ثورة مصر

لا أوديــب هنــا

رشا الاطرش
تناقل مستخدمو «فايسبوك»، الأسبوع الماضي، رابط فيديو على «يوتيوب» بعنوان «المترددة شيماء». فتاة يؤدي وجهها المموّه فعل الندامة على شاشة قناة موالية لحسني مبارك. تقول إنها انضمت إلى مجموعة تم تدريبها، في أميركا وقطر، على أساليب التظاهر و«أجندات قلب الحكم». تقسم أنها كانت حسنة النيّة، لكنها في ما بعد «ارتابت»، إذ لاحظت أن «المطالب بدأت تخدم أشخاصاً آخرين، ودي مش مطالبنا، مطالبنا تحققت». كيف؟ لا نعرف. المهم أن ضميرها «بدأ يصحو»، حتى أفاق تماماً على صوت «الريّس» متوجهاً إلى المصريين برغبته في أن يموت على أرض مصر. وهنا، تنتحب كما لم تفعل طوال الحلقة: «ده بابايَ، عايزة أقول له أنا آسفة يا بابا، قعدت 30 سنة في الجيش، و30 سنة في الرئاسة، يعني 60 سنة علشانّا، ما ينفعش أرمي أبويَ، شالنا وهو شاب، ونيجي في السنّ ده ونقول له اطلع برّا؟»
طبعاً لم يكن متداولو الرابط هذا بحاجة إلى كبير جهد لتفتيت الفبركة الغبية. في البدء فوجئ الشباب وغضبوا. لكن استمرار السلطة، ذات الوجه العظميّ، في الحملة هذه، صار في ما بعد يسلّيهم. وأخذت الوجوه الضاحكة والغامزة تذيل تعليقاتهم الساخرة على «فايسبوك» و«تويتر»: فهناك مثلاً «الأجندة» التي تحتوي مخطط قلب الحكم (أربعة أشخاص، يمسك كل منهم برجل من أرجل كرسي الرئيس، ويقلبونه سوية). وهناك «وجبة الكنتاكي» التي أنزلت الملايين إلى ميدان التحرير (هابي ميل مع لعبة، وإياك أن تأخدها من غير اللعبة، تبقى من المندسّين!). وطبعا، نصل إلى «بابا» الذي ضحّى 60 عاماً ليجمع ثروة ربما تنطح بيل غيتس (وكل ده علشان مين يا غجر؟). وقد وضع الناشط محمود عزّت، تدوينة لاذعة، بالعامية المصرية، تحت عنوان «خمستاشر وهم: ليه مبارك مش لازم يتنحى الآن». الوهم رقم واحد: «بابا حسني مبارك». ثم يسترسل محمود في كلام سياسي حقيقي، عن آليات الفساد، طغمة قوى الأمن في أبسط تفاصيل الحياة اليومية، ومقومات العيش الكريم المفقودة، من المواصلات إلى الصحة والتعليم وحرية التفكير والتعبير. أما تظاهرة الأحد الماضي، فقد تنادى إليها الشباب على صفحة «حملة عقوق الوالدين».
هكذا، يشخبط ثوار مصر اليوم على صورة «الحاكم الأب». يرسمون شوارب وخطوطاً هزلية على بروباغاندا درامية تليق تماماً بإفلاس سوريالي كان قد امتطاه هجّانة الجِمال وساسة الخيول إلى ميدان التحرير.
وجه الرئيس الوالد
لكن الديكتاتور ما زال ينفخ من روحه في صورة بعينها. وجه الرئيس محلّ وجه الوالد. «فوتوشوب» جماعي يُدفع وعي، ولاوعي، كل مصري(ة) إلى إجرائها ذاتياً. «كيتش» الأبوّة يتكرر في مداخلات تلفزيونية يومية لشخصيات معروفة في دوائر الفن والسياسة والصحافة. حملة منظّمة. مضحكة، إنما منهجية، ولهذا تستدعي التوقف. فجزء من العلاج، برأي السلطة، حقنة تنشّط الموروث الاجتماعي والديني. العصب البطريركي. روابط الدم المقدسة، والأب رأس العائلة. شيخ القبيلة أبوها، لا يُناقَش ولا يرقى إليه شكّ. ربّ البيت، ربّ البلاد، ربّ العباد. يختارنا/ينجبنا/يخلقنا ولا نختاره. نحبّه بالسليقة، بلا شروط. وحده يعرف مصالح أبنائه، القاصرين عنه أبداً. إن حاورَنا أو عاقبَنا، سامَحَنا أو تجاهَلَنا، فذلك لأنه يربّينا، من أجلنا. ومثل الله، هو يعلم ويرى ما لا نعلم ولا نرى. ولذلك، لذلك بالضبط، فإن «الأدب (الطاعة) فضّلوه على العِلم». حشمة الصغير أمام الكبير تحمي الأوطان من فوضى الديموقراطية.
هي حقنة لا تؤلم، ولا تخلّف للعيان أثراً كالبلطات. المُراد تسخين كل السوائل الضرورية لجرف فكرتي الدولة والمواطنية: دموع غريزة بدائية، من إرث لا يجوز أن تبيده «الحَضَر» المتسعة، والجامعات والثقافة، والانفتاح على عالم يُحاسَب فيه رئيس دولة كبرى على سلوك شخصي كما على أداء إدارته. ومع الدموع، دمٌ يغلي في العروق، غيرةً على «شيبة الوالد»، درءاً لـ«عار الابن العاق».
هكذا تفكّر الأوليغارشية، وهكذا تريدك أن تفكر وتشعر.
الحاكم أباً. السياسة بيولوجيا رمزية. الانتخابات بقانون العشيرة. قوّة اللُّحمة المبسّطة، والنقد خيانة، فكيف بالمحاكمة؟ الاقتصاد والحقوق المدنية والحريات والثقافة، دلع أولاد على أبيهم. «نقّ» يُلبّى بعضه، وتواجه كثرتُه بالحزم كي لا يفسدوا. تداول السلطة وآليات الديموقراطية مطالب تجلب الخزي والعار. كيف يرمي الأولاد أباهم؟! الإعلام الرسمي جلسة عائلية. الإعلام الجدّي، الشفافية، تدخّل في خصوصيات البيت التي لا يفضحها الأبناء «المتربيّين» أمام الأغراب. الشرّ دوماً خارجنا. المؤامرة سلاح الداخل. لن تأخذوا أسرارنا من صغارنا، يقول الحاكم. أخلاقُهم سهرتُ على تثبيتها، وراء الشمس.
الأب الحاكم
عشرات وعشرات الأشخاص أطلّوا عبر الإعلام لتركيب رأس الحاكم على أكتاف ملايين الآباء في ملايين الأخيلة. لكثيرين منهم تقاطعات ومصالح مع النظام، وأسماؤهم دلّت عليهم. لكن ثمة من بدا مقتنعاً ومتأثراً بصدق، وهذا ما يخيف. فنّانون و«مثقفون» ومواطنون عاديون غزلوا على المنطق التالي: «نتكلّم كده عن الريّس؟ نقول له لازم تمشي؟ عيب! دي مش أخلاقنا ولا ده ديننا! ده قدّ بابانا!».. «عيب نقول له إرحل! ده أبو المصريين، طلع في طيارتو وحارب عشاننا وما كانش عارف ح يرجع واللا لأ.. 30 سنة بيرعانا، شوفولكم كبير نتكلم معاه!». وأخيراً، ظهر شاب على الفضائية الرسمية، بوجهه واسمه الحقيقيين، ليخبر ما جرى مع «أصدقاء مخدوعين ونادمين»، مثل «شيماء». «المعلومة» هذه المرّة أن التدريب «كان على استفزاز قوى الأمن لتضرب المتظاهرين»! تسأله المذيعة الرؤوم عن «مفاتيح لإقناع أولادنا بالخروج من ميدان التحرير، لأن المطالب تحققت»! وهو يجيبها كطفل هنيّ، لا يقدر على زعل أمّه. يونس شلبي مع كريمة مختار في «العيال كبرت». حتى في المسرحية الشهيرة (1979)، يحاسب الأبناء أباهم، يسخرون منه، يغنّون له وعليه، ويقوّمون أبوّته. يختم المؤدب إذاً: «أنا بس عايز أقول ما يصحّش، نشتم الريّس؟ ده برضو قد أبونا ولازم نحترم فرق السنّ»!
صراع الأجيال ينكّه الثورة من أجل قلب النظام، من أجل بناء نظام. الصراع بادٍ في خلفية الخطاب الأبويّ، كما في مضمونه المباشر. في أدوات الثورة، كما في قماشة الردّ الشبابي. الثورة التي لُفَّ عصبها على مثيلة لها في الاتصالات واختار جمهورها الشاب أن يوظفها لغدٍ يريده أنظف، لَهُ، بلا عناوين كبرى ولا شعارات إيديولوجية. المحدّدُ الآنيُّ يبدو سمة جيل. في الميدان، يشير مراقبون إلى «الإخوان المسلمين» وأحزاب المعارضة… و«شباب الفايسبوك». شباب تونسيون تضامنوا مع أقرانهم عندما قطعت السلطات المصرية الانترنت فأظلمت عليهم ساحتهم. الأممية إكمال عمل الثوار المحاصرين الآن. وزّعت الأخبار والصور، أولاً بأول، على وسائل الإعلام العربية والعالمية. «تويتر» ومدوّنات. صار هؤلاء الشباب هم الإعلام، ولهث وراءهم الإعلام التقليدي. يقول ناشط تونسي شاب في تقرير متلفز إنه يردّ الجميل للمدوّنين المصريين الذين رافقوا «ثورة الياسمين».
أما نائب أحد الوزراء المصريين السابقين، فحينما تحدث في بداية «أيام الغضب» على الشاشة الرسمية، شَكر الشباب على جهودهم وحبّهم لوطنهم، «لكن دلوقتي لازم يرجعوا بيوتهم عشان الشيوخ يحطّوا الخطوات لتنفيذ هذه المطالب». ومؤخراً، رأى رئيس الحكومة الجديد – القديم، أحمد شفيق، أن يتحول ميدان التحرير إلى «هايد بارك» مصري يعبّر فيه الشباب عن آرائهم، «نجيبلهم أكل وبونبوني وتعود الحياة إلى مجاريها في البلاد». الطاغية جُنّ.
ماذا يحصل في مصر؟ جيل طال بقاؤه في الحكم، تعفّن وبعض صغاره، آخر أسلحته بائد. وجيل قصّر المسافات، قفز من فوق التنظيمات والأحزاب، تأبّط ملايين طفح بها الكيل، من كل الأعمار والطبقات الاجتماعية… وانتفض.
حسني، إسمع، هذه ثورة. هذا شعب يحوز وطنه أخيراً. لا أوديب هنا ولا من يقتل أباً.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى