ثورة مصرنزيه أبو عفش

الشاعر ملطّخاً بالحياة

null
شعراء النقاء الخالص، أو الأناقة الخالصة، يحسدون المصريّ على طبق موته الذي يتناوله مطيّباً بالزيت والكمّون ودمعة الغُلْب: يحسدونه على ميراث الألم
نزيه أبو عفش
1
في الشعر ـــــ كما في الحياة ـــــ جلّ من يُخطِئ.
لا أحد يدخل المعركة بثياب الراهبات.
أحياناً ـــــ حفاظاً على نظافة مهنته ـــــ يجب على الشاعر «النقيّ» أن يكون مُشعَّثاً، مغبّراً، مرتكبَ أغلاط كتابة، ملطّخ الأفكار والثياب والأصابع: ملطّخاً بالحياة.
أحياناً، على الشاعر «النقيّ» أن يتملّص من نقائه.
أحياناً: عليه أن يساعدنا في التملّص من محبةِ هذا النقاء.
أحياناً: عليهِ أن يتلطّخ.
نعم! في الشعر: جلّ مَن يخطئ.
…..
شعراء النقاء الخالص، أو الأناقة الخالصة، يحسدون المصريّ على طبق موته الذي يتناوله مطيّباً بالزيت والكمّون ودمعة الغُلْب: يحسدونه على ميراث الألم.
كأنّما لا أحد يفكّر في ما يتألّمه الناس. لا أحد يفكّر (لعلهم يستحون من التفكير) في حاجاتِ الأمعاء والمثانات والمفاصل ومُفرزات غُدَدِ الخوف (كلّ خوف). لا أحد يفكّر في عصّةِ قلوب الأمهات الهلعات، المتنصّتات إلى دبيب خطى الموت عبر الشاشات.
يفكرون في بهاء الليل وهو ينسكبُ على أهرامات العذاب الصامدة. يفكّرون في سحر نهر عبد الوهاب الخالد، يفكّرون في قدرةِ الجمال الضاري على مقاومة الزمن وصناعة المسرّات.
يفكّرون بالأبيض وفي الأبيض…، وينسون الألم.
….
الشاعرُ الأبيض/ المهووس بحراسة شاعرّيته وإبقائها معصومةً، بيضاء، مطهّرةً من دماء الناس وروث طغاتهم/ مُستَعد ــــ إلى يوم القيامة ـــــ لمواصلة التغنّي بجمال النيل، وهيبة الأهرامات، وعظمة العبيد الذين شيّدوها، وفوائد الطعميّة والفول، ورشاقة أرواح المصريين الجالسين على حواف حياتهم أو حواف موتهم. الشاعر الأبيض: أبيض شديد القتامة.
….
سيدي الشاعر النقيّ، سيدي المؤرخ النقيّ، سيدي السينمائيّ النقيّ، سادتي الشهود الأنقياء، تذكّروا:
ذلك الرجل الذي قتل في الشارع، ذاك الذي رفع يديه وسترته ليقول: «أنا وحيد وأعزل»، ذاك الذي قتله قاتلوه على مبعدة صيحة عن أعينهم وبنادقهم، ذاك الذي مات صالباً جسده على الهواء، ذاك الذي مات…؛ أبداً لم يكن يفكر في أهرام بلاده المتصابية ونيلها الخالد السعيد. لم يكن يفكر في التاريخ ومزوّري التاريخ. لم يكن يفكر في البطولة. لم يكن يفكر في من يتفرّجون ويرْوون. كان خائفاً ــــ شجاعاً خائفاً ــــ وحيداً وأعزل: كان يفكر في العودة إلى الحياة… حياً. نقطة. انتهى!
….
قبل زمن طويل، الشجاع يوحنا الذهبيّ الفم، مستهجناً طهرانيّة أصحابه الرهبان الذين يهربون إلى كهوفهم كي لا يتلوّثوا بأوحال الناس وضحالة أحلام الناس، قال ما يعني: لا تثقوا بهم، أولئك المتزهّدين الذين ـــــ لكي يحافظوا على طهارة أرواحهم ـــــ يهربون إلى أعالي الجبال، ويكْتفون بالتفرّج على إخوتهم يهلكون.
«يوحنا الذهبيّ الفم» أجملُ من بنى هرماً. يوحنا الذهبي الفم أجمل مبغضي الذهب بين شعراء الربّ.
….
سادتي الأنقياء، انتبهوا:
في أحيان كثيرة يكون النقاءُ هو «الوصمة».
مرة أخرى: انتهى!
2
شعراءُ الزور الحكماء/ شهودُ الزور الحكماء/ كهنةُ الزور الحكماءْ
يلزمهم استظهارُ القاموس كله… كي يصمتوا عن الحقيقة.
يلزمهم الموت كله… كي يتعفّفوا عن ملامسة دنس الحياة.
يلزمهم اللّهُ كلّه…
….
كي لا يتورّطوا في الحديث عن الحروب الوسخة… يمتدحون مزايا الطاقة النظيفة. كي لا يخيّبوا أمل الطغاة… يتغنّون بذكاء العبيد الذين نحتوا أصنامهم.
كي لا يدلّوا على القاتل… يشيرون إلى جثة الميت مهلّلين:
«انظروا إلى أسنانه، كم هي جميلةٌ وناصعة البياض!».
حكماءُ الزور…
* شاعر وكاتب سوري

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى