صفحات مختارة

رحيل سهيل إدريس

null

سهيل إدريس (1925 ـ 2008)

ـ تلقّى دراسته الابتدائية في كلية المقاصد الإسلامية ببيروت. التحق بـ «كلية فاروق الشرعية» وارتدى الزي الديني طوال خمسة أعوام، ليتخلّى عنه بعد تخرّجه عام .1940

ـ بدأ العمل محرِّراً في جريدة «بيروت» لصاحبها محيي الدين النصولي، وفي «بيروت المساء» الأسبوعية لصاحبها عبد اللَّه المشنوق. ثم عمل، بالإضافة إلى ذلك، محرِّراً في «الصيّاد» لصاحبها سعيد فريحة، وفي «الجديد» لصاحبها توفيق يوسف عوّاد.

ـ نشرت «المكشوف» لصاحبها فؤاد حبيش أوّل مقالة له عام ,1939 ثم أخذ ينشر في «الرسالة المصرية» و«الأديب» و«الأمالي» اللبنانيتين.

ـ سافر إلى فرنسا، وحاز الدكتوراه في الآداب بجامعة السوربون عام ,1952 وكانت أطروحته بعنوان «القصة العربية الحديثة والتأثيرات الأجنبية فيها من عام 1900 إلى عام 1950».

ـ أنشأ عام 1953 مجلة «الآداب» بالاشتراك مع المرحومين بهيج عثمان ومنير البعلبكي، وما لبث عام 1956 أن استقلّ بها عن شريكيه، وبقي رئيساً لتحريرها حتى عام .1992

ـ عام 1955 أسّس مع المرحومين رئيف خوري وحسين مروّة «جمعية القلم المستقلّ».

ـ عام 1956 تزوّج بعايدة مطرجي، وأنشأ دار الآداب بالاشتراك مع الشاعر الراحل نزار قبّاني، ثم استقلّ بها عام 1961 لاضطرار قبّاني إلى الانفصال عنه بسبب احتجاج وزارة الخارجية السورية على عمله في النشر إلى جانب عمله الدبلوماسي.

ـ عام 1961 عمل أستاذاً للترجمة والتعريب في جامعة بيروت العربية.

ـ عام 1967 عُيِّن أميناً عامّاً مساعدًا لاتحاد الأدباء العرب، وأمينًا للّجنة اللبنانية لكتّاب آسيا وأفريقيا.

ـ عام 1968 أسّس، مع قسطنطين زريق وجوزيف مغيزل ومنير البعلبكي وأدونيس، اتحادَ الكتّاب اللبنانيين، وانتُخب أميناً عامًّا له ثلاث دورات متوالية، ثم أعيد انتخابه مجدَّداً عام 1989 وعام .1991

ـ كان أحد مؤسِّسي مركز دراسات الوحدة العربية في بيروت وعضو مجلس أمنائها عدة سنوات.

ـ له ثلاث روايات: «الحي اللاتيني» (1953)، و«الخندق الغميق» (1958)، و«أصابعنا التي تحترق» (1962)؛ وستّ مجموعات قصصية: «أشواق» (1947)، و«نيران وثلوج» (1948)، و«كلُّهنّ نساء» (1949)، و«الدمع المرّ» (1956)، و«رُحماكِ يا دمشق» (1965)، و«العراء» (1973)؛ ومسرحيتان: «الشهداء» (1965)، و«زهرة من دم» (1969)، وأخيراً الجزء الأول من سيرته «ذكريات الحب والأدب» .2001

ـ ألّف معجم «المنهل» الفرنسي ـ العربي مع المرحوم جبّور عبد النور، وعكف منذ أكثر من ربع قرن على تأليف «المنهل» العربي ـ الفرنسي و«المنهل» العربي ـ العربي بالاشتراك مع الشهيد الشيخ صبحي الصالح وسماح إدريس.

ـ ترجم ما يزيد على عشرين كتاباً، أبرزُها كتبٌ لسارتر وكامو ودوبريه ودورا.

ـ رُزق ثلاثة أولاد: رائدة ورنا وسماح.

يصلَّى على جثمانه الطاهر ظهر اليوم الأربعاء 20 شباط 2008 في جامع الخاشقجي، حيث يوارى الثرى في جبّانة الشهداء. تُقبل التعازي للرجال والنساء معًا، الأيام الأوّل والثاني والثالث، بين الساعة العاشرة والواحدة بعد الظهر، وبين الساعة الثالثة والسابعة مساءً، في منزل الفقيد الكبير، منطقة عين التينة (بيروت)، بناية فلاّحة، الطابق الثالث، مقابل منزل الرئيس نبيه برّي.

رحــيــــل الكــــاتـــــب ســـــهـــيـــل ادريــــس (1925 – 2008)

ابن “الخندق الغميق” ذهب ليبحث عن نفسه الضائعة تاركاً أصابعنا تحترق

بعد رحيل بطريرك “الرواية الجديدة” ألان روب – غرييه أول من أمس، شهد يوم امس خسارة فادحة جديدة للأدب والثقافة، العربيين هذه المرّة، واللبنانيين خصوصاً، مع رحيل الكاتب الكبير سهيل إدريس بعد صراع طويل مع المرض.

ولد سهيل إدريس في بيروت عام 1925 من أب يقال إنه مغربي الأجداد (شريف إدريس) وأم لبنانية. تعلم في المقاصد وعمل بدايةً في الصحافة في جريدة “بيروت”، بدءا بتصحيح المسوّدات ثم الكتابة الصحافية، وأصبح مندوب الجريدة ومحررا للسياسة الخارجية فيها. كما عمل في جريدة “بيروت المساء” ومجلتي “الصياد” و”الجديد“.

بعد هذه التجربة الصحافية التي دامت سبع سنوات، سافر ادريس إلى فرنسا ليواصل تحصيله العلمي، بعد نيله منحتين دراستين. هناك التحق بمعهد الصحافة العالي، وبجامعة باريس حيث حصل على مصادقة لثلاثة ديبلومات نالها من معهد الآدب الشرقية، واعتبرت مؤلفاته الأولى ديبلوماً رابعاً، ما اتاح له إعداد دكتوراه جامعية في الآداب بالسوربون، نالها عام 1953.

لدى عودته الى بيروت، اسّس ادريس “دار الآداب للنشر” كما اسس مجلة “الآداب” التي أدّت ولا تزال تؤدي دوراً جوهرياً في الثقافة اللبنانية والعربية. علّم الترجمة والنقد الأدبي في الجامعة الأميركية في بيروت.

لإدريس مؤلفات عدّة ساهمت في إثراء عالم الأدب العربي المعاصر، من مسرحيات ومجموعات قصصية وسير وروايات وترجمات واعمال بحثية ودراسات، أهمّها ثلاثيته: “الحي اللاتيني”، “الخندق الغميق”، و”أصابعنا التي تحترق”. من أعماله أيضاً: “الدمع المر”، “ذكريات الأدب والحب”، “العراء”، “في معترك القومية والحرية”. كما اصدر قاموس “المنهل” (فرنسي – عربي) بالاشتراك مع جبور عبد النور.

في ما يأتي قراءة في فكره وأدبه الروائي بقلم الناقدة والأكاديمية رفيف صيداوي.

البحث في فكر سهيل ادريس يستدعي حكماً الانطلاق من التزامه القومي العربي الذي انعكس على أدبه وعلى مجمل نشاطاته الثقافية والاجتماعية. فهو صاحب مجلة ثقافية أدبية رائدة في تبني الحداثة الفنية في مجالات القصة والرواية والشعر والمسرح والرسم، انطلاقاً من الواقع العربي، وهو صاحب دار للطباعة والنشر سلك من خلالها ومن خلال مجلته خطّ الالتزام القومي العربي.

لن نتطرق إلى نشأة سهيل ادريس وارتباطها بفكره القومي هذا، علماً بأن هذا المثقف هو ابن بيئة بيروتية مسلمة محافظة، تلقى علومه في كلية المقاصد الإسلامية بين عامي 1930 و1935، ثم تلقى لاحقاً دراسة دينية عبر انخراطه في معهد ديني، قبل أن يعود ليوفّق بين الدراستين الدينية والعلمية مطلّقاً المشيخة ومتابعاً دراسته الجامعية في فرنسا التي حصل فيها على شهادة الدكتوراه في الآداب.

نشأة سهيل ادريس كان يمكنها إذاً، أن تدفع به إلى رحاب الفكر الماركسي أو الليبيرالي أو الإسلامي أو غيرها من التيارات الفكرية المعبّرة عن أبرز الايديولوجيات التي سادت في الحياة الثقافية العربية واللبنانية في النصف الأول من القرن العشرين، إلى جانب الايديولوجيات القومية، وهي المرحلة التي تشكّلت فيها رؤية ادريس إلى العالم، هو المولود عام 1925. غير أن ما نودّ التركيز عليه هو مردود هذا الالتزام الفكري على الثقافة عموماً، وعلى الأدب الروائي اللبناني وخصوصاً في عقدي الخمسينات والستينات من القرن المنصرم. فالحماسة القومية التي أشعلتها بعض الإنجازات القومية كتأميم قناة السويس ومعركة بور سعيد وقيام الوحدة بين مصر وسوريا في الخمسينات، ثم انتصار ثورتي الجزائر واليمن في الستينات وقيام ثورتي العراق وسوريا…إلخ، كلّها دوافع قادت سهيل إدريس إلى التزام القضايا الوطنية والعربية وإلى ممارسة دوره كمثقف عضوي لا يفصل بين الفكر والممارسة في سبيل ترجمة طموحه القومي إلى التحرّر من سيطرة الغرب الاستعماري والصهيونية، وكذلك طموحه إلى تحقيق حلم الوحدة العربية واقعاً فعليا.

تشير مواقف سهيل ادريس من الحوادث المصيرية التي واجهها العالم العربي ولبنان خلال العقود الحاسمة بين بداية الخمسينات حتى الربع الأول من السبعينات، والتي نشرها في مجلته “الآداب” وجمعها لاحقاً في كتابه “في معترك القومية والحرية”، الصادر عام 1977، إلى مقدار حماسته آنذاك، والتي عاد وانتقدها بنفسه في قوله إن قدر الحماسة الطاغية في هذه المواقف “قد طغى على قدر التأمل والتعمّق”1. لكنه برّر حماسته بالوعود التي حملتها تلك المرحلة التي تملأ، على تعبيره، الصدور بالثقة، متابعاً ان مهمات الفكر والأدب في تلك الفترة “أن يحدوَا القافلة السائرة ويغنّيا لها… وليس الذنب ذنبهما إذا ما آل عدد من تلك الإنجازات إلى الإجهاض والانحسار حتى بلغنا ما نحن عليه من أسى وتشاؤم… بالرغم من إيماننا بأن الشعب لا يتزعزع”1.

القومية والوجودية عند ادريس

الالتزام القومي لسهيل ادريس وتأثره بالفلسفة الوجودية، جعلاه من المدافعين عن الوجود العربي في ضوء تلك الفلسفة الوجودية الحديثة آنذاك والقائمة على مبدأ احترام الوجود. بمعنى الارتداد على الفلسفات الجوهرية التي تجعل من الجوهر قيمة عامة وشاملة، ومن تجريد الأشياء من طوابعها الفردية سنّة الوجود. فتقول بالإنسانية لا بالإنسان، وبالوفاء لا بالوفيّ، وبالمحبة لا بالمحبّ…إلخ. عايش سهيل ادريس وجوده العربي انطلاقاً من المبدأ الوجودي القائم على احترام الوجود في وصفه وجوداً خاصاً. أبرز ما أملاه هذا التزاوج بين القومية والوجودية على ادريس، تمثّل في دعوته إلى التزام قضايا المجتمع العربي ومشكلاته، سواء عبر الفكر أو الأدب. حملت ثلاثيته الروائية، “الحيّ اللاتيني” (1953) و”الخندق الغميق” (1958 ) و”أصابعنا ا1لتي تحترق” (1962)، رؤيته إلى العالم بما فيها من ضرورة الالتزام في الأدب انطلاقاً من التزام الوجود العربي الخاص، وذلك في إطار جدلي لا فكاك فيه لأي طرف من طرفي المعادلة من الآخر. فالأدب مدعو في نظره “إلى مرحلة جديدة من التعبير عن هموم الإنسان العربي في وضعه الوحدوي الجديد الذي يبني فيه مجتمعه على أسس صلبة لم تكن متاحة من قبل”2. أما أديب العروبة فهو “خير من يستطيع أن يُبرِز من الكفاح أعمق معانيه، ويثير في النفوس القلقة أصدق أحاسيس الإيمان بشرف المقاومة، ويلهب الأرواح اليقظة، العطشى إلى التعبير عن أشواقها للحرية”3.

الالتزام الفكري والأدبي جاء إذاً، متأثراً بالوجودية الفرنسية، ولا سيما وجودية سارتر المستندة إلى أقانيم ثلاثة: الالتزام، الحرية، المسؤولية. لأن الإنسان في سياق وجودية سارتر مسؤول عما هو كائن، إذ تضع هذه الوجودية الإنسان في مواجهة حقيقته وتحمّله تالياً المسؤولية الكاملة لوجوده4.

روايات ادريس الثلاث عبّرت فنياً عن هذه الفلسفة التي كيّفها هو مع واقعه العربي انطلاقاً من التزامه القومي، فتابعت الثلاثية رحلة البطل سامي في البحث عن نفسه الضائعة انطلاقاً من الخلفية الوجودية التي ترى أن أي قوة لا تستطيع أن تخلّص الإنسان من نفسه إلا قوته هو وعزمه هو، ما عكس الوجه التفاؤلي لوجودية سارتر التي وصفها بأنها “مذهب عمل وحركة”5.

غير أن أهمية سهيل ادريس الأدبية لا تكمن في توفيقه بين اقتناعاته الفكرية وأدبه، إنما في ترجمة هذه الاقتناعات عملاً أدبياً تجديدياً يعكسه البناء الفني للثلاثية، الذي يشير إلى الفنّان الذي طبع مذهبه أو فلسفته الخاصة بطابعه هو، مترجماً من خلال هذه الثلاثيّة مفهومه الحديث لعلاقة الأدب بالواقع والحياة. فطن إدريس مبكراً، في مقال بعنوان “الأدب والحياة”، عام 1960، الى أن الأدب ليس الواقع لأن الحياة أشمل من الواقع، وأن الأدب لا يمكنه أن يحتمل كلّ شيء، وأن الفنّ يتطلّب أخيراً تحويراً للواقع وقدرة على التخييل. الأديب هو من “يعمد إلى الخيال فيستمد من عوالم جميلة يعوّض بها عن تقصير وقائع الحياة وتفاهة أحداثها، فإذا قدّم لنا بعد ذلك أدبه، شقّ علينا أن نميّز فيه الحقيقي من الخيالي، والواقعي من المتصوّر”6.

لم ترتبط تجديدية ادريس في الأدب بنزعته القومية أو الوجودية بقدر ارتباطها بمفهومه الخاص للأدب وعلاقته بالحياة، وبفنّيته التي أفادت من خبراته الحياتية والوجودية والفكرية. فالنزعة القومية في الأدب سادت على امتداد العالم العربي، وكانت الرواية التاريخية مقدمة هذه الإنتاجات التي عبّرت عن هذه النزعة بدءاً من الثلث الأخير من القرن التاسع، مع سليم البستاني وجميل المدوّر وفرح أنطون وجرجي زيدان ونقولا الحداد وسواهم. غير أن هذه النزعة القومية لم تجعل هذه الروايات روايات بالمعنى الفني التخييلي الحديث للرواية. وفي المقلب الآخر يلاحظ أن الوجودية التي لاقت رواجاً في المحافل الأدبية اللبنانية، في القصة والمسرح والرواية، بدءاً من العقد الخامس من القرن العشرين، لم تساهم على الصعيد الأدبي إلا في تخليد أسماء ضئيلة من القاصين والروائيين اللبنانيين الذين اصطبغت بعض رواياتهم أو قصصهم بالوجودية، أمثال ليلى بعلبكي والياس الديري وفؤاد كنعان ويوسف حبشي الأشقر وجورج شامي…إلخ. إذ ساهم كلّ من هؤلاء في دفع الرواية إلى مداراتها الحداثية، في حين أن الالتزام السياسي المتأثر بعقيدة فلسفية محدّدة، كالقومية أو الماركسية مثلاً، كان يوقع الأديب أحياناً في التطرّف والمغامرة، ويبعده عن خلود اسمه في عالم الأدب عموماً، والرواية خصوصاً.

ريادة ادريس في عالم الرواية الفنية الحديثة قامت، شأنه شأن سواه من الرياديّين في لبنان والعالم العربي، من ثورته على القالب الروائي التقليدي ومن إيمانه بالالتزام الحرّ لدى الفنان رغم دعوته إلى الالتزام في الأدب وإيمانه برسالته.

المفهوم الجديد للأدب عبّر عنه سهيل ادريس بقوله: “لقد كان أدبنا الكلاسيكي يصوّر البشر على غير حقيقتهم إذ يتجاوز بهم أوضاعهم البشرية ويرفعهم إلى رتبة المثال، فينظر إليهم الناس من بعيد معجبين مشدوهين، ويداخلهم اليأس من أن يصبحوا مثلهم أبطالاً. أما اليوم، فليس هناك بطل منعزل إلا وله هدفه الإنساني، وله صداه في مواطنه”7. فالروائي الحديث بحسب ادريس يجد نفسه “أمام كائن شديد الغنى، لكلّ نزعة من نزعاته قيمة، ولا يمكن أن يُطرح منه جانب، ويؤخَذ آخر. فالواقع أننا لا يمكن أن نعرّف البطولة إذا لم نعرف من أي جبن هي منبثقة”8. وهو كلام يذكّر بمواقف عدد من الروائيين اللبنانيين التجديديين الذين تأثروا بالوجودية، شأن ليلى بعلبكي التي أشارت إلى الواقع “الجديد” لتلك المرحلة بقولها: “والآن، وكلّ إنتاج، كلّ جديد في الأدب والفن والعلم نقاومه نحن، إن لم يساهم في خدمة الإنسانية، ومساعدتها في منحها حرية استمرارها. البطل اليوم، بطلنا هو الإنسان العظيم العظيم حيناً، والتافه التافه حيناً آخر. بطلنا هو الإنسان العادي، الذي تشدّه الأرض إلى قذارتها فيغوص فيها، وتدعوه السماء إلى أنوارها، فتتحدّى عينه الشمس في الظهيرة”9.

في البطل الادريسي

بطل سهيل ادريس في ثلاثيته، تتنازعه قوى ورغبات متنافرة. لأن الثلاثية ما هي إلا تعبير عن رحلة هذه الذات في البحث عن ذاتها في المحيط المجتمعي والأسري العربي أولاً وفي المحيط الغربي لاحقاً. فالبطل سامي في “الخندق الغميق” عاش طفولته تحت ضغط التقاليد الأسرية المحافظة من جهة، وتحت ضغط حياة المعهد الديني في وصفه طالب مشيخة من جهة ثانية. الطفل سامي الذي دخل المعهد الديني بإرادته تأثراً بوالده الشيخ وبالمناخ الديني للأسرة، سرعان ما راح يشعر بعبء الجبّة والعمّة على جسمه الصغير. لكن هذا العبء راح يعني فنياً عبء العادات والتقاليد المتشددة حيث تكثر الممنوعات ويكثر مقابل ذلك الشعور بالكبت والحرمان، وحيث الحبّ حرام والصداقة بين الفتى والفتاة حرام وارتياد السينما حرام، وسفور الفتاة حرام…إلخ.

القيم الوجودية للكاتب، ولا سيما إيمانه بالحرية المسؤولة، ترجمها تطور شخصية سامي الطفل في “الخندق الغميق”، تلك الشخصية المتحوّلة من الطاعة والانقياد إلى التمرّد والثورة اللذين بلغا أوجهما يوم قرّر خلع الجبّة والعمّة. لأن في هذه الثورة صرنا نلمس كقرّاء بذور التمرّد المسؤول المتسلّح بالصراحة والاستقامة والمنطق بعكس سلوكيات أخيه الأكبر فوزي الذي قاده التحايل على وضعه بالكذب تارة، وبالخداع طوراً بغية كسب رضا الأب، إلى حياة ماجنة مستهترة.

تحوّلات شخصية سامي في طفولته وحداثته في “الخندق الغميق”، في موازاة الشخصيات الروائية الأخرى من داخل الأسرة أو من خارجها، راحت تشير إلى تقصّد الكاتب نزع الخصائص الثابتة عن الشخصية الروائية لصالح الشخصية الدينامية المتحرّكة ضمن شروطها البيئية والاجتماعية، وتالياً اقتحام أسوار الأسرة الأبوية البطريركية التقليدية وفضح ما يختفي وراءها من آفات. وتمثلت فنية ادريس أكثر ما تمثلت في ايحاء هذه الآفات انطلاقاً من حيوات الشخصيات ومن منطق أفعالها عوضاً عن استعراضها الفجّ. كما مثّل صراع الذات مع ذاتها، الذي بلغ أوجه في “الحيّ اللاتيني”، احدى البنيات الفنية التي استند إليها المؤلف لتبيان هذه الآفات. إذ قام البنيان الفني في “الحيّ اللاتيني” على خطّين متقابلين: علاقة البطل مع ذاته، وعلاقته مع المرأة. وكلّ تطوّر لأحد هذين الخطّين بدا مؤثراً على تطوّر الخطّ الآخر ومتأثراً به، في علاقة جدلية راح البطل يبدو معها أكثر وعياً بذاته وبمحددات هذه الذات التي خرجت في السياق الفني للرواية على إطارها الخاص أو الشخصي لتدخل الإطار الاجتماعي الإنساني العام.

ففي هذه الرواية بدا السفر إلى فرنسا للتخصّص العلمي بالنسبة إلى سامي وسيلةً للتخلّص من عبء الماضي من جهة، وفرصةً لولادةٍ جديدة من جهة أخرى. غير أن الغرب عنى له في البداية المرأة والجنس والحرية غير المشروطة. إلا أن خيبات البطل مع المرأة كانت تدفعه إلى الارتداد على ذاته عبر مونولوغات دالّة تشير إلى عدائية ناتجة من شعور بالنقص حيال الغرب، محدّدةً القيود ورواسب الماضي بعمق. فحين أخلفت إحدى الفتيات الفرنسيات موعدها معه صار يتساءل: “ألأنّ الفتاة أخلفت موعدها، ينبغي أن أخضع لهذا الشعور البائس؟ وهل هنّ جديرات بالاحترام، كلّ أولئك الفتيات الفرنسيات اللواتي يسُقن هذه الحياة العابثة الفارغة؟” (ص 42).

لكن الحبّ – المفصل في الرواية، حبّ البطل لجانين مونترو، الذي بدا كأنه وحّد في وقت من الأوقات ذاته المنشطرة بين حضارة الشرق التي ينتمي إليها وحضارة الغرب التي احتكّ بها احتكاكاً مباشراً، سرعان ما راح يكشف أن الطريق نحو توحّد الذات واكتشافها طويل وشاقّ. فالرسالة التي كتبها سامي إلى جانين خلال إجازته في الوطن متنكراً فيها لعلاقة الحبّ التي جمعت بينهما وللجنين الذي حملته منه، جاءت مثلاً، لتعكس تأصّل الماضي في ذات سامي، وازدواجيته التي بدا كأنه تخلّص منها. وقد وردت هذه الرسالة بعد مونولوغات داخلية للبطل كشفت قبوع الضمير الشرقي في زاوية من زوايا نفسه. فإذا به يتساءل بعد هذا الحوار مع النفس هل الصوت الداخلي الصادح في داخله صوته هو أم صوت أمه المتنكّرة أساساً لارتباطه بأجنبية. يصف الراوي إذّاك حال البطل قائلاً: “هي التي تكلّمت، أم هو، أم شخص آخر لا يعرفانه… إنه لا يدري. لقد سمع كلاماً، ولا يدري أسمعه بأذنيه أو بأعماقه” (ص 233). تكمن جمالية هذه المونولوغات في أحد مستوياتها بما راحت تمثّله الأم في السياق الفني للثلاثية. فالأم هذه “ليست أماً حقيقية للبطل وحسب، إنما هي أيضاً، الماضي بمختلف ايديولوجيته، لا بل العالم الذي ينمحي فيه الفرد في المحيط الاجتماعي الأكبر: الأسرة أحياناً، والوطن أحياناً أخرى، والشرق بمشاكله أحياناً ثالثة”10.

في خلاص البطل

النذالة التي رآها البطل في مرآة نفسه نتيجة تنكّره لحبه، شكلت في الرواية محكاً من المحكات التي دفعته لاحقاً إلى إدراك خطئه ولملمة نفسه الضائعة والتحرّر من أثقال الماضي والنظر إلى المستقبل. وذلك في موازاة الإيمان القومي الذي أتاح له، ولغيره من الشباب العربي في الغرب، فرصة العثور على ذواتهم الضائعة. كأننا بالبطل وقد تحقّقت خلال مساره رؤية فؤاد القومي العربي حين قال له: “لا بدّ أن نرتكب كثيراً من الحماقات قبل أن نجد أنفسنا…” (ص87 ).

ترانا في الجزء الثالث من الثلاثية، “أصابعنا التي تحترق”، أمام البطل وقد غدا أكثر توازناً مع نفسه بعدما رسم أهدافه القومية ورسم لنفسه إطاراً للعمل والكفاح أوسع من الحدود الضيقة التي عاش فيها. لم يعد الصراع داخلياً بل تحوّل إلى صراع من أجل الوطن العربي الكبير، وإلى صراع ضدّ الغرب الاستعماري، أي الغرب السياسي والاقتصادي.

جسّد سهيل ادريس فنياً البعد التفاؤلي للوجودية المؤمنة بالإنسان، وكان بفنه الروائي كاتباً ملتزماً قضايا مجتمعه، لكن من دون أن يتعارض هذا الالتزام مع فنية العمل. كان عمله الروائي، بحسب تعريف سارتر للعمل الأدبي عموماً، تقديماً خياليّاً للعالم “في حدود ما يستلزم من الحرية الإنسانية”11. كما تميّزت ثلاثيته الروائيّة ذات الاتجاه الوجودي، بافتراقها عن الاتجاه الوجودي لبعض الإنتاج الروائي اللبناني الذي تمحور حول معنى الحياة وجدواها في إطار تشاؤمي. لأن ادريس نظر إلى الحياة من منظور القيمة التي يسبغها الفرد على حياته التي تبدّت من المنظور الفني للثلاثية كحياةٍ جديرة بأن تعاش. فانطوت الثلاثية على نزعة تفاؤلية، وذلك رغم كل التخبطات الإنسانية لشخصية البطل ولغيره من الشخصيات، ورغم مختلف المظاهر المظلمة في المجتمع البطريركي الذكوري العربي التي كشفت عنها الثلاثية. ثم إن تحرّر البطل الادريسي من أثقال هذا المجتمع واكبته دعوة مبطّنة إلى تحرير المرأة تجلّت في مساندة سامي في “الخندق الغميق” لأخته هدى كي تنزع الحجاب وتتابع تعليمها العالي وتختار شريك حياتها بنفسها. وكذلك في تخصيص المؤلف خمسة فصول من فصول الرواية العشرة لهدى كي تعبّر عن ذاتها بصوتها هي ومن منظورها هي للعالم، فيما جاءت الفصول الخمسة الباقية بصوت الراوي وبصيغة ضمير الغائب. وانسحب الأمر عينه على رواية “أصابعنا التي تحترق”، التي انتقل الكلام في القسم الثاني منها إلى إلهام راضي لتتابع كراوية حوادث الرواية من منظورها هي، فكانت دعوة فنية لادريس لتحرير الإنسان، رجلاً أكان أم امرأة، من نفسه المزيّفة أو غير الحقيقية لصالح النفس الحقيقية. لكن بلوغ النفس الحقيقية لم يبدُ بحسب خطاب الثلاثية كمسألة ذاتية صرفة أشبه بالفردية الحالمة بقدر ما بدا مرتبطاً بالتعاون والعمل الجماعي لخرق الأسوار وبلوغ الحرية. كأنه برسالته يقول إن قيود الذاتي والفردي في عالمنا العربي مشروطة بتلك القيود التي يرزح تحتها هذا العالم.

رفيف رضا صيداوي

1 المرجع السابق نفسه، ص6 .

2 المرجع السابق نفسه، ص68 .

3 المرجع السابق نفسه، ص16 .

4 سارتر، جان بول، الوجودية مذهب إنساني، ط1 ، بيروت، مكتبة الحياة، 1983 ، ص46 .

5 المرجع السابق نفسه، ص90 .

6 ادريس، سهيل، مواقف وقضايا أدبية، ط1 ، بيروت، دار الآداب، 1977 ، ص38 .

7 المرجع السابق نفسه، ص114 .

8 المرجع السابق نفسه، ص113 .

9 بعلبكي، ليلى، نحن بلا أقنعة، ط1 ، بيروت، منشورات الندوة اللبنانية، 1959 ، ص24 .

10 أزوط، جورج، سهيل ادريس في قصصه ومواقفه الأدبية، ط1 ، بيروت، دار الآداب، 1989 ، ص97 .

11 سارتر، جان بول، ما الأدب؟، تر. محمد غنيمي هلال، ط1 ، القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب ، 2000 ، ص113

رحيل سهيل إدريس مؤسس «الآداب» ومازج العروبة بالحداثة

بيروت – محمد علي فرحات الحياة – 20/02/08

–> يشيَّع اليوم في بيروت الروائي والمعجمي والمترجم والناشر سهيل إدريس (1925 – 2008) مؤسس مجلة «الآداب» الشهرية ذات التأثير الأدبي والفكري في العالم العربي، خصوصاً بين منتصف خمسينات ومنتصف سبعينات القرن العشرين.

التزم سهيل إدريس شعاري العروبة والحداثة في كتاباته ونشاطه الثقافي، ولم يرَ تناقضاً بينهما، بل اعتبرهما ضرورتين للتقدم العربي. فهاجم العروبة التقليدية بقدر ما هاجم الحداثة المتفلتة من الانتماء العربي نحو انتماءات أخرى جغرافية أو أيديولوجية. ويمكن التوقف عند معركتين خاضتهما «الآداب» بتوجيه سهيل إدريس، الأولى في مجال الشعر ضد مجلة «شعر» (أصدرها يوسف الخال في بيروت العام 1957 ولم تعمّر طويلاً على رغم تأثيرها المستمر، وكان في أسرة تحريرها أدونيس وأنسي الحاج وشوقي أبي شقرا)، وحجة المعركة أن «شعر» تتطرف في تبني قصيدة النثر الى حد الإساءة الى اللغة العربية. أما المعركة الثانية فخيضت من خلال المثقفين العراقيين، فنصرت «الآداب» الفريق القومي العربي على الفريق الماركسي، واعتبرت في تلك الفترة الصوت الإبداعي والفكري لكثير من العراقيين، ومنهم شخصيات في موقع القرار السياسي.

أنشأ سهيل إدريس «الآداب» العام 1953 (مشاركاً لمدة ثلاث سنوات فقط صاحبي «دار العلم للملايين» بهيج عثمان ومنير البعلبكي)، واستمرت لمدة ربع قرن على الأقل المجلة المركزية للأدب العربي الحديث، (نافستها وتعايشت معها بهدوء مجلة «الأديب» التي أنشأها ألبير أديب في بيروت العام 1942). وأسس «دار الآداب» للنشر العام 1956 (مشاركاً في السنوات الخمس الأولى الشاعر نزار قباني).

تميزت «الآداب» بإدارة ذكية للتحرير، في الأساسيات وفي التفاصيل، وكان بابها الشهري «قرأت العدد الماضي من الآداب» مدرسة في النقد تتلمذ عليها قرّاء كثيرون ما لبثوا أن امتهنوا الكتابة. ولم يكن شعار العروبة والحداثة الذي تبناه إدريس ضيقاً إنما ظهر بآفاق رحبة في مجلته وعبر مؤلفاته وترجماته والكتب التي أصدرتها «دار الآداب». ولم ينسب إدريس الى نفسه يوماً التعبير عن مدرسة فنية محددة في الإبداع الأدبي، فاختلفت «الآداب» عن مجلات أخرى روجت لمدارس واتجاهات، مثل «ابوللو» و «غاليري 68» في القاهرة و «الثقافة الجديدة» و «شعر» و «حوار» و «مواقف» في بيروت.

وعرف عن سهيل إدريس ترويجه الأدب الوجودي الفرنسي، خصوصاً أعمال جان بول سارتر وسيمون دوبوفوار التي ترجم بعضها وأصدرها عن دار الآداب، ونظر مفكرون قوميون في تلك الفترة الى الوجودية كفكر يساندهم في مواجهة الماركسية.

من كتّاب «الآداب» في عصرها الذهبي مطاع صفدي وعبدالله عبدالدايم وغسان كنفاني وإدوار الخرّاط ومجاهد عبدالمنعم مجاهد وسامي خشبة، وأبرز الشعراء الذين نشرت لهم في ذلك العصر: سليمان العيسى، فدوى طوقان، خليل حاوي، بدر شاكر السياب، نزار قباني، سلمى الخضراء الجيوسي، نازك الملائكة، أحمد عبدالمعطي حجازي، صلاح عبدالصبور، حسن فتح الباب، عثمان سعدي.

عمل سهيل إدريس في مقتبل حياته في الصحافة («بيروت» و «بيروت المساء» و «الصياد») وكتب في مجلات «المكشوف» و «الرسالة» و «الأديب»، وتابع دراسته فحصل على الدكتوراه من السوربون في باريس عن أطروحته «التأثيرات الأجنبية في القصة العربية الحديثة 1900 – 1950». كتب ثلاث روايات وست مجموعات قصصية، وفي روايته «الحي اللاتيني» (1953) تناول صدمة الشرق بالغرب، وفي «الخندق الغميق» (1958) متغيرات المدينة في عيني شيخ مسلم لم يتم العشرين من عمره، وفي «أصابعنا التي تحترق» (1962) ضلال مثقفين عرب قبل تفكك الوحدة المصرية – السورية وبعدها. ونشر قبل سنوات قليلة جزءاً أول من مذكراته تميز بجرأة غير معهودة في الأدب العربي لدى تناول الأهل الأقربين. وتجلى نشاطه المعجمي في إصداره معجم «المنهل الفرنسي – العربي» مع جبور عبدالنور، و «المنهل العربي – الفرنسي» و «المنهل العربي – العربي» مع الشيخ صبحي الصالح وسماح إدريس.

سهيـل إدريـس صانـع المشاريـع… حيـاة واحـدة لا تكفـي لكـل هـذا الإنجـاز

حنا مينه:

إلى سدرة المنتهى رحيلك يا معلم

الذي علّم الإعجاز تحطمت به سفينة العمر على صخرة الموت فحقّ للأجيال أن تبكيه، وأن ترثيه، وأن تفتقده راحلاً على جناح غمامة بيضاء إلى سدرة المنتهى.

لقد مات المعلم، مات الدكتور سهيل إدريس صاحب رواية «الحي اللاتيني» وما تلاها من روايات، ومن عطاءات أدبية نهل منها وتتلمذ عليها جيلنا، نحن الأدباء الذين يعتصر الأسى قلوبهم على فقد هذا الرائد الكبير الكبير، مؤسس مجلة «الآداب»، وباني أعرق دار للأدب في الوطن العربي كله، ليس لأنها دار «الآداب» وحسب، بل لأنها مدرسة تخرجت منها أجيال وأجيال من الأدباء العرب، ومن هؤلاء حنا مينه، الذي تحول المسافات والأمراض بينه وبين وداع هذا المعلم شخصياً، فيكتفي، وهو على هذا البعد، أن يرشق قارورة عطر على جانح نعشه المكفّن بالجلال.

إن الرحيل في عربة الموت، على طريق الأبدية، هو قدرنا جميعاً، فلكل أجل كتاب، ولكل نجمة أفول «وكل أخ مفارقه أخوه، وكل مشعشع فإلى غروب». إلا أن المرض الذي أقعد هذا المعلم طوال أعوام، واحتمله صابراً محتسباً طوال أعوام، قد أوهن جسده، واستلب غاشماً بصره، وبرى لســانه الذي طالما برته الكلمات التي خطّها لنا، وفيها عصارة دماغــه وخلاصــة تجاربه، وفيها دعوته التي تركها لنا وصية لنا، في أن يكون للأدباء اعتــصـام بالعروة الوثقى، ووثوق بقدسية الحرف وإيمان بقدرة الكلمة لتكون لهم وحدة تدفع الغائلة عنهم، وقدرة على فرض حرية التعبير، التي دونها يعتري القلم الشريف شلل قاتل ليس في مصلحة أحد، من حكام ومحكومين، في هذا الوطن العربي الكبير. كما كانت للمعلم الراحل رغبة قلبية في أن يسود السلام والوئام والمحبة ما بين الشقيقين سوريا ولبنان. فيا أيها المعلم الراحل والزميل في أمنيتك المجتلاة من أجل وحدة العرب في كل أقطارهم، لك نقول:

لا نملك إلا ما قاله الجواهــري في رثاء الوطــني العراقي الكبــير جعــفر أو التـمّن: «طالت ولو قصــرت يدُ الأقدار/ لرمت ســواك عـظمتَ من مختار».

نعم طالت يد القدر، ولا رادّ للقدر. طالت فشالت بك إلى عليين وقصرت بنا لأننا تخلفنا في الرّكب عنك، وكنا كما قال حافظ ابراهيم لأحمد شوقي:

«قد كنت أوثر أن تقول رثائي/ يا منصف الموتى من الأحياء».

وحاشى يا معلم، أيها المنصف ونعم المجير، حاشى أن تكون قصّرتَ في إنصاف أحد، وفي أخذنا في طريق الإبداع الذي هو الأغلى والأسمى في دنيانا الفانية هذه. لك رحمة ربك ومرضاته وغفرانه. ولأسرتك المفجوعة بك جمـيل الصبر وصادق العزاء

.

أحمد عبد المعطي حجازي:

تكامل ثقافي

سهيل إدريس يمثل قيمة أدبية وفكرية وسيــاسية سوف تظل حية إلى أمد طويل، هذه القيمة تتمثل في ثقافتنا أولاً المتــكاملة المتــوازنة التي حصلها في لبنان في كلية المقاصد الإسلامية وحصلها أيضا في جامعة السوربون في باريس، فهو من هذه الناحية نموذج للتكامــل الثقــافي المطلوب في هذا العصر، وهذا التكامل الثقافي لعب المصريون دورا ثقافيا فيه بداية من الطهطاوي إلى طه حسين، يعني المثقف العربي الذي بدأ بتعليم تقليدي متين يتمكن به من لغته وآدابها وعلومها ثم يكمل هذا التعليم في فرنسا بالذات.. المثقف اللبناني الذي يذكرنا بالنموذج المصري هو سهيل إدريس.

ثم إنه لم يكن مجرد مثقف إنما كان صاحب رسالة لأنه لم يكتف بأن يكون روائيا وهو الروائي الممتاز كما نرى في روايته (الحي اللاتيــني)، هذه الرواية التي كانت حلقة جديدة في تجسـيد القيــمة التي ذكرتها وهي مسألة التكامل الثقافي والتوازن الثقافي، وهذا الزواج بين الثقــافة العربية التقليدية والثقافة الغربية الأوروبية الحديثة، هي حلقة من الحلقات التي تصور وتجسد هذا التكامل، يعني يمكن أن نعتبر أن «تلخــيص الإبريز» هو الحلقة الأولى و«عصــفور من الشــرق» و«زهرة العــمر» و«قنديل أم هاشم» و«الأيام» حلقات آخرى، والحي اللاتيني حلقة أساسية في هذه السلسلة.

فالعمل الروائي الذي قدم سهيل إدريس هو تجسيد لمسيرته كمثقف ولكنه لم يكتف بأن يكون روائيا ممتازا وإنما كان صاحب رسالة، وهذه الرسالة تجسدت في مجلة الآداب التي كانت حلقة تالية ومكملة لرسالة الزيات ومن المعروف أن رسالة الزيات قد احتجبت عن الصدور في عام ,1953 والآداب ظهرت مباشرة في ذلك العام لتلعب أو تواصل الدور الذي بدأ في مصر، يعني سهيل إدريس كان في كل خطوة من خطواته يعتبر نفسه عضوا في هذه الجماعة المصرية لا باعتبارها جماعة محلية تنتمي إلى مصر وحدها لكن باعتبارها ممثلة للثقافة العربية كلها.

ثم إن سهيل إدريس من الوجهة السياسية والفكرية، هو لم يشتغل بالسياسة العملية وإنما تبــنى فكرة العــروبة وأخــلص لها وغذاها وخدمها بعمله الثقـافي سـواء في مجلة الآداب أو في دار النــشر التي أنشأها لتخدم فكرة العروبة بمضمونها العــصري المســتنير بانفتاحها على القيم الإنسانية التي جسد بها الثقــافة الأوروبية الحــديثة والمعاصرة.

وسهيل بعد ذلك صديق، لم يكن مجرد رئيس تحرير أو كاتب روائي أو صاحب دار نشر، إنما كان عضوا عاملا في المجتمع الثــقافي العربي، يقف إلي جانب حرية التفكير والتعبير وتربطه علاقات شخــصية مع كل الذين تعاون معهم في المجلة أو دار النشر الخاصة به، ومن المؤكـد أن سهيل إدريس يمثل للبنان قيــمة خاصة عظــيمة، يوازن التــيارات الآخرى التي انحازت لأفكار أخرى وارتبـاطات أخرى، يوازنها لأنه أضاف هذا البعد العربي للنشاط الثقافي في لبنان ولم يكــتف بأن يمثله في كتاباته وإنما مثله في عمله ونشاطه فكان له وجود فاعل وبــهذا استــطاع لبنان أن يلعب دورا ثقــافيا طليــعيا خلال النــصف الثـاني من القـرن العــشرين.

رحيل سـهيل إدريس خسارة عظــيمة لكنه أدى رســالته وستــظل القيم التي آمن بها وعمل من أجلها حية به وبأمثــاله وســوف يظل حيا بها.

شوقي بغدادي:

إيذان بموت بلد بأكمله

ما أكثر الذكريات التي تحتشد في مثل هذه اللحـظة كي تجد لها مكاناً في ما أكتبه الآن، حتى ليخيّل لي أن مــوت سهيــل إدريس هو مــراجعة لعصر كامل، وإلا فكيف أجمــع بين طالب «كلــية الآداب» الذي كنتُه في مطــلع الخمســينيات والطــامح للشهرة عن طريق مجــلة «الآداب»، ومعلم العربيــة الذي صرتُه في ما بعد، واليـساري الماركــسي الذي سكنني وظل موزعاً بين «الآداب»، مجلته الأولى، ومجــلته الجـديدة «الثقافة الوطنية»، والاثنتان عزيزتان عليه، بالرغم من الفوارق الفكرية بينهما.

وكيف أتناسى رسائل سهيل إدريس لي وهو يعــلق على إنتاجي ويوجهني وأصغي له وأتابع في الوقت نفسه حواراته اللطيفة الذكية مع القاص المبدع، والسوري القومي النزعة سعــيد تقي الدين. وسهيل كما أعرف ذو النزعة القومية العربية المطعّمة بالوجودية.

يا إلهي.. لكم أنا حزين أن كل هذه الذكريات الغالية قد بهتت الآن، ولم تعد تعني الأجيال الصاعدة.

حتى لكـأن لبــنان الذي أعرفه يمــوت في بعض أطــرافه مع موت سهيل إدريس الذي استطاع أن يأخذني إليه منذ روايته الأولى «الحي اللاتيني»، إلى مذكراته الأخيرة الجريئة الصريحة والطــافحة بحب الحقيقة.

في وسعي الآن، إذا ما استسلمت لنهر ذكرياتي المتــدفق، ألا أتوقف عن الجريان حتى أجدني أمام كتاب كامل عن الموهبة والوطنــية والمحبة والجرأة والذكاء والوفاء.

وأن أقول في ختام هذا الكتاب إن كل هذه الصفات تموت أو لعلها ماتت وعليّ الآن أن أرثي لبنان بأكمله وهو يواجه معــاناته الراهـنة المعقدة، وكأن موت سهيل إدريس ليــس تعبيراً عن مــوت كاتب معــين، بل هو إيذان بموت بلد بأكمله، ولكن كما يقولون «من خلّف ما مات» ما دام ابنه سماح حاضـراً حاملاً شــمائله. فحــافظْ على «الآداب» يا ســماح، كما أراد أبوك، وأنت قادر على ذلك، وهــكذا تحافظ على حــياة أبيك فينا جميعاً.

رحمك الله يا دكتور سهيل، يا أبا سماح، يا صديقي العزيز.

جابر عصفور:

من نجوم الفكر القومي

سهيل إدريس واحد من نجــوم ورموز الـفكر القومي العربي، فقد ظل يدافع عنــه طوال حياته، بل إنه أسس مجلة الآداب لكي تكون منبرا حرا للفكر القومي وكتابه وشعرائه، وهو الذي لم يترك موهبة عربية إلا وفتح لها صفحات مجلته، وبفضله عرف العرب شعراء مثل بدر شاكر السياب ونازك الملائكة ومجمل الشعراء العرب الرواد من مختلف الأقطار العربية.

لقد ظل يدافع عن الاتجاه الــقومي العــربي وهذا ما أدى به للاحتفاء بالتجربة الناصــرية التي كانت في أوج ازدهارها في الخمسيــنيات والســتينيات، وقد جاء إلى مصر والتقى بالرئيس جمال عــبد النــاصر الذي كـان بدوره يحـتفي بالكــتاب العرب.

تعد روايات سهيل إدريس من الأعمال الروائية العربية الأساسية التي تتناول العلاقة بين الشرق والغرب. هو الكاتب والمبدع والمترجــم القدير الذي عرف العرب بفضله مجمل التيارات والاتجاهات الفكرية والإبداعية الغربية، وأهمـها وجودية جان بول سـارتر التي تبنــتها مجلة الآداب لفــترة طويلة.

محمد علي شمس الدين:

الرمز

رحل سهيل ادريس لكن اسمه في ما هو رمز أدبي إبداعي وقومي سيبقى طويلا. حفر سهيل ادريس في الذاكرة الأدبية خطوطا يصعب ان تمحى بسهولة. كان من أوائل من مزج الفكر العربي بالثــقافة الغربية، من خلال اهتمامه بالأدب الوجودي والفلسـفة الوجودية، بالترجمات التي فتح دار الآداب لها فقام بهذه الترجمات اما زوجته عايدة مطرجي إدريس او هو مباشرة او من انتدبهم لذلك.

لا ننسى سهيل ادريس الروائي من خلال روايته المبكرة «الحي اللاتيني» و«الخندق الغميق» و«أصابعنا التي تحترق» أما سهــيل ادريــس صاحب دار الآداب ومجلة الآداب فإنه كان مركز جذب للشعر العربي الحديث والمعاصر وللرواية العربية الحديثة والمعاصـرة، إذ يندر ان تجد شــاعرا او روائيا ذا قيمة ابداعية لم يمر بهــذه الدار وهذه المجلة.

رحم الله سهيل ادريس. لقد كان بالنسبة إليّ صديقا حميما ودودا في الأســفار والاقامة. ان تسعة من دواويــني الشــعرية صدرت عن دار الآداب، أي ما يوازي ثلاثة أرباع ما كتبته من شــعر، وقصائدي المبكرة ظهرت في هذه المجلة، فكيف أنسى وكيف لا أحزن، ولكن كما ان الحياة استمرار والثقــافة استمرار، فإن لسهيل ادريس من يجدد حضوره، بل يطور هذا الحضور، ان لمسات سماح ادريس في المجلة ورنا ادريس في الدار تشكل استمرارا لمعنى الحياة الأدبية والثقافية المتطورة التي تعتــبر الآداب أسـاسا لها.

محمد إبراهيم أبو سنة:

من كبار أفضل الروائيين

ابتداء أشعر بالصدمة والأسي لرحيل واحد من كبار المثقفين العرب، ومن أفضل كتابها الروائيين في القرن العشرين، تغمده الله برحمته، وبالغ العزاء لأسرته التي تواصل أداء رسالته في مجال النشر وإصدار مجلته الرائعة مجلة الآداب.

سهيل وجه مشرق ونادر، استطاع أن يقدم للحركة الشعرية العربية والمصرية في بدايتها في الخمسينيات والستينيات نافذة واسعة ومنبرا للإطلال علي المنجز الشعري في البلدان العربية وكذلك الإطلال على الساحة الثقافية والإبداعية العالمية، وجيلي على وجه التحديد وجيل شعراء الستينيات والخمسينيات المدينين له فقد مد يد العون لهذين الجيلين لنشر أعمالهما على صفحات مجلته التي كانت تعد منبرا قوميا وحملت هذه المجلة رسالة الشعر الحديث وأصلت للتيارات الإبداعية الحديثة سواء في القصة أو المسرح أو النقد الأدبي، وأنا شخصيا نشرت ديواني الثاني حدقة الشتاء في دار الآداب.

هذه الدار التي كان النشر بمثابة جائزة أدبية لأنها كانت تحمل أسماءنا إلى أركان الوطن العربي كله، ولا أنسى أن سهيل بشفافيته ونبله وكرمه كان وراء توجيه الدعوة لي للمشاركة في الملتقي الشعري العربي الثاني الذي عقد ببيروت 1974 واستقبلني وزميلي وفاء وجدي بكثير من المحبة والترحاب.

إن الوفاء بدين سهيل إدريس الأدبي أكبر من طاقتنا فقد استطاع بجهوده في مجال النشر أن يوصل أصواتنا وإبداعنا إلى القراء العرب في كل مكان، كما أن دور مجلة الآداب أيضا كان دورا طليعيا في إطلاعنا على التيارات الأدبية والفكرية العالمية، أنا أشعر بخسارة فادحة لكني على ثقة من أن الضمير الأدبي العربي سيظل محتفظا بمحبة صادقة لهذا الأديب والناشر العظيم والمدافع عن حركة الحداثة والذي رفــع لواء المنابر القومية في النشر.

سهيل إدريس هو الذي عرّف أدباء العربية ببعضهم البعض، ولولا مجلة الآداب التي أسسها ورأس تحريرها لخابت كثير من الآمال في سطوع رواد حركة الشعر الحديث ورموزه.

سهــيل إدريس ناشــر وروائي ومترجــم وناقــد يمــثل صــورة مشرقة ونادرة لمرحلة من مراحل النهضة الأدبية العربية في القرن العشرين.

جمال الغيطاني:

علامة مضيئة

كان صرحا ثقافيا عظيما وسيظل علامــة مضيئة في الثقافة العربية مذكرا لنا بالثقافة القومية المستنيرة، ومما يجعلني أحس بالعزاء أننا خصصنا له عددا من جريدة أخبار الأدب عام 2003 ، ليس هناك مثقف عربي ليس مدينا لسهيل إدريس، فقد أسس وترأس مجـلة الآداب التي تبنت الاتجاه القومي وقدمت أهم الأسماء الشعرية والنــقدية وغيرها، كما قامت دار الآداب بتقديم التيارات العالمية في الأدب، هذه الدار التي يفخر أي كاتب أن ينشر فيها، ولا ننسى أنه من نشر رواية نجيب محـفوظ أولاد حارتنا.

وليد إخلاصي:

الغائب الحاضر

رحيل سهيل ادريس يحيي في الذاكرة مجلة (الآداب) الشهرية التي كان رئيس تحريرها منذ العدد الأول في العام .1953 وكان قد كتب في مقدمة العدد الأول من السنة الثانية:

«ان هذه المجــلة تلح على اتجــاهين: أولهمــا وأهمــهما دون ريب محاربة الاستــعمار الذي ترزح تحته الأمة العــربية، أيــا كــان شـكل هذا الاستعمار، وأيــا كانت الدولة الأجنــبية التي يصدر عنــها. وأما الاتجاه الثاني، فاستيحاء المجتمع العربي الأدب الذي يحتاج اليه هذا المجتمع».

منذ البداية أعلن سهيل ادريس عن ربط المشروع الثقافي المتمثل في مجلة الآداب بوجهي عملة القضية العربية: النضالي والابداعي. وهكذا استمر سهيل ادريس متقدما في دربه، فكان ان استقطب مشروعه أهم الكتاب والشعراء وأوسع رقعة من المثقفين العرب. وإذا ما ظهرت دار الآداب للنشر كان سهيل ادريس يستكمل مشروع عمره تسانده أسرته من طرف والتعاطف الجماهيري من طرف آخر.

نصف قرن من الابداع والايمان بدور الثقافة في الحياة، أمضاه سهيل ادريس بحيوية وإخلاص جعلت منه واحدا من الرموز الثقافية العربية، فما عاد غيابه من المسرح بمؤثر على الدور الذي ارتضاه بعد ان بات حضوره الغائب الآن وجودا مستمرا في الزمن القادم.

كان سهيل ادريس مزارعا جادا أتقن دفن البذرة في تربة خصبة وروى الأرض بالمثابرة والاخلاص للمجتمع الممتد على ساحة الجغرافيا العربية. لنحيّ الراحل بالدعاء لمن يعمل على متابعة مشروعه بالحرارة التي كانت لسهيل ادريس.

شوقي بزيع:

لا يشبه الموت

كنت أؤثر في المسافة الفاصلة بين تلقي رحيله وبين الطلب إليّ أن أقول شيئا ما في المناسبة بأن أترك للصمت وحده أن يعبد هذا الزمان الشاغر بوفاة أحد أكثر الأصدقاء الذين أحببتهم والذين جمعتني بهم مودة لم تنقطع منذ أكثر من ثلاثين عاما.

لست الآن في معرض الحديث عن الروائي المؤسس في «الحيّ اللاتيني» ولا عن حاضنة الحداثة العربية التي اتسعت صفحات مجلة «الآداب» التي أصدرها في خمسينيات القرن الماضي لمئات الشعراء والروائيين والكتاب العرب ولا عن المدافع الشرس عن الديموقراطية والحريات في عالم عربي أثخنه طغاته بالجراح بل الأهم من ذلك وقبل كل ذلك أريد أن أرثي ذلك القلب الكبير المفعم بالحب والدفء وذلك الذي كان لي أبا وأخا والذي نقلني منذ منتصف السبعينيات من طور التأتأة على طرقات الشعر إلى طور الكلام الفصيح. أنا الذي نشرت أولى قصائدي في الآداب والذي نشر كل مجموعاته الشعرية الثلاث عشرة في الدار التابعة لها. ثمة شيء من اليتم أشعر به بوفاته وهو الذي بالمناسبة ولد في السنة نفسها التي ولد فيها أبي البيولوجي.

أعرف أن بداية انكساراته كانت مع تراجع حلمه القومي وبانكسار عبد الناصر ولكنه على المستوى النفسي والجسدي بدأ يترنح تحت ضربات المرض والإحباط في اللحظة التي رحل فيها صديق عمره نزار قباني وقد صارحني يومها بأن وفاة نزار هي خطوته الشخصية الأولى نحو القبر. ورغم ذلك فقد كانت تتصارع داخله قوى الحياة والموت بكل ضراوتها وكان دائما ينزع نحو الأولى حيث حبه الجارف للغة وللأمة وللمرأة ولشهوة العيش ولأنه لا يشبه الموت في شيء ولأن كبرياءه كانت أقوى من المرض ولأنه لم يرد لأصدقاءه أن يعاينوه في لحظة ضعف فقد آثر بعد أن بدأ عمليات غسل الكلى أن ينزوي داخل غرفة نومه رافضا أن يراه أحد في صورة لم يكن يحبها لنفسه. وهو إذ يغيب الآن أشعر أنني أدفن معه جزءا غير يسير من أحلام الحياة الوردية ومن فرح الوجود الأرضي ومن الافتتان اللانهائي بالكلمات.

رفيف رضا صيداوي:

ذاكرة كاملة

هل هي صدفة أن يرحل سهيل ادريس القومي العربي في زمن الأفول العربي؟ هل هي صدفة أن يقضي الرجل الذي ناضل من أجل قيم الحريّة والوحدة والديموقراطيّة في لحظات مصيريّة عنوانها المزيد من البؤس والفقر والتشرذم والطغيان؟

في وداع أديبنا ومفكرنا الكبير سهيل ادريس كأننا نودّع ذاكرة كاملة، لطالما حملت لنا الوعود والآمال. وكوني لست في وارد تعداد إنجازات الأديب والمفكر الراحل، ألفيت نفسي وأنا أسطّر هذه الكلمات أودّع أباً متنوّراً وتاريخاً مشرفاً ناضل سهيل ادريس وأمثاله من المثقفين العرب في الدفاع عنه.

صاحب «الخندق الغميق»، و«الحيّ اللاتيني»، و«أصابعنا التي تحترق»، صاحب هذه الثلاثية الروائية الخالدة في النتاج الروائي اللبناني والعربي، آمن بأن الأدب صنو الحياة: عاملٌ من عوامل التطور والتغيير. فناضل في حياته كما ناضل أبطال ثلاثيّته: نضال من أجل الانعتاق من السلطة الأبوية في «الخندق الغميق»؛ نضال من أجل اكتشاف الذات والتصالح معها في «الحيّ الللاتيني»؛ نضال من أجل أن يبقى المثقف على مسافة من كلّ القذارة التي تحيط به، ومن أجل أن ينشر قيمه ويحافظ عليها في «أصابعنا التي تحترق».

لقد رسم ادريس من خلال فكره كما من خلال أدبه معالم الحرّية المرجوّة. تلك الحرية المسؤولة في الدفاع عن القيم الحقّة والمثل العليا.

في وداع سهيل ادريس، وفي هذه اللحظات التي فرغت فيها الكلمات من معانيها وتاهت في مسارات التضليل والتمويه والكذب وتشويه معاني الحق والخير، تراني أودع مثقفاً كرّس حياته لمواجهة قوى التضليل والشرّ والطغيان والرجعية والإقطاعية

فهل ذهبت جهودك سهيل ادريس سدىً؟ كلا لأن عطاءك كان كسباً للفكر العربي نستطيع أن نعتزّ به وأن نسهم من خلاله في خلق القدر العربي الجديد.

عبد المنعم رمضان:

زمن سهيل الذهبي

وصلتني رسالة عبر «الموبايل» من روائية صديقة ذات حساسية فائقة كتبت فيها (أليس وبلا كلالة ضربا من القتل؟ مات سهيل إدريس) لم أستطع الرد علي الرسالة لأنني فعلا أخاف من الموت، وعندما يصل الموت إلى أشخاص أحببتهم أشعر أنه يحوم حولي، ليس مصادفة أن يموت رجاء النقاش ويليه سهيل إدريس اللذان كانت بينهما صداقة فكرية، بموتهما كأن عصرا ينهار، ما يعزيني في سهيل إدريس أنه امتلك زمنا ذهبيا، أغلب الكائنات يكون لها في أثناء حياتها زمن ذهبي تعيشه ثم تقضي بقية حياتها خارجه، زمن سهيل الذهبي كان طويلا بعض الشيء امتد ثلاثة عقود بالتقريب، وكان مؤثرا في ما حدث بعده، ما يعزيني أيضا أن تعثر السيدة رنا إدريس على زمنها الذهبي حتى تعيد لدار الآداب فتوة أوجدها سهيل ذات يوم.

آخر أفعال سهيل إدريس الحميدة هو شروعه في كتابة سيرته الذاتية التي صدر الجزء الأول منها وكان يحاول في هذه السيرة أن يضع قدميه في زمن آخر، مرة ثانية (أليس وبلا كلالة ضربا من القتل؟ مات سهيل إدريس).

سهيل إدريس .. أكثر من رجل لأكثر من مهمة

عباس بيضون

حقبة كاملة من عمرنا الثقافي تنطوي بوفاة سهيل إدريس وتدخل في التاريخ. حقبة ليس فيها إلا الكثير ومن كل شيء. الكثير من الناس والأحداث والمعارك والأحلام والمبادرات والخسائر. فسهيل إدريس كان دائماً في غمرة مشروع ومشروع أكبر من أن يتحقق في عمر واحد وبرجل واحد. ونحن إذ نطالع حياته نجد في مفارقها، ليس فقط الفصل الأمامي في ثقافتنا لكن موجات كبيرة وتيارات ومراحل. الفتى المعمم الذي رمى العمامة جانباً بعد أن ضاق بالشيخ الصغير الذي كانه، سافر إلى باريس، لم يكن يترسم خطوات طه حسين لكن طريق طه حسين كانت ذلك الحين أكثر من سيرة شخصية. ما بين الأزهر وباريس امتدت ملحمة جيل، وعلى بعد ما بين الاثنين كان لدى سهيل إدريس من التفاؤل ما جعل القفزة ممكنة. إذا كان طه حسين التقى بديكارت وأندريه جيد وسوفوكل في باريس، فإن سهيل إدريس التقى هناك بجان بول سارتر وألبير كامو، لكنه قبل كل شيء التقى هناك بالبوادر الأولى للمغامرة القومية. لم يكن الوحيد في ذلك. جنبه نخبة من هؤلاء الذين كانت الرحلة إلى باريس بالنسبة لهم بحثاً عن الذات، الذات التي بحثوا عند برغسون وسارتر وكامو عن فحوى لها. كانت هذه محاولة لإيجاد صعيد فلسفي للفلسفة القومية. محاولة لم تكن الأولى فربما كانت لها سابقة عند ميشيل عفلق الإنسانوي ذلك الحين وزكي الأرسوزي الباني فلسفته على عبقرية اللغة، في حين كان آخرون يبنون على الجيوبوليتيك وعلى عنصرية مضمرة. لقد كانت باريس بالنسبة لإدريس ورفاقه كما كانت اللغة الفرنسية محلاً لترجمة الذات أو اجتراحها. أدرك ادريس مبكرا، انه مندوب لمهمة مزدوجة. لم يكن المتأمل او الكاتب فحسب، لكن بالدرجة نفسها، الناشر والمنظم والمحفز. كان غير متوقع أن يعود حامل دكتوراه كسهيل إدريس بمشروع مجلة. فعل هذا طه حسين لكنه قبل ذلك وبالتوازي معه شغل عمادة الجامعة، بل ووزارة التربية. سهيل إدريس كان بالتأكيد من أولئك الذين يعرفون كيف يبنون ابتداء من الصفر، وكيف يسهرون بانتظام على رفع البناء لبنة لبنة. انضباط وانتظام ومخيلة وحدها تصنع مشاريع. سهيل إدريس من اللحظة الأولى صانع مشاريع. حياته في الواقع هي هذه المشاريع التي يكبر أي منها عن طاقة رجل واحد. كان لديه في آن واحد مشروعه الروائي، وبالفعل ظهرت حلقته الأولى «الخندق الغميق». «الخندق الغميق» فاتحة عمل روائي قام في الأساس على السيرة الذاتية، إذا كانت الخندق الغميق سيرة الطفولة البيروتية فـ«الحي اللاتيني» سيرة الشباب الباريسي. لا بد من أن هذه الجرأة على الذات، وهذا الكشف عن الذات، كانا جديدين في الرواية العربية. طه حسين من الأوائل الذين جعلوا حياتهم موضوع كتابتهم، مثل طه حسين روى سهيل إدريس حكايته مع المعهد الديني وحكايته في باريس. لكن يوم إدريس كان غير «أيام» طه حسين. مهما بلغت سخرية الثاني وتحرره إلا أنه كان يسوق ذلك بقدر من الوقار والحرص وتأبّ عن الحميم وتورع عن مس قواعد الحشمة. ليست «الحي اللاتيني» بهذا الحرص ولا بهذا التحبب، فهي أيضاً رواية تمرد وانتهاك واجتراء على العمود الأخلاقي وغوص في الحميم، لكنها أيضاً رواية تفاؤل وتطلع الى المستقبل. بوسعنا أن نقول إن الرواية تستحق الضجة التي أعقبت صدورها، فهي على نحو ما رواية جيل. ذلك المزيج من الرغبة والطموح والنوستالجيا القومية والتفاؤل كان ركيزة ما يمكن أن نسميه آنذاك بـ«الحلم العربي». وقد آلى سهيل إدريس على نفسه أن ينشر هذا الحلم. غدت «الآداب» الصادرة في بيروت مركزاً للقاء النخبة، لكن أيضاً كانت مصنعاً لثقافة جامعة، فالمجلة الصادرة في أصغر بلد عربي كانت حاملة هذا المد القومي الذي تدفق بشبه معجزة وصنع لتوه صعيداً واحداً وسقفاً واحداً. حملت «الآداب» هذا المد أو بالأحرى تكتلت بصياغته ثقافيا. كانت ساعة التجديد، التجديد في الشعر والرواية والمسرح والفن التشكيلي والنقد والإيديولوجيا وهذه جميعها تفتحت في الآداب. لقد كانت هذه مصنع ما سماه طه حسين بـ«الثقافة الجديدة»، كانت الوجودية مطعمة بماركسية قومية هي أساس دعوة بدت في ضوء المرحلة أوضح مما كانت عليه وأكثر تماسكاً، لكن «الآداب» كانت أيضاً عبقرية في الصحافة الثقافية، رسائل من باريس وموسكو وبغداد و… غنية وجدية، سجال متحرك في أبواب النقد ونقد النقد. أعداد خاصة بعضها عن الفن التشكيلي يومذاك، ترجمات لنصوص كاملة بعضها لسارتر وبريخت وبيرانديللو… معاصرة تتواقت هذه المرة أو تكاد مع اللحظة العالمية، كانت هنا جنينة زاهرة حقا، لكن تحت السطح كانت تتكون نماذج جامعة في الأدب والفن. رواية الآداب بالطبع متعددة ولا تقف هنا لكن بوسعنا مع ذلك أن نتكلم عنها كمدرسة وناشر للحداثة، كإيديولوجيا قومية وحارس على أن لا تفلت هذه من النطاق القومي. إنها رواية متعددة بالتأكيد، ومع تراجع المعجزة وانحسار المد وتشظي المشروع الجامعي صارت للرواية حلقات أخرى. الآداب كأكثر من مجلة، لكن أيضاً مع مشروع لا يقل تطلباً: المنهل قاموس عربي فرنسي مع جبور عبد النور، ثم دار الآداب إحدى الدور العريقة القليلة التي تصنع كتّاباً، كيف تتسع حياة واحدة لكل هذه الإنجازات وكل واحد منها فوق طاقة رجل. كيف تنجح كلها ويغدو كل منها مثلاً. إنه سر سهيل إدريس، والأرجح أن الزواج بين الرغبة والتنظيم بين المخيلة والحساب، بين الجرأة والمثابرة أثمر ذلك كله. لقد أعطى سهيل إدريس اسمه لحيوات كثيرة، لذا فإن موته يمر بلطف وهدوء كأنه لم يحدث.

سهيل إدريس مفرد بصيغة الجمع

«صاحب الآداب» يترك زمنه يتيماً ويرحل عن 83 عاماً

حسين بن حمزة

برحيل صاحب «الحي اللاتيني» تنطوي إحدى الصفحات الأخيرة في السجلّ الذهبي لجيل ومرحلة: جيل المؤسسين الذي ترك بصماته على مرحلة خصبة من التاريخ العربي الحديث. انسحب سهيل إدريس رافضاً أن يشهد على هزيمة مشروعه، وانحسار القيم التي آمن بها ووهبها حياته

مع سهيل إدريس (1925ـــــ 2008)، يأفل أحد آخر نجوم حقبة أدبية وثقافية عربية كاملة. معظم أقران إدريس ومجايليه سبقوه إلى الغياب. والباقون على قاب قوسين أو أدنى. ذلك الرعيل من الأدباء والمفكرين والصحافيين الذين يدينون، قبل كل شيء، لعصاميتهم وانكبابهم الجدي والعميق على تعزيز مواهبهم وتطويرها عبر التفاعل مع ما سبق من تراث عربي، وما هو راهن من آداب أجنبية تمرّر هواءً مختلفاً إلى رئة الثقافة العربية.

كتب سهيل إدريس القصة والرواية والمقالة والدراسة النقدية والسيرة الذاتية. ترجم أعمالاً عدة عن الفرنسية. أنشأ مجلة «الآداب»، وأضاف إليها دار نشر بالاسم نفسه. خاض معارك ثقافية لا تُحصى، كانت أشهرها تلك التي دارت بين «الآداب» ومجلة «شعر»، ثم مجلة «حوار». أمضى سنوات في تأليف «المنهل» الفرنسي و«المنهل» العربي.

التنوع والموسوعية وتعدد المواهب والاهتمامات كانت سمة من سمات ذلك الجيل. وسهيل إدريس لم يتأخر في ابتكار سمات مشابهة ظلت ملازمة وملتصقة باسمه. لم يكن قاصاً فقط، ولا روائياً فقط، ولا ناقداً فقط، ولا مترجماً فقط. كان مؤسسة ثقافية بكاملها. بل هو أحد قادة الثقافة وروادها في النصف الثاني من القرن العشرين. كان كاتباً وصانعاً للكتَّاب. اشتغل عند نفسه كاتباً، وفتح صفحات «الآداب» لولادة مئات الكتّاب من شتى أنحاء الوطن العربي. كانت مجلّة «الآداب» تمنح جوازات مرور إلى عالم الأدب، ولاحقاً إلى عالم الشهرة. كان مجرد ظهور اسم فيها علامة على الموهبة والجدارة. وكثيرون نقلت إليهم «الآداب» لوثة الكتابة، وقدمت لهم شهادات ميلاد.

لعل صفة «صاحب الآداب» (المجلة ودار النشر)، هي الأكثر انطباقاً على سهيل إدريس. لقد صنعت «الآداب» جزءاً كبيراً من حضوره وشهرته، لكنها، في الوقت عينه، صنعت حضوراً وشهرة لأجيال من الأدباء والمثقفين العرب. الأرجح أن شيئاً كهذا لم يحدث إلا نادراً في تاريخ الأدب الحديث. أن يستحوذ أحد ما على صفة كاتب وصانع كتّاب في آن.

ورّط سهيل إدريس كثيرين في عالم الأدب وغيَّر حياتهم. ستظل أعناق هؤلاء مطوّقة بديونه عليهم. لكنه لن يطالب بها يوماً. ولذا، فإن غياب سهيل إدريس اليوم لن يكون رحيل كاتب بمفرده. إنه رحيل «مفردٍ بصيغة الجمع». ففي ثنايا هذا الرحيل، ثمة حكايات وقصص كثيرة سيتناوب كثيرون على استعادتها وسردها. سيحرّك غيابه ذكريات شخصية كثيرة في مخيلة الكتّاب الذين استقبلتهم مجلته. سيعود الذين ظلوا أحياءً منهم إلى لحظات «عمادتهم»، وحصولهم على الاعتراف فيها. ثم انطلاقهم منها إلى طموحات نصية ونبرات خاصة بلا عدد.

لا بدّ من أنّ «الآداب» تتقدّم على منجزات سهيل إدريس كلها، إن لم تكن قد غطَّت على حضوره كاتباً وروائياً. فهي في نظر كثيرين الأثر الذي سيخلِّد اسمه أكثر من أي عمل آخر. ولكن سطوة «الآداب» ونفوذها الرمزي والتاريخي الواسع، لا ينبغي أن يطمسا السيرة الأدبية والثقافية الذاتية لصاحبها.

فلنتذكر سهيل إدريس الشاب الذي تخرّج في الكلية الشرعية، ثم اضطرته ميوله المدنيّة وطموحاته التأليفية المبكرة إلى التخلي عن جبّة رجل الدين. لنتذكر ترجماته لسارتر وكامو، وتبني «دار الآداب» لنشر الكثير من المؤلفات الوجودية. لنتذكر جرأته حين أصدر الجزء الأول من سيرته الذاتية، وكشف فيها شذوذ والده. لنتذكر أنّه أحد رواد الرواية الحديثة في لبنان والعالم العربي، وأن روايته الأشهر «الحيّ اللاتيني» أسهمت مع روايات «أديب» لطه حسين و«عصفور من الشرق» لتوفيق الحكيم و«قنديل أم هاشم» ليحيى حقي و«موسم الهجرة إلى الشمال» للطيب صالح.. وغيرها، في سرد العلاقة الشائكة والملتبسة بين الشرق والغرب والفجوة الحضارية بينهما. وهو الموضوع الذي احتل حيزاً مهماً في المشهد الروائي والنقدي العربي.

دافع سهيل إدريس، بشراسة وحس مبدئي، عن أفكاره وآرائه. فعل ذلك في شبابه وواصل ذلك في كهولته وشيخوخته. في حوار أجريناه معه قبل سنوات في مجلّة «زوايا» (العدد ١٠/١١)، أصرّ على رفض «قصيدة النثر» التي لم ينشرها في «الآداب» طوال فترة تولّيه رئاسة التحرير، رغم اعترافه برواجها الواسع وإقبال الأجيال الشابة على كتابتها. وأصرّ على صوابية قراره برفض رواية محمد شكري الشهيرة «الخبز الحافي». رغم نجاحها النقدي والتجاري وترجماتها المتعددة، ظل على قناعته بأنها رواية غير متكاملة، وأن نبرتها الجريئة والفضائحية، لا يسعها أن تشفع للترهّل الروائي الذي فيها.

كان سهيل إدريس ابناً باراً لزمنه. صانعاً له وشاهداً عليه. ظل قومياً عروبياً حتى حين سقطت الأحلام الكبرى وانهزمت الإيديولوجيات. وها هو يرحل مورِّثاً أبنه وبنتيه التركة نفسها.

كتّــاب مصريّــون يتذكّــرون: وُلدنــا مـن رحــم «الآداب»

القاهرة ـــ محمد شعير

«لا يوجد مثقف مصري من جيلي إلا ويدين لهذا الرجل»، هكذا علّق الروائي جمال الغيطاني على نبأ رحيل سهيل إدريس الذي سرعان ما ألقى بظلاله على جلسات «الملتقى الرابع للرواية العربية» المنعقد في القاهرة.

الشاعر أحمد عبد المعطي حجازي قال إن رحيل إدريس «صدمة شخصية… لم يكن مجرد كاتب لبناني. هو أدى دوراً متميزاً في الثقافة العربية، لا بصفته رئيساً لتحرير «الآداب» فقط، بل أيضاً بصفته روائياً متميزاً، شُغِلَ بالقضايا الأساسية نفسها التي شُغلنا بها نحن: علاقتنا بالغرب، وعلاقتنا بالتراث. والذين قرأوا «الحي اللاتيني» يعرفون أنّه قدّم للرواية العربية إضافةً حقيقيةً، وكانت حلقة في طريق بدأه توفيق الحكيم ويحيى حقّي وطه حسين. وقد أدى هذا الدور باعتباره أيضاً صاحب مشروع ثقافي هو «الآداب» التي كانت علامة أساسية في طريق النهضة. وقد ظهرت في بيروت في العام الذي احتجبت فيه مجلات «الرسالة» للزيات، فحملت الشعلة قبل أن تسقط، وواصلت التقدم بها. وعلى صفحات «الآداب»، انتصرت حركة تجديد الشعر العربي، والتقى جيل من الكتّاب المصريين واللبنانيين والسوريين والعراقيين، ووجدت العروبة والتقدمية منبرها الذي جلجل فيه صوتها طوال الخمسينيات والستينات». ويضيف حجازي: «قصائدي الأولى نشرتها في «الآداب»، كما أنّ جيلنا الأدبي برمّته يدين لإدريس بالفضل، لقد نشر الديوان الأول لصلاح عبد الصبور والكتاب الأول لرجاء النقاش ولأمل دنقل». ويضيف حجازي: «كان سهيل أيضاً صاحب موقف. هذا الموقف كان تعبيراً عن فكرة العروبة. فقد كانت في لبنان مؤسسات أخرى تنحاز لتيارات فكرية وسياسية مختلفة تتحدث إما عن القومية السورية أو عن علاقة لبنان بالثقافة الأوروبية أكثر من علاقتها بالثقافة العربية. ظهر سهيل ليمثّل التيار الآخر الذى يحقق التوازن». ويستكمل حجازي «مواقف» إدريس: «عندما فصلني السادات من عملي الصحافي عام 1973، دافع سهيل عنا في «اتحاد الكتّاب العرب». هكذا، يمكن أن أرصد له عشرات المواقف. الدور الذي أداه سهيل يحيي ذاكرته ويضمن له حياةً باقيةً».

الدكتور جابر عصفور اعتبر ادريس «رمزاً ساطعاً من رموز الاتجاه القومي» ويتذكر: «نشرت كل مقالاتي الأولى في «الآداب»». أما الروائي بهاء طاهر فتأثر عندما عرف بخبر رحيل ادريس. «مجلّة «الآداب» كانت المتنفس الوحيد المتاح لنا طوال الخمسينيات والستينيات، عرّفتنا إلى كل التيارات الجديدة في الغرب. وتبلورت فيها كلّ التيارات الجديدة في الأدب العربي».

الروائي إدوار الخراط تحدّث بحزن عن رحيل إدريس والدور الذي أدته المجلة و«دار الآداب»: «لا أحد يستطيع أن ينكر الدور الذي أدته المجلة بالتزامها أفكار القومية العربية وأطروحاتها، والتعريف بأهم التيارات الأدبية والفلسفية الفرنسية مثل الوجودية. و«الآداب» أتاحت مناخاً ديناميكياً تهبّ فيه رياح التجديد، بل التجريب والمغامرة في وجه الجمود السلفي وضيق الأفق التقليدي».

بعدما استوعب جمال الغيطاني مفاجأة الرحيل، أضاف: «كان النشر في «الآداب» بمثابة ميلاد لظهور أديب جديد نظراً إلى صدقية المجلة. لا يمكنني نسيان الفرح الذي انتابني يوم نُشرت فيها قصتي الأولى «رسالة فتاة من الشمال»عام 1964» ويضيف: « لقد أقدم ادريس على نشر «أولاد حارتنا» بعد مصادرتها. وهذا ما لم ينسه له نجيب محفوظ حتى رحيله».

الروائي محمد البساطي يضيف قيمةً أخرى تركها إدريس: «عبر «الآداب»، تعرفت إلى أدباء العربية كفؤاد التكرلي وزكريا تامر وكل أبناء جيلي في بلدان عربية أخرى».

أما الروائي خيري شلبي فرأى أنّ الدور الذي أداه إدريس خطير. إذ صدرت «الآداب» في لحظة تاريخية وجمعت النخب الثقافية من الوطن العربي، فاعتُبرت «الحضن الأول الذي احتوى بواكير تجربة التجديد في الشعر العربي الحديث والقصة العربية».

نهاية عصر

بيار أبي صعب

هكذا ترجّل المحارب القديم. على مهل أنزل عن كتفه اليمنى البندقيّة التي رافقته في كل المعارك، أكثر من نصف قرن. وضعها في ركن آمن. استلقى ببطء وهدوء، ثم مضى في استراحته الأخيرة.

إنّه أكثر من رجل واحد: الأديب والناشر والصحافي والمترجم. المثقف الملتزم، والعالم اللغوي ورجل القواميس. سهيل إدريس (١٩٢٥ ــــ ٢٠٠٨) الذي رحل صباح أمس كان قد انسحب شيئاً فشيئاً من دائرة الضوء. في السنوات الأخيرة، حاول أن يجد تسوية مع المرض والشيخوخة، هو الذي لم يساوم مرّة على قناعاته الفكريّة والأدبية والسياسيّة. لقد نظّم تركته جيّداً. نجله سماح منذ سنوات على رأس مجلّة «الآداب»، أعطاها نفساً جديداً، ولا يكاد يخرج من معركة إلا ليدخل في أخرى… وفيّاً ــــ على طريقته ــــ لهذا التقليد العريق الذي قامت عليه المؤسسة في زمن آخر. كريمته رنا على رأس «دار الآداب» التي تواصل رهانها على النوعيّة والجرأة والتجديد والاختلاف، تحت العين الساهرة للأديبة عايدة مطرجي رفيقة الدرب التي شاركت في وضع المداميك الأولى لمغامرة طويلة النفَس، تتواصل اليوم بالزخم نفسه

وضع الأديب والناشر اللبناني نقطة نهائيّة، خاتماً الفصل الأخير من حكاية تختصر نصف قرن في مسار الوعي الثقافي العربي. من «الكليّة الشرعيّة» والتكوين الأزهري إلى الصخب الوجودي في باريس على أرصفة «الحيّ اللاتيني»، ومن الحلم الناصري إلى زمن النكسات والانهيارات… عاش سهيل إدريس أكثر من حياة، وبقي يدحرج صخرة سيزيف، مسكوناً بالهمّ القومي في زمن تفتت الجغرافيا وانحسار الأحلام. وبعد انقطاع طويل عن الأدب، فاجأ الجميع بجزء أوّل من مذكراته (هل هناك في الأدراج أجزاء أخرى؟) «ذكريات الأدب والحبّ» (٢٠٠٢) التي صدمت بجرأتها، وسلّطت الضوء على تجربة إنسانيّة وإبداعيّة فريدة.

من أين نبدأ اليوم، ونحن نستعيد محطات من سيرة الرجل ــــ المؤسسة وإنجازاته؟ من أدبه الروائي والقصصي القليل؟ من قواميسه؟ من معاركه وافتتاحياته في «الآداب» التي جمعها في «مواقف وقضايا أدبيّة»، ثم «في معترك القوميّة والحريّة»؟ وهل ننسى ترجماته الرائدة لسارتر وكامو ودوراس، ودوبريه وغارودي…؟

حين أقبل على الرواية كان همّه تدوين تجربته الشخصيّة في باريس، فإذا به يضع الحلقة الأولى من ثلاثيّة روائيّة، أشبه بسيرة ذهنيّة. حين يؤتى على ذكر «الحيّ اللاتيني»، سرعان ما نسمع أو نقرأ عبارة «صراع الشرق والغرب» التي تتردد دائماً. لكننا نستعيد أولاً سراب تلك الألزاسية الشقراء في لوحة ضبابيّة داكنة تسكن مخيّلة جيل عربي كامل عاجز عن قطع حبل السرّة مع التقاليد الثقيلة، ليلتحق بالحداثة. «الخندق الغميق» تدور حول صراع بين جيلين من أجل التقدم والتحرر. و«أصابعنا التي تحترق»، تجسّد مشاغل مثقف عربي في خضم التحوّلات السياسية والاجتماعيّة. هكذا هو سهيل إدريس دائماً، شاهد أمين على مشاغل عصره… هو الطالع من رحم مرحلة خصبة بالتناقضات والصراعات والمشاريع النهضويّة وأوهام الحداثة.

مع سعيد فريحة كتب مقالاته الأولى في «الصيّاد»، قبل أن يراسل «بيروت المساء» من باريس. نزار قبّاني كان شريكه في تأسيس الدار، بهيج عثمان ومنير البعلبكي أطلقا معه المجلّة. جبور عبد النور شاركه في «المنهل». مع قسطنطين زريق وأدونيس أسس «اتحاد الكتاب اللبنانيين» الذي بقي أمينه العام لدورات متتالية. وترك سعيد تقي الدين تأثيراً واضحاً على تكوينه. أحبطته النكسة فتوقف عن الأدب، وانصرف إلى تأليف القواميس. «الشيخ الصغير» خلع العمامة مبكراً، وأحبّ النساء حتى الرمق الأخير، وأعطى للأجيال اللاحقة مثالاً عن كيفيّة تحطيم القيود الاجتماعيّة، وانشغل بقضايا العروبة واللغة والأدب والحريّة والحداثة التي لم تفارقه يوماً. قد يبدو سهيل إدريس لبعض الجيل الجديد «محافظاً» في أذواقه الشعريّة، إذ بقي يزدري قصيدة النثر حتّى النهاية… لكنّه بالتأكيد أكثر من شخص في رجل واحد. ورحيله يعلن نهاية عصر!

اعتذار من بيروت ومن سهيل إدريس ..

طلال سلمان

يتوجب علينا الاعتذار من أستاذ الجيلين سهيل إدريس، بداية، ثم من بيروت، أميرة الحزن العربي، لأننا لم نستطع أن نوفر له فيها ومعها الوداع اللائق بدوره الريادي في تجديد الثقافة العربية، انطلاقاً منها وبها نحو الوطن العربي الكبير بمشرقه ومغربه جميعاً.

العذر العلني الذي لا يحتاج إيضاحاً أننا كنا بصدد تشييع المبادرة العربية لحل الأزمة السياسية المتفجرة في لبنان، وذلك عبر مهرجانات الاشتباك بالرصاص والقنابل الحارقة في بعض أحياء بيروت بين جماعة النصف زائداً واحداً وجماعة المثالثة والثلث الضامن..

وهكذا فقد شغلنا تهاوي الجمهورية بمؤسساتها جميعاً عن سائر الشؤون والشجون، وخصوصاً أن الضربة القاضية لهذه الدولة الصغيرة بحجم الكون وعواصمه جميعاً، قد جاءت من أهلها العرب، وإن تلطى خلفهم الأعداء الطبيعيون من الهيمنة الأميركية إلى الاحتلال الإسرائيلي.

هل كان ضرورياً أن ينطوي سهيل إدريس داخل قوقعة صمته الأبدي حتى نكتشف كم أن بيروت التي شيّعته بحزن أخرس هي غير بيروت النوّارة التي أعطت هذا الفتى الذي غادرها أزهرياً وعاد إليها من باريس جان بول سارتر ودعواه الوجودية داعية قومياً ومحرّضاً بثقافة الإنسان ضد أنماط الاحتلال الأجنبي والاستعباد أو الاستتباع الداخلي جميعاً؟!

لقد وفّر رحيل سهيل إدريس فرصة جديدة لأن نكتشف ـ بعيداً عن السياسة بل بسببها وتحديداً بسبب انحدارها بل وغرقها في مستنقع الطائفيات والمذهبيات ـ كم انطفأ من أنوار بيروت ومن إشعاعاتها التي أضاءت العديد من الجنبات المعتمة في هذا الوطن العربي الكبير الذي يكاد لا يتبيّن طريقه إلى هويته ودوره فكيف بغده؟!

بل إن رحيل سهيل إدريس قد كشف لنا كم زادت المساحات المعتمة ـ عربياً ـ عنها يوم إقدامه على مغامرة إصدار «الآداب» قبل خمسة وخمسين عاماً.

فهذه المدينة النوّارة «التي احترقت ولم ترفع الأعلام البيضاء» للاجتياح الإسرائيلي في العام ,1982 والتي أُطلقت منها وفيها الرصاصات الأولى للمقاومة، يُراد لها اليوم أن ترى في المقاومة المنتصرة على إسرائيل تكراراً في العام 2000 ثم في الحرب الإسرائيلية صيف العام 2006 اجتياحاً لها من داخلها… وكأن مجاهديها أغراب دخلاء على هذا الوطن الذي يمكنه الاعتزاز بانتصاره العظيم.

لقد تزايدت أعداد المجلات والنشرات والمطبوعات الدورية المكتوبة بماء الذهب، تدليلاً على تعاظم الاهتمام السامي «بنشر الوعي» و«إحياء الثقافة أو تجديدها»، لكن هذه الدوريات الأسبوعية منها والشهرية والفصلية تبدو أحياناً وكأنها آتية من قبل العصر، وفي أحيان أخرى من بعد العصر… وغالباً ما تكون بلا قضية، اللهم إلا إذا كان الهدف منها التدليل على اهتمام السلطان بالثقافة والمثقفين بوصفه «المثقف الأول».

أما «الآداب» فكانت مجلة القضية.

لقد كان هدف منشئها من إطلاقها، وبامتياز سياسي وليس ثقافياً أو أدبياً بالمعنى القانوني، أن تكون منبراً للدعوة إلى حركة تغيير عربي شامل، بتحطيم الأوهام والأصنام ودواعي العجز والاستسلام لترسبات عصور القهر الاستعماري وانعدام الثقة بالذات في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي ومن يسلحه ويدعمه ويناصره فينصره على هذه الأمة.

ولقد خاضت «الآداب» معارك ثقافية ذات أبعاد سياسية معلنة، ضد اتجاهات وتوجهات كانت تعتبر في حينها معادلة للخيانة والارتباط بالأجنبي.

خاضت معركة الهوية القومية التي كانت مطمحاً بل مطلباً عزيز المنال على الممنوع من ممارسة عروبته… أما اليوم فقد صارت العروبة تهمة، ولعلها سوف تصير، في مستقبل قريب، جناية يقدم مرتكبها إلى المحكمة بتهمة تحقير المكونات العرقية أو العنصرية أو الطائفية والمذهبية للهاربين من عروبتهم أو المتنكرين لها.

وخاضت معركة المقاومة… وها هي المقاومة اليوم تعتبر محاولة لإسقاط النظام الطائفي.. بالمذهبية!

بل إن أولئك الذين غادروا هوياتهم وملامح وجوههم ووجدانهم إلى غربة ثقافة «العالم الجديد»، حيث لا قومية ولا وطنية ولا موروثات دينية تشد إلى التخلف وتغري به، قد يستطيعون اليوم أن يحاسبوا سهيل إدريس و«الآداب» وأن يوجهوا إليه وإليها اتهامات أقسى وأشد بينها: التخلف، الأصولية، الغربة عن العصر.. وصولاً إلى التوجه الإرهابي! وبين الأدلة احتضانها المقاومة والدفاع عنها.

لقد جمعت «الآداب» أطراف الوطن العربي الكبير من أقصى المغرب إلى أقصى المشرق… وكان المبدعون، كتاباً وروائيين وقصاصين وشعراء وبحّاثة، يتلاقون فيتعارفون وقد يتنافسون ويتزاحمون على صفحاتها من أجل توطيد التعارف فالتواصل والتلاقي تمهيداً للتوحد في الموقف من خلف طموحاتهم ـ أهدافهم المشتركة العزيزة المنال.

و«الآداب» التي صدرت في بيروت ومنها قبل خمسة وخمسين عاماً كانت متقدمة جداً عن واقعنا الحالي، إذ لم تكن بيروت عاصمة للاقتتال بين الطوائف والمذاهب، بل هي كانت عاصمة للتنوير، عربياً، فيها الطوائف جميعاً ولا طائفية مستنفرة تستدعي الطائفية، يتلاقى فيها العرب من داخل هوياتهم الوطنية بأفق الطموح إلى التلاقي في أفياء العروبة الموحدة… أما اليوم فالساحات مفتوحة لاقتتال بين الهوية الوطنية والطائفية وبين القومية والمذاهب، وكل ذلك يصب في مصلحة «العدو الإسرائيلي» ومشروع الهيمنة الأميركية.

لكن «العدو» لم يعد عدواً تماماً… وها هو يكاد يتحول إلى «جار»، ولأنه الأقوى فلا بد من مداراته ومجاراته والانتقال من مهادنته إلى مسالمته، وطي صفحة الصراع، بذريعة «نريد أن نعيش»… «فلتذهب المقاومة إلى من يحـتاجها، أما نحن فقد اكتفينا.. خلص»!

[ [ [

مع غياب سهيل إدريس، أستأذن أن أروي واقعة تستعصي على النسيان:

في صيف ,1960 نظمت مجلة «الأحد»، وكنت مديراً للتحرير فيها، مسابقة في القصة القصيرة. وكان سهيل إدريس رئيساً للجنة التحكيم فيها. وبناء على اقتراح منه دعونا الكاتب الجزائري مالك حداد كضيف شرف. وبعدما أعلن أسمــاء الفــائزين (غــادة السمان، زكريا تامــر، وياسين رفاعية)، وجـــه الدكتور سهيل إدريس تحية إلى ضيفنا الكبير، وكانت ثورة المليون شــهيد في جزائره الحبــيبة تكــاد تنجز انتصارها التاريخي، ثم أعطاه الكلمة.

وقف مالك حداد ليلقي كلمة رد التحية، وإذا به يصمت طويلاً ثم يشهق باكياً… قبل أن يغمغم معتذراً عن عدم معرفته باللغة العربية وصعوبة أن «يهــدر» باللهجة الجزائرية التــي لن نفهـمها.

وكان ذلك المشهد شاهداً حياً على ما يتهددنا جميعاً إن لم نقاتل لحماية وجودنا وهويتنا بوحدة الموقف ووحدة الهدف.

[ [ [

هــا نحــن «نهدر» جميعاً بلغة واحدة، يا دكــتور سهيل، ولكنــنا ـ من أســـف ـ لا نريـــد أن نفهم معانيـــها ودلالاتــها ومصـدرها، ربما لأننا «نستخدمها» وقـــد جرّدناها من الوجــدان.

ولن ننسى أن نحتفل معك بعيد الوحدة، غداً، مع أنها صارت مجرد ذكرى عزيزة على القلب، وخارج القدرة.

سهيل إدريس هذه الحالة الثقافية الحية والمرئية

جهاد الترك

وكأن رحيل الكاتب الكبير، سهيل إدريس، في هذه اللحظة المفعمة بالفوضى السياسية والايديولوجية والفكرية، قد جاء استكمالاً ناقصاً لمسيرة طويلة ومعقدة ودؤوبة من المقاربات الأدبية والكتابية التي جعلها من أولويات أهدافه في هذا المجال. الأرجح ان الأمر كذلك، وان كان هذا التصور ينطوي على شيء كثير من الميل الافتراضي في فهم التوجهات الكبرى لهذا الأديب اللبناني العربي. استكمال ناقص بمعنى أن الأقدار افسحت في المجال لسهيل إدريس ليعاين من كثب طبيعة انغماسه العميق والمبكر في القضايا الفكرية الكبرى التي يشهدها لبنان والوطن العربي منذ مطلع الاربعينات الماضية. فإذا به يتلمس النتائج التي أسفرت عنها هذه الحِقبة الغنية على نحو زاده اقتناعا بصوابية مشروعه الادبي الفكري الذي باشر به مقارباته المذكورة. أو أنه، على نحو مماثل، زاده اقتناعا بأن الفصول المتعاقبة لهذه الفترة الحبلى بالتطورات والمفاجآت والصدمات، لم تكن من النسيج الحقيقي الذي كان يتمنى ويبتغي. ومع ذلك، لا شيء يدل إلى ان إدريس قد أبدى تذمراً أو حتى استنكاراً أو امتعاضاً من مشروعه المبكر أو مساجلاته الادبية الحامية، أو مواقفه التي اتسمت بتوجه ايديولوجي هادئ، باعتبار انه كان الابن البار لتلك المرحلة. ولربما كان وهو يتأمل أفعاله ونشاطه واستجاباته وانفعالاته، بدا أمْيل إلى الاعتقاد أنه أدّى دوره تأدية موضوعية. لم ينسحب من الساحة الادبية في تلك الاثناء، ولم يُدر ظهره لأكثر المواقف إلحاحاً على ذهن مثقفي تلك السنوات المحمومة بالأفكار الكبرى.

مقاربة الواقع

على هذا الأساس، يبدو أن سهيل إدريس كان من تلك القلة من المثقفين الكبار الذين آثروا أن يضعوا اقوالهم ومبادئهم والتزامهم ومواقفهم موضع الفعل الفوري والممارسة. نراه، بعد أن تخلى عن زيّه الديني في العام 1940، بعد ان تخرّج في كلية فاروق الشرعية التابعة لجمعية المقاصد الإسلامية في بيروت، يلتحق فوراً بنفر قليل من الصحافيين الذين راحوا، في تلك الاثناء، يضعون افكارهم في مواجهة قضايا العصر. والاغلب، في هذا السياق، ونتيجة لما كان يعتمل في نفسه المتوثبة إلى الاقتراب من الحقائق الكبرى في تلك السنوات التأسيسية الأولى، اتخذ قراراً حاسماً في السفر إلى عاصمة الثقافة العالمية باريس. لم يكن ارتياده جامعة السوربون الفرنسية في مطلع الخمسينات من قبيل الحصول على إجازة جامعية عليا تعينه على تدبر مسالك الحياة الصعبة. لم يكن هذا مطلبه على الأرجح. أراد أن يلقي بنفسه هناك في أتون التجاذب الفكري والثقافي الذي كانت شرارته الملتهبة تتطاير في شتى أنحاء العالم الثالث، وتحديداً في الأروقة الساخنة في الوطن العربي. وبالمثل لم يكن اختياره موضوع “القِصة العربية الحديثة والمؤثرات الاجنبية فيها من العام 1900 إلى العام 1950″، من قبيل الاطلالة المترفة على هذا النوع من الكتابة، تعلم بعد ذلك بسنوات، ان انصرافه إلى مناقشة هذه القضية، انما كان مرده إلى محاولة حقيقية لمقاربة المسائل الاجتماعية ـ السياسية ـ الايديولوجية في لبنان والوطن العربي، انطلاقاً من النموذج الادبي الأكثر تمثيلاً لها وتعبيراً عنها: الرواية العربية التي كانت تنتشر في تلك السنوات انتشار النار في الهشيم.

الوجودية

بدت الرواية، في تحولاتها العربية على وجه الخصوص، سبيلاً موضوعياً ذا دلالة قاطعة، إذا جاز التعبير، عن الانشغالات الفكرية التي كانت تحتل، على الاغلب، الحيّز الأوسع للذاكرة الثقافية ـ الفكرية لسهيل إدريس.

رفدها وعمقها في هذا الاتجاه الإقبال الواسع لهذا الاخير على ترجمة بعض من أعمال المفكر الوجودي، جان بول سارتر، لترافق على امتداد سنوات رواياته الثلاث “الحي اللاتيني” “الخندق الغميق”، و”أصابعنا التي تحترق”، وأيضاً في مجموعاته القصصية الاخرى. ومع ذلك، كان إدريس، في تلك المرحلة الصاخبة، أحوج ما يكون إلى فلسفة وجودية من هذا النمط، ليعيد قراءة توجهاته في القومية العربية وايديولوجيتها المتحركة في تلك المرحلة على إيقاع الرؤية القومية النابضة للزعيم الراحل جمال عبد الناصر. سياق من التفتّح على المسائل الرئيسية في خمسينات وستينات القرن الماضي، بعضه يتفرع من بعضه الآخر على نحو من لملمة عناصر المشروع الكبير الذي كان يستحوذ على ذهن سهيل إدريس. على هذه الخلفية، لم يظهر الكاتب الراحل على الاطلاق انه ابن ضال للتمخضات الايديولوجية والادبية التي كانت تدور على مقربة منه. لم يتنكر إدريس أبداً لعِمامته الدينية التي أبدلها بالزي الغربي، كما يحلو لكثيرين القول، على الأقل في تلك السنوات التي شهدت هذا التحول. ليس صحيحاً هذا الرأي، ولا يمت بصلة إلى النسيج الداخلي لسهيل إدريس. الأرجح انه أراد بذلك ان يوسّع إطار الاندماج في قضايا العصر وتفاعلاته وتجاذباته القوية. أراد ان يحتكم إلى التجربة المَيْدانية، إلى ان تقترب حثيثاً من مصانع الفكر والثقافة التي كانت تهيمن على خصوصية تلك السنوات المصيرية. وفي الوقت عينه، لم يكن ليتقبل اعتقاداً تلقائياً بفكر القومية العربية بعيداً من أرضيات وجذور سياسية وايديولوجية اخرى يتعذر تجاهلها استكمالاً لمشروعه الذي لم يكن ينفصل في الأساس عن التحولات الاجتماعية والفكرية الكبرى في العالم. المهم أن إدريس تمكن بنجاح من توظيف ثقافته الواسعة وإصراره على النهل من منابعها الأساسية في أعماله الكتابية، وتحديداً الروائية منها.

الالتزام الآخر

من هنا، الالتزام الاستثنائي لسهيل إدريس بسائر تفاصيل مشروعه الادبي ـ الفكري. قد يخيّل إلى بعضهم، انه يمكن تصنيف إدريس في خانة تلك الكوكبة من الرواد الأوائل في لبنان والوطن العربي، الذين أبدوا التزاماً متطرفاً بمعتقداتهم الايديولوجية، كما كانت الحال في تلك الحِقبة. لا يصحّ هذا الرأي بالمطلق على سهيل إدريس. الاغلب انه اثبت التزاماً كهذا بالقدر الذي مكّنه، في نهاية المطاف، من توظيفه واستثماره في أعماله الكتابية.

على هذا الأساس، كان ملتزماً حقاً، ولكن ليس على نحو نظري مترف.

بدا أقرب إلى الالتزام العملي بما يؤمن ويعتقد ويعمل من أجله. هذه الميزة، على الأرجح، هي التي تجعل التزاما بهذا الحجم علامة، فارقة في حياة الراحل الكبير. وهي كذلك التي تحيله كاتباً يختلف عن غيره بشكل نوعي.

كانت “مجلة الآداب” التي أسسها إدريس متعاوناً مع المرحومين بهيج عثمان ومنير البعلبكي، ثم استقل بها عنهما، المختبر الأهم للكيفية التي قارب بها قضايا عصره، بما يدعو إلى الاعجاب. جعلها، نتيجة لهذا النمط المحدد من الالتزام، مِنبراً مفتوحاً، في أوسع حدود ممكنة، لكتّاب بدأوا مغمورين، ثم احتلوا مقاعدهم الادبية بامتياز. شكلت المجلة في مطلع الخمسينات الماضية، التجربة الواقعية الأولى لإدريس ومدى قدرته على اختبار مواقفه الايديولوجية ونزعته المتوثبة إلى التجديد، والطريقة المثلى لمناقشة الافكار التي كان يتحسسها عن قرب وبكثير من الحميمية والصدق والتشبث. في هذه المجلة، وعلى صفحاتها، طيلة سنوات أرادها إدريس ألا تكون من سقطات الوقت الضائع، كان يواجه نفسه بالدرجة الأولى، على الأغلب، باحثاً عن أجوبة مقنعة تنسجم مع طبيعة تلك المرحلة.

غير أن هذا التوجه القومي، والوجودي إلى الذات لم يكن من شأنه أن يحول دون الالتفات إلى ما لدى الآخرين من مواهب ومَلكَات هامة في الفكر والكتابة والتطور الادبي. رويداً رويداً، انفتحت الذات على الموضوع. اقترب الطرفان إلى حدّ التماهي، إذا صح التعبير. أصبح لهذه المطبوعة ذات الدور العضوي في لبنان والوطن العربي في تلك الاثناء، مهمات اخرى، منها الاصرار على اكتشاف المواهب الحقيقية التي تغني الثقافة العربية المعاصرة، وتحديداً اللغة التي بدت بأمسّ الحاجة لأن تطور تقنيات من داخلها استجابة للأدب والفكر العالميين. ولم تكن السجالات الحامية التي خاضتها هذه المجلة مع مثيلتها “شعر” التي أسسها يوسف الخال، سوى أحد التعبيرات الحيوية عن انشغال إدريس بهموم اللغة والشعر واستنهاضهما من داخلهما. لم يكن إدريس مناقضاً لعقيدة النثر التي دعت إليها مجلة “شعر” غير انه، على الأغلب، بدا مهتماً بهُوية الكتابة العربية تختلف بالشكل عن مضمون مجلة “شعر” ولا تفترق عنه في الجوهر. ماذا يبقى اليوم من سهيل إدريس؟ كل شيء من دون استثناء: الالتزام المنفتح على العصر من دون ضوابط ومحددات، الرغبة الجامحة في الاشكال الادبية الجديدة والمستجدة، تطوير هُوية الانتاج الادبي في لبنان والوطن العربي على نحو يجعل منها المعلم الثقافي والحضاري الأول في هذا الزمن القلق. بل يجعل منه حالة مركّبة اختلطت فيها الخِيارات القومية بالوجودية بالتغييرية بالتقدمية وبالانحياز إلى التيارات الشعرية “الثورية” لكن المصوغة بالشعر الحر أو التفعيلة كتعبير عن تطور الإرث العربي بموزونه التفعيلي، وبشعريته المرتبطة بالمضامين التي التزمها سهيل إدريس، ضمن تصاعد النبرات القومية (الناصرية، البعثية، اليسارية) لتكون مقابلة أو مواجهة مع التشكيل “النثري”، للشعر الذي بدا لإدريس انه ظاهرة غربية غريبة تمس هذه الفضاءات القومية، وتنحرف عن معاركها الأساسية، ومساراتها التاريخية. وهذا ما يفسّر نعت شعراء “شعر” أو مجلة شعر نفسه، بالعدمية أو على الأقل بالارتباط بما يدمّر العروبة كانتماء والقومية كارتباط، والحروب المصيرية (مع إسرائيل) كالتزام.

لذا كان تبنيه لشعراء التفعيلة كبدر شاكر السيّاب وعبد الوهاب البياتي وخليل حاوي وميشال سليمان، باعتبار ان الشعر وان ثورياً، أو متأثراً بالغرب، فهو جزء من التزام معركة الهوية العربية، ومعركة مواجهة إسرائيل تحت شعار استعادة فلسطين. وبرغم نكسة 67 لم يستسلم سهيل إدريس، ولم يغير مساره، ولم تحبط عزيمته، ولم يتناول الهزيمة كمعطى نهائي لازب ولا حتمية ابدية: على العكس صعّد في رواياته ولا سيما “اصابعنا التي تحترق” وفي إصداراته (دار الآداب) وفي مجلته “الآداب” النبرة التساؤلية عن أسباب الهزيمة، لكنه في الوقت نفسه ازداد اتصالاً بالقضايا العربية وبالحريات والديموقراطية (اتحاد الكتّاب اللبنانيين)، وبضرورة النهوض من هذه النكسة، في ما يشبه عملية مراجعة أو مقاربة نقدية، حتى الايمان بهذه الأمة العربية وطاقاتها ومكوناتها.

سهيل ادريس (1925 ـ 2008)

تلقى دراسته الابتدائية في كلية المقاصد الإسلامية بيروت. التحق بـ”كلية فاروق الشرعية” وارتدى الزي الديني طوال خمسة أعوام، ليتخلى عنه بعد تخرجه عام 1940.

بدأ العمل محرراً في جريدة “بيروت” لصاحبها محيي الدين النصولي، وفي “بيروت المساء” الأسبوعية لصاحبها عبد الله المشنوق. ثم عمل، بالإضافة الى ذلك، محرراً في “الصياد” لصاحبها سعيد فريحة، وفي “الجديد” لصاحبها توفيق يوسف عواد.

نشرت “المكشوف” لصاحبها فؤاد جيش اول مقال له عام 1939، ثم أخد ينشر في “الرسالة المصرية” و”الأديب” و”الأمالي” اللبنانيتين.

ـ سافر الى فرنسا، وحاز الدكتوراه في الآداب بجامعة السوربون عام 1952، وكانت أطروحته بعنوان “القصة العربية الحديثة التأثيرات الأجنبية فيها من عام 1900 الى عام 1950“.

أنشأ عام 1953 مجلة “الآداب” بالاشتراك مع المرحومين بهيج عثمان ومنير البعلبكي، وما لبث عام 1956 أن استقل بها عن شريكيه، وبقي رئيساً لتحريرها حتى العام 1992.

عام 1955 أسس مع المرحومين رئيف خوري وحسين مروة “جمعية القلم المستقل“.

عام 1956 تزوج بعايدة مطرجي، وانشأ دار الآداب بالاشتراك مع الشاعر الراحل نزار قباني، ثم استقل بها عام 1961 لاضطرار قباني الى الانفصال عنه بسبب احتجاج وزارة الخارجية السورية على عمله في النشر الى جانب عمله الديبلوماسي.

عام 1961 عمل أستاذاً للترجمة والتعريب في جامعة بيروت العربية.

ـ عام 1967 عيّن أميناً عاماً مساعداً لاتحاد الأدباء العرب، وأميناً للجنة اللبنانية لكتاب آسيا وافريقيا.

عام 1968 أسس، مع قسطنطين زريق وجوزيف مغيزل ومنير البعلبكي وادونيس، اتحاد الكتاب اللبنانيين، وانتخب أميناً عاماً له ثلاث دورات متوالية، ثم أعيد انتخابه مجدداً عام 1989 وعام 1991.

له ثلاث روايات: “الحي اللاتيني” (1953)، و”الخندق الغميق” (1958)، و”اصابعنا التي تحترق” (1962)، وست مجموعات قصصية: “أشواق” (1947)، و”نيران وثلوج” (1948)، و”كلهن نساء” (1949)، و”الدمع المرّ” (1956)، و”رحماك يا دمشق” (1965)، و”العراء” (1973)، ومسرحيتان: “الشهداء” (1965)، و”زهرة من دم” (1969).

الّف معجم “المنهل” الفرنسي ـ العربي مع المرحوم د. جبور عبد النور، وعكف منذ أكثر من ربع قرن على تأليف “المنهل” العربي ـ الفرنسي و”المنهل” العربي ـ العربي بالاشتراك مع الشهيد الدكتور صبحي الصالح والدكتور سماح ادريس.

ترجم ما يزيد عن عشرين كتاباً، أبرزها كتب لسارتر وكامو ودوبريه ودورا.

رزق ثلاثة أولاد: رائدة ورنا وسماح.

عرّاب زمن وجيل

أمجد ناصر

كثيرون في الحياة الثقافية العربية اليوم لا يعرفون سهيل ادريس ولا يعنيهم اسمه، ان لم يكونوا جاهلين به تماماً.

قد لا يكون هذا ذنبهم. قد يكون ذنب الحياة العربية التي تنظر منكسة الرأس، بين قدميها. كأنها مجرد حياة يومية لا امس لها ولا غد. حياة محكوم عليها بيوميّ يشبه يوميّ القصائد الدارجة. حياة تؤجر نفسها بالقطعة والتجزئة، وتكدح، مثل الفَعَلة، لسحابة نهارها.

لذلك لن يبدو رثاء الرواد لواحد منهم مفهوماً لكثير من الذين يكتبون اليوم.. او يظنون انفسهم يكتبون. سيبدو ان حارسا قديما رحل، رجلاً طاعناً في القدم أدركه ملاك الموت.

فمن هو سهيل ادريس هذا الذي ترثيه أقلام الحرس القديم ؟

لن يعرفوا انه احد آباء الحداثة الأدبية العربية التي يلغون بها اليوم ويعتبرونها اختراعهم، وانهم يحملون، من دون ان يدروا، بعض جيناته.

فعندما نتحدث عن سهيل ادريس نحن نتحدث عن مجلة الآداب ، وعندما نتحدث عن الأخيرة نتحدث عن زمن حافل بأهم السجالات والصراعات الفكرية والأدبية العربية اطلاقاً. انه زمن الانعطاف. المفترق الحاسم الذي ودّع زمناً وكتابة ودشن زمناً وكتابة جديدين. فأي اسم عربي مهم من جيل التأسيس للحداثة الأدبية العربية لم تكن الآداب قابلته الأولي؟

قلة هم الذين ولدوا من رحم آخر.

زمن الآداب وشعرائها ونقادها وقاصّيها لم يكن زمن جيلي، لم نكتب (معظم ابناء جيلي) كلمة واحدة في الآداب ولم ننشر كتاباً واحداً عن دار سهيل ادريس. ولكن هذا لا يعني انعدام نسبنا الي سلالة الآداب .

حتي عندما انتصرنا الي مجلة شعر التي لم ندركها هي، ايضا، لم يكن ذلك الانتصار بالعمق، انعدام نسب كامل مع الآداب ، لأن شعر لم تكن لتوجد لولا وجود الآداب ولما كان للأخيرة ان يتسع افقها ويتجدد دمها لولا وجود غريمتها .

ليس لجيلي، (أواسط السبعينات وأواخرها) نسب مباشر مع آداب سهيل ادريس، ولا مع خطابه القومي. كان المناخ العربي بدأ يتغير، والخطاب القومي ينتكس بعد (انتكاسة) حزيران، ولم يكن خطاب الآداب ، في زمن يتغير بسرعة، مغرياً للقادمين الجدد. كانت الآداب تواصل، بوهن، عبء انتكاسة النظام القومي العربي وعريه الكامل امام اسرائيل.

فلم نجد فيها الأدوات الكافـــــية لتحطيم السائد. منابر صغيرة مبعثرة، شبه شخصية، وصفحات ثقافية لمجلات وصحف فلسطينية ولبنانية هي التي احتضنت غضب القادمين من النكسة القومية وجنرالات الانظمة والجلجلة الصادحة للقصيدة الوطنية . كانت الرصيف التي يحبّرها علي فودة ورسمي ابو علي وجماعتهما الرصيفية تكتب علي مقاعد مقهي ام نبيل (تحت مقر الآداب مباشرة) خطابا فوضوياً اكثر اغراء مما كانت عليه الآداب . كانت هناك اشياء كثيرة ينبغي تحطيمها، بعد النكسة، بعد الثغرة، بعد الكيلو 101 بعد اندلاع شرارة الحرب الأهلية، ولم يكن لدي الآداب ما تقدمه علي هذا الصعيد.

لا أدري ان كان ما سأقوله صحيحاً ام لا. ولكن يبدو لي ان سهيل ادريس وداره مرا في مرحلتين. مرحلة الشعر ومرحلة الرواية. كانت مجلة الآداب مجلة شعر بالدرجة الأولي. صحيح انها نشرت نقداً وقصة ومتابعات ثقافية، لكن الشعر والشعراء هم الذين صنعوا مجدها. انها مجلة السياب والبياتي وعبد الصبور وحجازي وخليل حاوي وشعر المقاومة الفلسطينية. كان هناك قاصون كبار مروا فيها ولكنها، علي ما اظن، عُرفت بمعركة الشعر الحر الكبري.

سيتراجع الشعر في مجلة الآداب ودارها وستحل الرواية تدريجا، محله. لا ادري ان كان سهيل ادريس قد فكر في الأمر علي هذا النحو: القصيدة الجديدة لم تعد قادرة علي وصف الحياة العربية بعد معركة الشعر الحر . لقد صارت فردية متشظية، ذات بؤرة ضيقة، متغربة. الرواية هي التي يمكن ان تصف الحياة العربية اليوم وتشهد عليها. انها ملحمة المدينة العربية ورايتها في مواجهة العسف الداخلي، الرقابة، التابوهات، العشوائيات التي تفرّخ فيها الأصولية! هل خطر هذا في ذهن سهيل ادريس وهو يجعل الرواية المنتج الأول لداره؟

اياً يكن الأمر، سيظل اسم سهيل ادريس حاضراً بين قلة من اسماء العرب المعاصرين الذين فتحوا، فعلاً، طريقاً مشي فيه كثيرون.

هذا جواب سريع علي شاعر من جماعة الانترنت سألني بعد ان قرأ خبر وفاة صاحب الآداب: مين هو سهيل ادريس!

21/02/2008

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى