ثورة مصر

لكل ظالم نهاية

null
منى فياض
يشير ماك لوهان، صاحب أهم مؤلف عن وسائل الاتصال الحديثة “الماس ميديا”، الى أن العامل الأساسي الذي لعب دور الصاعق في إحداث التغيير في أميركا والتسبب في تحرير السود من عبوديتهم وفقرهم في الستينات، كان اختراع التلفزيون ودخوله إلى كل منزل ناقلاً أنماط عيش لم تكن في متناول السود ومظهراً لهم الهوة التي كانت تفصلهم عن مواطنيهم في البلد نفسه. وكان من تداعياته المتوسطة المدى، التغيير الكبير الذي بدأ يتبلور منذ ذلك الحين، والحقوق التي اكتسبها السود تدريجياً إلى أن وصل الامر بعد أربعين عاماً إلى ارتقاء أوباما سدة الرئاسة.
تطورت وسائل الاتصال منذ ذلك الحين بشكل غير مسبوق، وجعلت التفاعل بمثل سرعة البرق، فهو آني: الآن وحالاً! وكأن البرق يسبق صوته، والتغيير حاصل قبل أن نعيه.
لنتخيل ان الثورة في تونس ومن ثم في مصر، حصلتا من دون أن يتمكن الإعلام من بث وقائعهما عبر الصوت والصورة أولاً بأول وخلال تتابع الأحداث، فماذا كان ليحصل؟ مجازر تفوق الوصف، وربما تتغلب على مجازر حلب وحماة، التي لا تزال تشل حركة السوريين حتى الآن. وإلا فما الذي يمنع أنظمة الاستبداد من استخدام مدافعها وصواريخها، التي يحرسها الغرب الديموقراطي، ضد المتظاهرين؟ ما الذي يمنعها من تقطيع أوصال المدن والمحافظات وإبقائها جزراً معزولة ومقطعة، شاعرةً بالعجز وقلة الحيلة، متخليةً عن مطالبها الأكثر من مشروعة، بل التي تأخرت عن رفعها؟ فتقطع الطرق والهواتف وكل وسيلة للاتصال او الانتقال، وتتم السيطرة على الوضع ويعود كلٌّ الى منزله، فتتمكن السلطات البوليسية من اصطياد الجميع واحداً واحداً والزج بهم في السجون أو اقتناصهم عبر الاغتيالات وأنواع الموت الغامض والمشبوه، إذا لم يكن شنقاً بتهمة الخيانة! وهو الوضع الذي لا يزال يخيم على بلادنا للأسف!
الانترنت والـ”فايسبوك” والـ”تويتر”، وسائط حديثة منعت حتى النظام الإيراني، المغلق على نفسه والمروّج لبروباغندا الديموقراطية والحكم بإرادة الشعب، من الذهاب بعيداً جداً في إشباع شهيته في القتل وقمع التظاهرات، بالرغم من أن الاعدامات مستمرة لمن أعلنوا ثورتهم الخضراء، وبعيداً من الاعلام.
لهذا كان التغير في التاريخ، الذي هو أحد نواميس الطبيعة الجوهرية، يحصل ببطء وتلزمه عشرات بل مئات السنين ليأتي سبارتاكوس واحد كل قرون.
تبدّل الوضع الآن، فالتغيير يحدث في غمضة عين من الآن وصاعداً، وما بدا مفاجئاً لن يعود كذلك. هناك شروط جديدة للحياة لم يعد مقبولاً التغاضي عنها؛ وهناك حقوق أساسية للإنسان لا يمكن تجاهلها حدّ حرمان الشعوب العربية منها: الحق في الكرامة، ويشمل الغذاء والسكن والدواء والتعليم والحقوق السياسية الكاملة. الشباب العربي يعاين كيف يعيش أمثاله في البلدان الحرة ولا يرى سبباً لجعله شبيهاً بإنسان العصور الحجرية، ويحصل على أقل مما تحصل عليه الحيوانات في الدول الغنية التي تتواصل “بديموقراطية” مع حكّامنا.
قد يطول التغيير في منطقتنا، فالأنظمة تمرّست بالقمع، والقائمون عليها لديهم كمّ خرافي من الامتيازات بحيث لا يمكن العاقل ان يتخيل أن من الممكن إزاحتها بسهولة. لكن الشرارة بدأت والسيناريوات متعددة بالطبع؛ بتعدد البلدان وباختلاف تكوينها وباختلاف مميزات الفئات الاجتماعية المعنية بحمل التغيير. فهذا التغيير أسهل في بلد متعلم حيث حجم طبقته الوسطى واسع وعريض. من هنا سهولة التغيير الذي فاجأنا في تونس، من دون ان ننسى أنها بلد ذو شعب صغير من حيث عدد السكان. أما في مصر فسيكون المخاض أصعب وسيأخذ التغيير وقتاً أطول، فالنظام نفسه متمرس بالحكم وقد طوّر آليات متعددة للسيطرة على الشارع، والبلد فقير، فالملاحظ أن ثورته لا تزال بعيدة عن الأرياف التي انطلقت منها ثورة تونس، وهي تطاول شريحة المدن ذات الحجم الكبير والفئات الوسطى المتعلمة التي لا تجد أفقاً لحياتها سوى الهرب من بلدها. وسيظل الغرب متفرجاً، آملاً عدم حصول التغيير المفاجئ لأنه لا يهمّه حصول مثل هذا التغيير الجذري بمثل هذه السرعة، مما قد يضر بمصالحه الآنية والمتوسطة ويهدد إسرائيل التي بالرغم من أنه بدأ يضيق ذرعاً بسلوكها إلا أن هذا لا يعني أنه لن يستميت في الدفاع عنها لأسباب عديدة ومختلفة.
على كل حال، تعطينا الأحداث المستمرة في كل من تونس ومصر، إشارة الى أن شرارة التغيير انطلقت، وأن قمع هذه الثورات الآن لن يجدي نفعاً إلا في تأخير التغيير وفي جعله دامياً وعنيفاً. يضعون الناس في الزاوية ويطلقون عليهم النار ثم يستغربون كيف ينطلق ما يسمّى “الإرهاب” في وجوههم. يريدون من الضحية أن تموت تحت أقدامهم مبتسمة! وربما يحصل هذا لفترة عندما تتذاكى الأنظمة وتعلف الضحية بشكل أفضل. نقل إلينا صديق سوري في احدى صفحات مدونة بين مجموعة من الاصدقاء قصيدة معبّرة جداً للشاعر المصري حافظ ابراهيم المتوفي عام 1932 واصفاً فيها مصر، آخذ الأبيات التالية:
أنا إن قدّر الإله مماتي لا/ ترى الشرق يرفع الرأس بعدي
ما رماني رام وراح سليماً / من قديم “عناية الله جندي”
كم بغت دولة عليّ وجارت/ ثم زالت وتلك عقبى التحدي
إنني حرة كسرت قيودي / رغم أنف العدا وقطعت قيدي
لقد قُتل المئات في يوم الغضب وقبله وبعده لكن ذلك لن يوقف التغيير. من الشعارات التي شاهدتها الشعار المعبّر الآتي: “معليش يا بلدي اتأخرت عليكي”. لقد بدأت حقبة التغيير ومن الأفضل بالطبع أن تحصل بشكل سلمي وبالتدريج. ذلك يتطلب من كل مستبد، سواء أكان صغيراً أم كبيراً، فاسداً أم مختبئاً تحت شعارات وطنية كبيرة، أن يستمع الى “الرجل الصغير المقموع” الذي بدأ يرفض عبوديته. حمل رجل مصري عجوز لافتة، عبارة عن كرتونة صغيرة، عليها الجملة البسيطة الآتية: “كلمة الله: انه لكل ظالم نهاية”! ¶
النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى