صفحات ثقافية

عن الحكاية العراقية وأحوالها: مـــا الـــذي قــالـــــه الـــســــــارد الــكــتـــــوم؟

null
محمد ثامر يوسف
مرة، بعد عام من انقضاء حرب الكويت، عبّر احد الروائيين العراقيين بوضوح، وهو يضع أولى خطواته في عمان، في هجرة ستكبر وستصير جماعية، عن حراجته من الحرية الواسعة التي عبّأت انفاسه فجأةً، وعن جدواها، وسأل حينذاك كيف يواجهها. بعد وقت قصير من ذلك، في المنفى الذي صارت مدنه تتعدد وتتشظى كما الوطن، أقضّ هذا السؤال الذي أضحى حقيقياً، بل ثقيلاً وصادماً، مضاجع الجميع: ماذا نقول، وكيف نروي ما رأيناه، وما كنا ازاءه وجهاً لوجه؟ مع عمق السؤال وبلواه، سيضحك ايضاً وللمرة الأولى، قارئ قريب ملء شدقيه، متمعناً في ما كتب، فاحصاً الكتابة وانهزاميتها، من عجزها حتى عن التلميح، ساخراً من كتب غرقت على الدوام في وصف استعلائي عجيب “بقصد او بدون قصد” لأشياء لا علاقة لها بما يجري. كتب، وكأن ما يملأها دمدمات مبهمة متسربلة من كوكب بعيد. كتابة غالباً ما كانت مجبولة بلعنة طبعت الكثير من ألوان الثقافة العراقية في الداخل بأمراضها، اسمها “التجريب”. بالتجريب، ساحت كثير من السرديات العراقية لسنين طويلة، وغابت كثير من التفاصيل الدقيقة التي تتعلق بحياة البشر. سرديات استهلكت نفسها طويلاً بلغة عويصة ومتكلفة، لم تكن تقول، أكثر مما كان همّها أن تسود، مزهوةً بتلك الطمأنينة الخفيفة التي تصطفيها رقماً في متوالية كتب أخرى صارت تتوالد سريعاً، بينما كانت المحنة من جهتها تحفر عميقاً لتطيح كل شيء رويداً رويداً، مدوِّنةً بطريقتها المعهودة، آلاماً وجروحاً فادحة.
بعد عقد ويزيد من صرخة عمان، واجه المثقف العراقي في الداخل، السؤال ذاته، لكن بظروف أخرى وتداعيات مختلفة ومضاعفة. فمع انهيار النظام السياسي ودخول القوات الاميركية العراق، انكشف هذا “الراوي” على قوة الصرخة الاولى نفسها وهي تحدّق بعينين أوسع هذه المرة، اي الى الحقيقة الماثلة التي هي بوصف دقيق، صورة أقرب الى الخيال منها الى الواقع، مع أنها ملموسة وساخنة. صورة تتكرس كميلودراما ينسجها صانع أفلام ماهر، نشيد فيلم مرّ، وحيد وطويل، حافل بكل ما لا يخطر في البال، يمتد على سعة هذه الجغرافيا، وهي الصورة التي ستمكث في تلك العينين، لكن بقوة احتمال المشهد المؤلم وقسوته، المشهد الذي جسّد بلمعان فريد كثافة ما يمكن أن تفعله الفوضى وتشظيها في المكان.
لعنة وفضيحة
اللعنة (الطريقة) التي استمرأها روائيون وقصاصون عراقيون عديدون طويلاً في الداخل، والتي أخذت كثيراً من الوقت، انكشفت على ما يشبه فضيحة كتابية، هي أشبه بالخواء أمام قارئ اعزل، يجيد من جهته التماهي مع الواقع المأسوي بإقناع اكثر مما لأحد أن يدوّنه، قارئ (فرد) يحدق جيدا الى مرآة يديه، شاهداً وحده على جحيمه غير المرئية ولو نسبياً في كتابة لم تتلمس الا لماماً شيئاً من ذلك. يتعلق الامر بالحرب الايرانية وأهوالها، ثم حرب الكويت والحصار المجنون الذي أطبق فكّيه في ما بعد على كل شيء، ثم أخيرا على دراماتيكية الاحوال الراهنة وغرائبية ما حصل بعد العام 2003.
فبعيدا من الكم الهائل من السرد التعبوي الحربي المجاني الذي سُمِّي زورا بأدب الحرب في ثمانينات القرن الفائت وما بعده، من جهة، ومن جهة اخرى بالقليل جداً مما ناهض ذلك شكلاً وموضوعاً، من روايات كتبها خارجون تواً من أتونها، أو قبل ذلك بسنوات، وظهرت خارج البلاد محايثة الى حد، ذلك الجنون، عدا ذلك أقول وباستثنائه، فإن الكثير من هذه الكتابات، توسدت مخدة النوم مستغرقةً أكثر مما يجب بهذه الطريقة التهويمية في ليّ الكلام، والحلم باجتراحات لغوية ظلت العلاقة معها أقرب الى الشبق، منها الى البوح والتأمل العميق. بعض مستحسني ذلك، كانوا بالفعل محسوبين على ما سمِّي بجيل الريادة الجديدة داخل البلاد (الستينيون والسبعينيون مثلا)، الذين جرّوا خلفهم حشداً ممن أتى بعدهم على هذا الصراط، مغويين آخرين جبلوا على هذا، ممن كتبوا بإيحاءات اللغة ذاتها وضغطها، فملأوا صفحات مشابهة بارحت كتاب الدم، وراحت تجترح نصوصاً لا علاقة واضحة لها بشيء، ليس خشية من نظام بدأ يتأكل شيئاً فشيئاً فحسب، ولكن أكثر بسبب ذلك الولع الشديد بتحشيد الكلمات والاهتمام بهندستها المتكررة – ولِمَ لا – ربما حتى الخشية من قوة المغامرة في ابتداع وسائل جديدة ومغايرة في السرد، تلك التي بدأت ملامحها بالظهور قليلاً عند بعض الشباب خصوصاً، وغيرهم، قبل الغزو بقليل وبعده بصورة أوضح، وأخذت تفصح عن الكثير من الأشياء والتفاصيل اليومية، بعيداً من المرموزات المغالية، أو النصوص الأقل وعياً بحراجة الظروف المعيشة وقسوتها. لكن اللافت والطريف في ما بعد، أن جمعاً من أولئك الآباء أنفسهم، ومن تبعهم، كتبوا أو أفصحوا في بعض الجلسات الثقافية القليلة التي صارت تعقد أو تتم فيها مناقشة مستقبل السرد العراقي، أو ما حصل فعلاً، بما فيها جلسات النقاش على المنصات وغيرها (قاعات اتحادات الادباء، مثلا، أو حتى في الجلسات الخاصة) بعد إسقاط النظام في 2003، أنهم كانوا، يواجهونه بتلك الطريقة! بمعنى أنهم كانوا يقولون ضمنيا كيت وكيت ضده، ومنهم أدباء بارزون. هذه المنصات نفسها استقبلت أيضاً بعد هذا التاريخ روائيين وقصاصين آخرين قدّموا توقيعات مباشرة، فانفجرت كتاباتهم كردود سريعة على ما يجري. لكنها كتابات خذل كثيرها قوة الجوانب الاخرى التي تمليها شروط السرد ومقوماته، وخصوصاً بعدما صارت التجربة كلها تنكشف على كتابة اسلوبية مختلفة ذات حساسية مغايرة، هي في الحقيقة أقل تعقيداً، وأعمق اجتراحاً وقرباً من وهج اللحظات الانسانية في الواقع، قدّمها على طبق، الانفتاح الهائل في الحياة العراقية “الجديدة”، على آخر قريب، أو عند روائيين عراقيين أيضا دوّنوا في الخارج قبل هذا الوقت وبعده، شيئاً من سيرة ذلك الالم، عدا انتباهة البعض في الداخل لما وجب تدوينه بأمعان وتفاعلهم معه. إذ لا يمكن إغفال الاعمال السردية التي قدّمها بالفعل روائيون معينون بعد العام 2003، امتازت اعمالهم برائحة مختلفة وطعم جديد عما تم إنجازه على صعيد اللغة وطزاجة الموضوع الذي أصبح أكثر حرارة وأكثر إيغالاً في الكشف. لكننا ونحن نتحدث عن ظاهرة شاملة، وعن واقع عراقي طوباوي لا يشبهه أي واقع كوني آخر، فإن ما تمّ رصده قليل قياساً لمحمولات هذا المشهد وتحولاته العبثية وفجائعيته وسعة تفاصيل ما يمكن الحديث عنه في الكتابة، عن ذلك العنف الاعمى الذي طوّق البلاد، وعن طبيعة العلاقات الجديدة التي سادت بين الافراد، والتي رسمتها ظروف الحال الاجتماعية والاقتصادية الجديدة بإيقاعها المضطرب والمخيف، وكذا عن القيم المأزومة وتحولات المزاج العام، وبالطبع عن تداعيات الاحتراب السياسي والطائفي الذي غلّف ذلك كله.
السؤال الإشكالي
لذا، فإن من الطبيعي، ونتيجة لذلك، أن يواجه السارد العراقي من جديد ذلك السؤال الاستفزازي الاشكالي العميق الذي تداولته الألسن مرةً أخرى، ويتقبله، وفحواه دائما، أن الناص العراقي (في غالب ما كتبه) يشهد المأساة بأمّ عينيه، بينما يذهب ليدوّن أشياء أخرى.
مقولة تحفّ بها مقولة شائعة أخرى أو تتذرع ضمنيا بها، وهي: ان كل كتابة مهما علت، لا يمكنها أن تصف هذا الواقع العجائبي أو تعلو فوقه. مقولة تبدو طبيعية ايضاً بالرغم مما تحمله من مجاز. فنص الجحيم السائد وما يرسمه الفاعلون الاصليون هو الأقوى والأبلغ. ولكن ما الحل؟ وهل من السهولة مغادرة كل شيء، أو إغماض العينين؟
لا مفر أيضا من الاعتراف بأن ثمة كسلاً سائداً في مواجهة ما يجري والتحديق اليه. ثمة استرخاء غير مبرر في إعادة إنتاج الصورة الماثلة وإعادة تدوين اللوعة بكل ما تحمل من دلالات. بل لا بد من القول إن مناقشة واقع الرواية حتى الآن ضعيف ولم يتم بالشكل المطلوب، لا على صعيد المؤسسات الثقافية، ولا التفكير بذلك على مستوى الافراد او النخب.
ففي السياق، وفي مقابل ذلك، لا يزال الشعر يسحب البساط مما حوله، ويستحوذ على كل شيء بقوة حضوره التاريخي الثقافي في المكان أولا، وكذا بإمكانات ما تحمله طبيعته. فعلى المنصات وفي أروقة المؤسسات، ثمة شعر. في المهرجانات الدائمة، وعلى صفحات الجرائد، ثمة شعر كثير. ومن هذا يمكن أن نلاحظ ضعف حضور الرواية، ومناقشة حالها وأوضاعها حتى الساعة. لا ندوات أو مؤتمرات حولها، ولا نقاشات معمقة، إلا في ما ندر، وفي الإمكان عدّ مؤتمر واحد عُقد للرواية، أو اثنين انتظما وتناولا أوضاع القصة وواقعها، طوال السنوات السبع الماضية.
لا يتحدد مفهوم الكتابة السردية وعلاقتها بالواقع بشكل واضح في أدبيات الثقافة العراقية بعد العام 2003 (السرد بشكل أخص)، مع أن وقتاً طويلاً مرّ حتى الان. فإذا كان الزمن السياسي الجاري، وعمر التحولات الاجرائية في بنية “الدولة” ما بعد هذا التاريخ وارتباكاتها، مفهوما الى حد، فإن ذلك غير مفهوم على الاطلاق في ما خص عدم كثافة التناولات السردية المنجزة ومناقشتها حتى هذا الوقت، وضآلة ما صدر في هذا الشأن، باستثناءات قليلة، يمكن الاشارة اليها.
ولعل اسباباً عديدة لذلك قد يطرحها البعض، لها علاقة بالانحيازات الضمنية، وطبيعة المناخ العام، ومدى القدرة التفاعلية مع الاشياء، وحساسية كل مدوّن على حدة.
تحريك السكون
مع ذلك لا يمكن عدم الاشارة الى بعض هذا القليل الذي حرّك شيئاً من سكون هذه البركة، كتلك الروايات التي قدّمها كتّاب عراقيون عاشوا المحنة أو تلمّسوا حرارتها. على سبيل المثال، التفاصيل التي عكستها رواية شاكر الانباري “نجمة البتاويين”، حين جعل من طلة فندق متواضع في حي البتاويين وسط بغداد، وهو عبارة عن شقة صغيرة، مرصداً جمع بعض الاصدقاء، ليطلّوا منه على واقع مدينة أصبحت لا تشبه نفسها، حين تحولت  عنوانا لروح اخرى، او مرتعا يجوب فيه القتلة والسرّاق وعصابات الخطف الشوارع. يتحدث شخوص الرواية داخل هذا الحيز، عن هذه الحياة وهي تعج بالضحايا والابرياء، مثلما تعج بالسفلة ومتعاطي الحشيش والقواد، متواصلين بطرق شائكة مع احياء بغداد الاخرى ومناطقها الاليفة، وقد اصبحت صعبة الولوج في وقت ما. من هذا المكان الذي اسمه “نجمة البتاويين”، تنطلق الرواية وتتداعى فيها حكايات عبثية عما يحدث في بغداد.
بينما جسدت لطفية الدليمي في روايتها “سيدات زحل” وبطريقة أخرى، شيئاً من تلك اللوعة، لكنها توغلت أكثر نحو تاريخ بلد كامل عبر ازمنة عنفية متداخلة وطويلة وصلت في ذروتها الى ما حصل بعد العام 2003 حين تأجج العنف والتهجير وتصاعد المد الطائفي. فالسقوط في نظر الدليمي، تجاوز سقوط المكان الى ما هو افدح، الى سقوط آخر تعلق بالقيم والافكار وسيادة القوى الظلامية، سابرةً عبر شخصياتها النسائية بالذات، الكثير من تلك الايام الصعبة ولياليها الموجعة، بما فيها الايام التي عاشتها بالفعل الكاتبة في بيتها في بغداد، ساردةً أزمنة السقوط المتعددة ما قبل الاحتلال وما بعده. فالألم الانساني هنا، بحسبها، موصول وغير منقطع.
يستهل الروائي علي بدر في “حارس التبغ”، تنامي احداث روايته، بمشهد جثة وجدت بالقرب من نهر دجلة في بغداد عام 2006، جثة رجل مر بمراحل عديدة، هي بمثابة اختصار لتحولات العقود العراقية الاربعة الاخيرة، بتناقضاتها الحادة وأمزجة أفرادها المختلفة، ملقياً الضوء ايضا على طبيعة الفرد، واثر هوية الطائفة، أو بلواها في أحيان عليه، إذ تصير سبباً للإبعاد القسري والهجرة والخوف، وخصوصا حينما تختلط بالمزاج السياسي وتدافع المصالح.
يصوّر أحمد السعداوي في روايته “إنه يحلم أو يلعب أو يموت” بعض المشاهد اليومية الصادمة التي حصلت بعد سقوط النظام مباشرة حين يقدم ما حصل، برؤية سوداوية قاتمة، مشوبة بسخرية مرة، وعلاقة الناس بالأشياء حولهم.
أما “الحفيدة الاميركية”، رواية الكاتبة انعام كجه جي فتكشف عن عمق أزمة الانتماء الى المكان والتباس الهوية، فثمة تركيز مكثف لصراع العلاقات الشخصية وتحولاتها حتى بين الناس الأكثر قربا. فمن خلال شخصية المجندة الاميركية زينة، ذات الاصول العراقية العائدة كمترجمة مع القوات الاجنبية، تستعاد تفاصيل شتى، كانت منسية. وتنفتح هذه، على شكل جروح نفسية جديدة، لدى الجميع: الجدة التي تجاوز عمرها الثمانون والتي تلتقيها زينة في ظروف غير طبيعة ومتخفية، والعلاقة مع الاخ عبر الرضاعة، الاسير السابق في ايران والمنتمي اليوم الى إحدى الميليشيات الشيعية…، في هذا النمط من العلاقات الضاجة تستعيد كجه جي، تاريخا مضطربا وقاسيا مرّت به البلاد عبر شخصيات متضادة اليوم، لا يكاد يجمع بينها جامع راهن، الا وشم تاريخ تحول واقعاً مفترضاً مليئاً بالمفارقة والتضاد، تاريخ يتحكم فيه الكبار فقط، فتبدو مصائر الافراد غائمة وعابرة بالرغم من الاهوال والعقد النفسية التي تعيشها وتصارعها.
يدون نصيف فلك من جهته في روايته الثانية التي صدرت حديثاً، وعنوانها “عين الدود”، صوراً عدة من تلونات العنف العراقي، معيداً العنف الجاري لصراع الايديولوجيات السياسية في المكان العراق الراهن. ففي لغة تتميز بالسخرية مما حصل ويحصل، يذهب منوّهاً بالصراع الطائفي الايديولوجي الى قوتين سياسيتين جارتين توجهان مصائر الافراد الذين روّعتهم تفاصيل المحنة. فـ”الدود” هو الملاذ في رواية فلك، والعنف هو عنف موصول منذ ايام الحرب العراقية – الايرانية، وصولا الى عنف ما بعد الاحتلال الاميركي للعراق، حيث يتهندس الموت بعد ذلك وينتظم اكثر على أيدي من يسميهم “المجاهدين” في الرواية، الذين يتفنن ذبّاحوهم بتعذيب الضحايا واستخراج احشائهم وهم أحياء، مارّاً بالعنف المقابل، عنف روّع البلاد برمتها وأدخلها في أتون احتراب طائفي، أو كاد.
عن قدرة الأدب وقدرة الحرية
يمايز الناقد والروائي الايطالي المعروف أمبرتو إيكو بين معنيين  اساسيين لهما صلة برغبات الكاتب وطبيعة عمله من جهة، وبين ظروفه المحيطة من جهة أخرى، باعتبارهما مفهومين يتعالقان، بقدر ما هما إشكاليان، نتيجة ما بينهما من تقاطعات أو التباس. أجاب مرة، عن سؤال بسؤال آخر، وهو ما مدى قدرة الادب وإمكاناته، وما هي كفايات الحرية وقوة تحملها وصلابتها؟ ما الذي ينجزه الادب وما الذي تملكه هذه الحرية وتتيحه للكاتب؟
من هذه الجهة وبوضوح، لا يسمح التراث المعاصر للسرد العراقي (كظاهرة)، مقارنةً مع غيره في بلدان أخرى، بتوفير معطيات حية لرؤية أي ناتج لهذه العلاقة ولا للانكشاف على أي قراءة تسعف في الركون الى شيء يسير منها طوال العقود الماضية. يغدو الموضوع أكثر تعقيداً حتى عند التطرق الى مفهوم الحرية ذاته كفكرة مستحدثة نسبيا اليوم وعلاقتها بالانسان، ومدى قدراتها على حماية الناس في التعبير عما يريدون. وفي الاساس من ذلك، رغبة الكتابة في التعبير عما تراه وما تستلهمه من ذلك الواقع، حياة الناس والعلاقات بين البشر داخل المجتمع، وبينهم وبين آخر قريب مثلاً، وخصوصا أن ثمة قيوداً نفسية وداخلية ماضوية لا تزال قابعة حتى الآن في الذات وتعوقها من البوح او الخوض في كل شيء. فضلا عن ذلك ومن ضمنه، تعدد الرقابات العامة والمجتمعية وتعدّيها على هذه الحرية، بل وتواطؤ الرسمي في أحيان مع هذه الرقابة.
حدّثني روائي وكاتب عراقي معروف كيف أن روايته مُنعت في اللحظات الاخيرة من الطبع في دار نشر ثقافية رسمية كبيرة، بعدما أجازها الخبير، لمجرد وقوع عامل المطبعة، مصادفة، اثناء التصحيف، على إسم عشيرته في الرواية، ما فسّره هذا مسّاً بها، او تجاوزاً على حرمتها، وهي القضية التي أثيرت العام الفائت وتناولتها وسائل الاعلام، ثم خمدت بسرعة.
تسطع مثل هذه الرقابات بسهولة، حين يتاح لها، وتجد حين تريد ظلاً وحماية، رقابات افقية تمتد بحجج وذرائع مختلفة، وتحركها التابوات ذاتها التي لم تنقرض، مضافاً اليها ما تفجر من مكبوت العادات والاعراف والطقوس الجمعية.
مستقبل الكتابة السردية
لا يمكن في كل الاحوال إغفال التماثل المأزوم ايضا في العلاقة مع ما يجري في الواقع ونظرة المثقف الى ما حوله اليوم وما يمكن ان يفعله ولو بالقدر الذي تتيحه الفرص القليلة التي تحققت، سواء من خلال تأمل ما حصل، او استيعاب التحولات التي خلقتها تداعيات الزلزال العراقي في الممارسة اليومية وفي الحياة.
فنظرة جدية الى المتن السردي الطويل في الادب العراقي طوال الفترة السابقة، تستدعي سؤالاً شبيهاً، سوف يظلّ يرنّ، ويتعلق برؤية الكاتب لمستقبل كتابته، تماما كالسؤال الذي ظل معلقاً في البحث عن الكاتب نفسه، عن لحظات اختلائه وتأملاته، عن افكاره ورؤاه: أين يجب ان يكون والى ما ينظر؟ ما هي مؤهلات الكتابه لديه، وما هي المواضيع التي يقع اليها؟ الى ماذا ينحاز. وفي الضرورة، ما هي الفضاءات التي ينخلق من خلالها نصه؟
أن ما أنتج من نصوص وكتابات، وما تم إصداره ومناقشته، يلقي بظلاله على طبيعة تلك الازمة الحادة التي تتعلق بنظرة الكتابة ومستوياتها وعلاقاتها بالمناخ العام . مع ذلك، لا بد من الاعتراف قبل كل شيء بالقطيعة الاساسية التي اعترت علاقة الادب بما حوله بشكل عام لسنين طويلة حتى الآن. لا بد من الاعتراف بالوسائل الاجرائية التي وقفت في طريق هذه العلاقة، بموضوعة الحرية نفسها في العراق. لا يتعلق الامر بالسياسة وحدها، بل بالمخبوءات المجتمعية، بالضغائن والقيم المحنطة، وقبلها بمدى جرأة الذات في كشف ذلك وملامسته. تلك القطيعة أوجدتها المركزيات الابوية المطلقة على كل شيء، وخلخلت الكثير من المفاهيم والاحكام الثقافية وجعلتها في مهب الريح، وهي سيطرة لا تزال آثارها باقية حتى الآن بصورة من الصور، في السلوكيات العامة وفي نمط العمل الثقافي، في طريقة الاداء، وفي العلاقات بين الافراد. حتى أن سؤالا بسهولة من الممكن ان يتردد الان، مثل هذا: من قال ان صدام ذهب؟
مع ذلك كله، لا مناص من إعادة تأمل كل شيء، بما في ذلك هذا الترابط الجدلي ما بين النص بسماته المتحققة كنوع قابل للقراءة الدائمة، كنوع يشابه الوثيقة او يقاربها (لخصوصية الموضوع العراقي على الاقل)، وما بين الحرية التي تحددها ظروف الواقع، والتي تتجلى اول ما تتجلى بعلاماتها ومعطياتها الطبيعية في الكتابة. مع بديهية ذلك، الا أنه يمكن تحديد معوقات أخرى تتعلق خصوصا في التراث الهائل الذي حوى قيماً ثابتة ومقدسة أعاقت تطور هذه العلاقة مع الحرية بمعناها الدقيق.
في العموم، ليس من السهولة الركون الى مشروع كتابة نصية وإنسانية استنهضت قوتها من داخلها ومن معطيات الحال وافتراضاتها، وأستطاعت أن تتواءم مع جدوى العلاقة التي افتتحنا بها السؤال الاول: ما حقيقة العلاقة بين الادب/ النص والواقع؟  في إمكاني أن أقول إن ما حدث ليس سارّاً دوماً، بالرغم من انني اعرف الظروف، وأعرف كيف صارت الكتابة في ذاتها محنة، أو مهمة عسيرة، تستدعي الكثير من التحدي الشخصي ومواجهة الذات مع ثبات سؤال الجدوى الدائم، ذلك الذي يلاحق مصير كل فعل خلاّق خالص، ويطرح سؤال المعنى نفسه بقوة في الحاضر، كلما تحسس المرء أنفاسه أو نظر الى ما حوله من أشياء، سائلاً للمرة الاخيرة عن معنى هذا الكم الهادر من الكتابة المستمرة، عن الكتب والاوراق، عن اللغة السائحة التي تتردد مدويةً عبر الزمن! ¶
النهار الثقافي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى