صفحات من مدونات سورية

مُتكّأ..

متعبة هي السماء فوق مدينتي، النجوم المدفونة في أدخنة المصانع تسير فوقها مترهّلة تشي بالموت، عازف الأوكورديون الضرير تحت الجسر المقابل لشقتي يعزف “فيفالدي” ويبيع الهواء للمارّة؛ المارّة الذين لا يعيرونه أدنى انتباه يسيرون بسرعة في خطوط مستقيمة متقاطعة وغير متقاطعة، المطر يزيد من رتابة خطواتهم. وبرودة الهواء يزيد من تشنّج مفاصلهم..
العاشرة شرقاً؛ العازفُ يستدعي أبدية الجحيم ويلوّن مزاج الليل بملحمة من صنع”فاغنر” هذه المرّة، قلقٌ مرمّد يختزلُ الكلام في فمي.. أعدُّ الموتى في تلك الملحمة: واحد.. اثنان.. أربعة.. عشرة.. تسعة عشر.. وستة وعشرون.. يضيق فرحي أكثر وأنا أراهم يسقطون في عيني.. تضجّ موسيقى جنائزية في رأسي “تباً اللعين لا يعرف المهادنة!!”، أغلقُ ستائر عينيّ وأتكوّر على أطرافي في العتمة.. الكائنات المعطوبة تسرقُ الوجوه التي تضجّ على جدران رأسي.
يتوقف الصوت فجأة.. في جوف الصمت يخرج العازف العجوز بقامته العمياء يأخذُ شيئاً من دمي ويرحل خلف شتات الأشياء..!!
أفتح عينيّ مرة أخرى.. يشدُّ العجوز ظهره المقوّس، يفتعلُ السراب.. ينظر حوله في الفراغ.. يبتسم.. ويرفع قبعته احتراماً لجمهور السراب.. تلك الحركة تُفسح للضحك البليد بالتسلّل لشفتي المبللة بركامٍ ثقيل.
عيني المثقوبة تنزفُ التفاصيل الصغيرة بدفء، تلك التفاصيل تعبرُ ستٍّ وعشرين مِيتة مضت وأنا أبحثُ خلالها عن زمنٍ ضائع في عالم افتراضي.. الرّخّ مات فيها والشاه مات.. وهي أيضاً ماتت.. وأنا مِتُّ قبلهم.
أغلق النافذة وأعود إلى ضيفتي التي لم أرها منذ سنوات، أقدّم لها القهوة مع رائحة أمي.. تتفحصني هي بعينين فاحشتين.. وأراقبها أنا بألف عينٍ أقلُّ فرحاً..
– ما بك..
– لا شيء.. الشتاء أكثر برودة هذا العام.. أليس كذلك!!؟

http://nj180degree.com/2010/02/09/mot/#more-3243

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى