عالمية بسبب «مقاومتها للمشروع الاميركي في المنطقة»، ايران الساهرة على الاخلاق والدين والقانون، وصاحبة الشعور القومي الصاعد والمنتصر، فقد بلغ الكلام عن فساد السياسيين فيها مستويات عليا. ودخل الفساد فيها حلَبة الصراع «الوطني» بين المحافظين والاصلاحيين. احمدي نجاد رئيسها المحافظ، منذ صعوده الى الرئاسة، رفع شعار «تطهير الحكومة من الروؤس الفاسدة» ضد خصومه الاصلاحيين. ومع تصاعد صراعه الاخير معهم، اتهمهم بالـ «التحكّم بمافيا إقتصادية»، وبالتصدي لـ «برنامجه الاقتصادي» وبمنعه. ثم هدّدهم: «استطيع هذه السنة بعون الله وبعونكم ان اقطع ايادي اولئك الذين يتحكّمون بأموال الدولة».

هذه امثلة قليلة تبيّن ان «خطاب الفساد» عندنا اصبح قائماً بذاته، متحرّراً من النقد والمراجعة؛ خطاباً شمولياً لا يراجع نفسه؛ يحتوي على القناعات الراسخة اكثر مما يدلي بالوقائع والمؤشرات الحيّة. وهذا ما يفسر ربما ضآلة النشاطات التي تُقام لـ «محاربة» الفساد، قزَميتها امام تعمْلقه، واندراجها دائماً ضمن «حملة» تدوم بدوام بريقها الاعلامي. نشاط فلكلوري، تكراري، يشبه أنشطة المرشدين الكشْفيين؛ ليس عنده عملياً سوى مهاجمة الفساد نفسه؛ بكلمة او شعار او حتى برنامج تلفزيوني يتناول فساد من لا تستسيغه القناة من مسؤولين او اصحاب مواقف معادية.

خطاب وممارسة لا يوصلان الى شيء. قريب من خطاب العوائق الآفل، الخاص بتبوؤ «المرأة مراكز القرار». حيث تنطوي العوائق على كل شيء ولا شيء بالتالي. هذا الخطاب «العوائقي»، المصرّ على البحث واعادة البحث وتكرار البحث حول الاسباب نفسها…. صار بدوره من العوائق التي تحول دون اشتراك النساء بالسياسة؛ فقد حرمهن من طرح غير هذا السؤال: «لماذا؟». فدرنَ على انفسهن دورات عدة من غير فائدة كبيرة، قياساً بضخامة مؤتمرات وأنشطة وشعارات وندوات وحلقات نقاش بُذلت وصُرفت للإجابة عنه.

والأرجح ان طبيعة السؤال نفسه، والتمسّك به من دون غيره من الاسئلة، قد حكم على الخطاب المعادي للفساد بنفس مصير الخطاب المناصر للنساء. «لماذا؟» هو دائماً السؤال. لا سؤال غيره. «لماذا ينتشر الفساد؟». إصرار على السؤال، فيه قدر من المجازفة في تفريغ الاجابة عنه من مضمون يعتّد به. إصرار وتكرار يشدّان نحو التكاسل العقلي. يسهّلان تلقائية وضع لائحة «اسباب». فيضْفيان على الفساد معنى

قد تكون هناك اسئلة اخرى، أقل تعريضاً لتحايل العقل الكسول، اقل سهولة ايضاً: كيف؟ كيف ينشأ الفساد؟ أين؟ أين ينشأ؟ ومتى؟ كيف ينمو ويزدهر؟ في اية سلالم؟ وسط اي افراد؟ او مجالات او بيئات؟ ما هي آليته النفسية؟ ما هي تعريفاته؟ وهل يقتصر على اصحاب السلطة والنفوذ؟ ام ينتشر في اوساط او طبقات او فئات اخرى؟ الخ

ثمة حرية معينة نحتاج اليها لنضيف الى الـ «لماذ؟» اسئلة اضافية اكثر تحديداً ودقة منه. هي حرية التعبير؛ ليس فقط بوجه السلطة الرسمية التي تم التمرّس على مجرّد مهاجمتها طويلاً. بل ايضاً بوجه سلطة غير رسمية تفرض على المثقفين اصحاب المهمة الاصليين، الصمت والكذب؛ وقوامها شللية بنيت عليها شبكة مصالح، عابرة للقيم والافكار والاذواق… تفرض لضرورات المعيشة او البريق الاعلامي او الامتيازات وعياً غائماً عن الفساد، وعياً تقريبياً، لا يمدّ إلا باللازمات.

اذ يفترض بالمتكلم عن الفساد ان لا يكون عرضة له، ولا غائصاً فيه، ولا غارقاً بنعمه غير المرئية. ليس ملاكاً طبعاً؛ انسان من لحم ودم. ولكن مع الحد الادنى من الاستعداد للفساد.

الحياة – 04/05/08

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى