صفحات سوريةمحمد سيد رصاص

ثنائيات عربية متضادة

null
محمد سيّد رصاص
نصَب الإنكليز الشريف فيصل بن الحسين ملكاً على العراق في شهر آب من عام 1921 بعد ثلاثة عشر شهراً من إخراج الفرنسيين له من حكم سوريا إثر معركة ميسلون، وقد ظلَ الهاشميون في بغداد، ابتداءً من ذلك التاريخ ولسبعة وثلاثين عاماً، يسعون إلى استعادة حكم دمشق.
أنشأ هذا ثنائية متضادة، ومتجابهة، بين الشام والعراق، شبيهة بالوضع الذي كان في زمن الدولة الأموية، ما قاد إلى انهيار الأخيرة في عام 750 ميلادية بعد سبعة عقود من الاضطرابات التي تركزت في العراق ضد الحكم المركزي بدمشق بدءاً من حكم عبدالملك بن مروان. منذ عام 1921 رُسِمت السياسة العراقية باتجاه بوصلة الشام، وبعد عام 1946 ارتسمت استقطابات ومحاور السياسة العربية، عند القاهرة والرياض، باتجاه هدف منع الهاشميين في العراق من العودة إلى حكم دمشق، فيما دارت ـ وانقسمت ـ مدارات الحياة السياسية السورية بين مشروع (وحدة الهلال الخصيب) وضده، إلى أن كانت وحدة 1958 انتصاراً للقاهرة ـ ولمواليها السوريين ـ على بغداد، التي انهار فيها حكم الهاشميين بعد خمسة أشهر من تحقيق تلك الوحدة السورية ـ المصرية.
لم ينته ذلك التضاد بين دمشق وبغداد في يوم 14 تموز 1958، بل أخذ شكلاً جديداً من الصراع بين عبدالكريم قاسم (ومعه الشيوعيون) وعبدالناصر وحلفائه العراقيين، في حزب البعث وحركة القوميين العرب الراغبين بانضمام العراق إلى دولة الوحدة، فيما كانت مخاوف عبدالناصر من “هلال خصيب بعثي”، إثر وصول البعثيين إلى حكم بغداد ودمشق بين يومي 8 شباط و8 آذار 1963، بدون أساس، حيث انهار حكم البعث في العراق مع انقلاب عبدالسلام عارف يوم 18تشرين الثاني 1963، لتدخل بغداد في مدار القاهرة ضد دمشق، وهو ما استمر حتى استيلاء حزب البعث مجدداً على حكم بغداد بين يومي 17 ـ 30 تموز 1968.
ظنّ الكثيرون أن عودة البعث لحكم العراق ستؤدي إلى تلاقي بغداد ودمشق التي كان يحكمها البعث لخمس سنوات مضت قبل ذلك، وعندما خاب هذا الظن انتعشت الآمال من جديد بعد سقوط حكم اللواء صلاح جديد في دمشق يوم 16 تشرين الثاني 1970، انطلاقاً من الاعتقاد بأن انشقاق حزب البعث بين جناحي القيادتين القومية والقطرية في عام 1966 كان سبباً في ابتعاد دمشق وبغداد مع عودة البعثيين العراقيين الموالين للقيادة القومية للحكم في عام 1968، الشيء الذي لم يتحقق حتى مع اشتراك الجيش العراقي في حرب 1973 ضد اسرائيل في الجبهة السورية، ليتصاعد التوتر الذي وصل منتصف السبعينيات إلى حدود حشد القوات والنزاع على مياه الفرات.
أيضاً، لم يتحقق ذلك حتى عبر التقاطع الذي حصل بين العاصمتين إثر توقيع اتفاقيات كامب دافيد (17 أيلول 1978) وخروج مصر من ساحة الصراع العربي ـ الإسرائيلي لما دخلتا في تقارب كاد يتحول إلى خطوات وحدوية، حيث انهار كل ذلك مع انفراد صدام حسين بالسلطة في بغداد إثر ابعاد الرئيس البكر يوم 16 تموز 1979، ليعود التنافر والصدام ويصلا إلى حدود قصوى مع دعم العراق تنظيمات المعارضة السورية المسلحة في عامي 1979 و1980 ثم مع تحالف دمشق وطهران في فترة الحرب العراقية ـ الإيرانية، وصولاً إلى محطة غزو الكويت في 2 آب 1990 لما وقفت دمشق في صف التحالف الدولي ضد صدام حسين.
لا تشكل الثنائية المتضادة بين دمشق وبغداد حالة منفردة في السياسة العربية، بل نجدها أيضاً بين الرباط والجزائر منذ حربهما القصيرة في عام 1963بسبب نزاع حدودي بعد أشهر من استقلال الجزائر، وهو ما تطور إلى التأزم والتجابه مع بداية الأزمة الصحراوية منذ عام 1975، هذه الأزمة التي ربط اخيراً وزير الخارجية الجزائري بين حلها ومسألة فتح الحدود بين البلدين المغلقة منذ عام 1994، بينما تعطي دولة قطر منذ منتصف التسعينيات، مؤشرات على أخذها لدور وانتهاجها سياسات بدعم دولي، هي في مدار آخر بالقياس إلى سياسات المملكة العربية السعودية.
يعزو الكثيرون هذه الثنائيات المتضادة التي يعاني منها العرب، إلى مؤامرات دولية تم رسمها في دوائر تخطيط السياسات بالعواصم الكبرى، من أجل إنشاء نزاعات عربية بينية دائمة للحفاظ على حالة التفرقة العربية بما يؤمن مصالح الدول الكبرى، فيما يقول آخرون إن ذلك يعود إلى تصادم الأدوار (والمصالح) وفقاً لعوامل الجغرافية السياسية: فهل تسهل مقاربة هذا الموضوع؟.
المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى