صفحات ثقافية

اورهان باموك في ألوان أخري : عندما يتحول الروائي الي صوت من لا صوت له ويصبح الخيال شكلا من التحرر الانساني

null
ابراهيم درويش
يكتب اورهان باموك في آخر مجموعة من المقالات والاستعادات والتفكرات الاخيرة الوان اخري الصادرة ترجمته عن التركية بالانكليزية، عن فن الرواية قائلا انها ليست كلها خيالا وليست كلها واقعا. فالرواية لا تعطي فقط صوتا لعزة الامة وكرامتها بل تكشف عن زيفها وضعفها وعارها. الرواية لم تعد كما يقول باموك كما بدأت مع عصر الدولة القومية صوتا للوطنية، فكتاب من امثال تولستوي وديكنز ودوستوفسكي وغيرهم عبروا عن حياة المواطنين وكتبوا للطبقة المتوسطة التي ولدت مع هذه الدولة ومن هنا فالرواية تظل في النهاية رواية وطنيا. لكن في هذا العصر لم يعد الكاتب صوتا للقومية لان مفهوم الاخيرة تغير والعالم لم يعد ممثلا كله بالطبقة المتوسطة او طبقة البرجوازيين. لكن ما يميز الرواية عن بقية الفنون الادبية السابقة عليها واللاحقة انها تحتفل بقوة الخيال وهذه القوة، المخيال وخيال الروائي بالتحديد هو ما يمكننا فهم الحقيقة، حقيقة من نحن. ومن خلال قراءة القصص والاساطير والافكار التي تغطي العالم الذي نعيش فيه، تقوم الرواية بفتح المجال امام الحقيقة التي حجبتها العائلات والمدارس والعائلة عنا. يربط باموك بين الرواية والتحرر الانساني، ويقول ان تاريخ الرواية هو تاريخ التحرر الانساني. ويعني بهذا ان قيام الروائي بأخذ موقع شخص اخر، او بتخيل نفسه شخصا اخر يقوم بالكشف عن الواقع الانساني وتفاصيل الحياة وهو يقوم ايضا باعطاء صوت لمن لا صوت لهم. وهو هنا يعني الرواية السياسية التي تحاول ان تكشف عن تفاصيل القمع والاضطهاد مع انه يعترف بعدم وجود روايات سياسية قوية كما في السابق. يكتب باموك عن جيل عاش حلم بناء دولة قوية ومجتمع حر ومزدهر علي الطريقة الاوروبية لكنه اي الجيل او البرجوازية التي ينتمي اليها وكانت تفكر وتعيش مثل الغربيين بدأت الان تنتقد الغرب وتحمله مسؤولية نكبتها. فمع ان مسألة الشرق الغرب لا تحضر بوضوح او بصراحة في اعماله الا انها كما يقول موجودة في الزاوية الخلفية من حيوات ابطاله، بل ان غالبية ابطاله الروائيين يعيشون هذا التوزع بين الغرب والشرق. كا في ثلج عاش بين بلدة كار وفرانكفورت التي عاش فيها ايامه الاخيرة. يفهم باموك ان عمل الرواية هو قيامها بتقديم فهم او رؤية عن الانسانية وفي مجال فكرة شرق غرب يقول باموك انه يمكن فهمها علي انها انتاج غربي مفروض منه علي الشرق فالعلاقة قائمة في النهاية علي مفهوم التوتر الناجم عن الثروة والفقر والسلام. والفكرة الاخيرة هي اكثر ارتباطا بالعالم الثالث الذي يجب ان يعيد تشكيل رؤيته وتأكيد السلام. يتحدث باموك انه بين سن السابعة والثانية والعشرين كان يطمح بأن يمتهن الرسم، كما وضح ذلك في كتابه اسطنبول . كان في هذه المرحلة يرغب بأن يخرج للشوارع ويرسم فضاء المدينة، لكنه في سن الثانية والعشرين قرر ان يكتب رواية وروايات ومنذ اكثر من ثلاثين عاما وهو يكتب روايات. وهنا يطرح باموك قضية طرحت علي شكل سؤال عليه: لمن تكتب؟
بالنسبة لباموك فالاجابة علي هذا السؤال متفرعة. فلأنه كاتب تركي يظل السؤال مرتبطاً بمن يكتب له، للقارئ التركي ام لقارئ مختلف. وفي هذا السياق فباموك كان مضطرا لمواجهة اسئلة تحمل طابع القلق، لمن يكتب وماذا يكتب وهل سيتمكن من الاعتماد علي الكتابة كوسيلة للعيش. مثل هذا السؤال طرحته والدته عليه وبقلق وهناك اصدقاء طرحوا السؤال بنوع من السخرية، وعنوا كيف يمكن لرجل مثله ان يعيش علي الكتابة وحدها وفي تركيا. بعد ان اصبح مشهورا بدا طرح السؤال نبرة مختلفة فأعماله ترجمت لاكثر من اربعين لغة. وفي المقابلات يطرح السؤال بطريقة اخري وفي ذهنه القارئ التركي فقط. يجيب باموك ان الكاتب قد يكتب للقارئ، لمحب، لصديق، لنفسه وللا احد. بالنسبة لباموك فانه قد يتهم بالكتابة من اجل الدفاع عن مصالح طبقته البرجوازية اوعن الفقراء. لكن الجواب عن السؤال يرتبط في النهاية بفكرة الرواية نفسها وخيال الروائي الذي يقول هو الذي يعطي الحياة اليومية خصوصيتها وسحرها وروحها. يكشف باموك في هذا الكتاب عن روحه ككاتب وكيف يتقمص الكاتب بطله ويلعب دوره، مشيرا الي اثر التاريخ، والمكان والتحقيق الصحافي في بناء فكرة الرواية التي تقوم علي اماكن واقعية ولكن ابطالها متخيلون لكن الكاتب هنا يتماهي دائما مع بطله. يكتب باموك اذا عن تبادل الادوار بينه وبين ابطاله خاصة في الكتاب الاسود الذي لم يستطع تحديد نهايته وانتظر خمسة اعوام لكتابة نهاية له. حدث هذا عام 1988. كان باموك قد كتب ثلاثة روايات قبل الكتاب الاسود . يصف باموك ما حدث قائلا مع تقدم الكتابة، توسع عالم الكتاب، ومتعة كتابته اصبحت اكثر عمقا ، مما يعني ان الرواية رفضت الانتهاء . ادي هذا الوضع لحالة من الهوس والوحدة مما عزله عن العالم. وذات يوم ممسكا كيسا بلاستيكيا قديما، ومرتديا قبعة، معطفا سقطت بعض ازراره، حذاء رياضياً يعود للعصر الحجري وبقيطان صدئة… دخلت مطعما قديما او بسطة للغذاء… ابتلع طعامي وحولي نظرات معادية يرسم باموك هنا صورة عن جو من الدمار الذاتي خلفته الرواية عليه. يكشف الوان اخري عن حياة الكاتب وقراره التوجه للكتابة والاصوات الروائية التي اثرت فيه من ستندال وفولكنر ودستوفسكي وكامو وناباكوف وكافكا ايضا. وتحضر في المقالات التي تتراوح بين الشخصية ووصف الروتين اليومي، اسكتشات ومقالات نقدية وتحقيقات صحافية كما تضم المجموعة ايضا خطابه الذي القاه في حفل تسلمه جائزة نوبل. في كتاب اسطنبول كتب باموك عن علاقته مع المدينة وبحث في الصور القديمة والكاتولوجات السياحية عن المدينة القديمة التي لم تنس روحها العثمانية علي الرغم من اكثر من سبعين عاما من الكمالية. لكن علي خلاف الكتاب المذكور فالوان اخري يكشف عن دوافع الكتابة وعن الطريقة التي ينظر فيها لنفسه وما يتوقعه من الاخرين. اسطنبول حاضرة في المقالات هنا تماما مثل صورة والده الذي نصح ابنه بان يستفتي قلبه ويكتب، وموضوع ثالث هو الكتاب والروائيين السابقين الذين شكلوا فعله الكتابي. باموك يبدو واعياً بالثقافة التركية او العثمانية والاسلامية فهو ينقل عن الغزالي في احياء علوم الدين ونظامي وجلال الدين الرومي. وفي اهتمامه بالتاريخ يقرأ تاريخ العثمانيين وتاريخ النهضة بل في القلعة البيضاء يحاول فهم العلاقة الغامضة بين الفلكيين والمنجمين. وفي اسمي احمر يقوم بقراءة المنمنات التركية والفارسية وبناء فعله الروائي عليه من خلال زيارته متحف توبقابي والمتاحف الاخري التي تحتفل بالفنون الاسلامية. يهتم باموك بقضية محاكمته عام 2005 عندما قدم للمحاكمة بتهمة الحط من القيم التركية بحديثه لصحيفة سويسرية عما تعرض له الارمن اثناء الحرب العالمية الاولي. الكتاب موزع علي محاور. عن الحياة والعمل عن الحياة والكتب: حبها قراءتها واعادة القراءة، عن السياسة والرواية، وعن الرواية والسيرة، الرواية وتبادل الادوار مع كاتبها، الكتابة والرسم. واخيرا عن مدن اخري، اول لقاء مع الامريكيين، وعاصمة العالم (نيويورك). الكتاب في النهاية هو احتفال بالاب ومديح له، حيث يبدأ بمقال عن اللحظات الاخيرة لوالده وووفاته وجنازته وما استدعاه من ذكريات عنه وكيف انه انسل الي غرفة والده في لحظاته الاخيرة والخبر الذي تلقاه عن موته. ويقول ان موت اي رجل، يبدأ بوفاة الاب، اولا . تغطي المقالات اهتمامات الكاتب بالكتابة والقراءة وحياته ككاتب حيث تنتشر في ثناياها رؤي عن الكاتب في تجلياته ولحظاته وتوحده مع مدينته، عزلته مع ابطاله، قرفه من الاحاديث ، ملله من القيل. ويتحدث عن الاعياد وكيف انها كانت تمثل لجيل والده المتغرب فرصة للراحة من العمل وان العائلة لم تكن تحتفل بها من اجل الاضحية او البعد الديني بل علي الطريقة الغربية. وبعد ان يشير الي عادات الاهل بالاحتفاء بالاطفال وتقبيلهم، وكيف مر بها صغيرا يعود ليرصد امرا غريبا علي النخبة التي كانت تحتفل بالعيد بشرب الخمر والجلوس علي مائدة الطعام علي الطريقة الاوروبية ليدخل من العيد الي مفهوم الروح الجماعية التي تعلم الحياة التركية. وهو هنا يقول انه لا يحن للروح الجماعية بل لذكريات الطفولة. لكن ما يرصده الكاتب هو عدم الراحة من الغرب لدي النخبة المتغربة وهو تحول مهم من نخبة، كمالية او غير كمالية محبة للغرب وعاشقة له الي قلقة منه وناقدة له. ويعتقد ان مشاعر العداء للغرب وان ارتبطت بالمشروع الغربي الا انها تعود الي انتشار الاعلام الجماهيري وكثرة كتاب الاعمدة. وفي هذا السياق يكتب، عن الكيفية التي تلقي فيها خبر احداث ايلول (سبتمبر) في بلده. ويقول ان بستاني يعمل طوال يومه في تنسيق الزهور كان اول رد فعل له هو الغضب والشجب ولكنه اضاف ان امريكا تستحق ما حدث لها. وهنا مع حس الغضب والدهشة يشير باموك الي ان عددا كبيرا من الاتراك وحتي المتغربين منهم كان رد فعلهم مقرونا بلكن. هذا الامر راجع كما يقول الي ثقافة العولمة التي جعلت الاغنياء تحت المجهر طوال الوقت، فالفقراء في الزمن الماضي كانوا يتحدثون عن ثروة الملوك وغناهم في بيوتهم المتواضعة اما الان فهم يشاهدون ثروتهم ويتابعون حكاياتهم من علي التلفاز كل يوم ان لم يكن كل دقيقة. ما الذي يدفع فلسطيني متطلبن (علي الطريقة الطالبانية) لرش الحامض الكيماوي علي وجه امرأة (الغريب ان هذه الصورة مفتعلة ولا اساس لها مما يعني ان الكاتب يأخذ معلوماته من الصحف مع ملاحظة ان كتاب ايران القوميين والاتراك لم يتعاطفوا كثيرا مع صورة الفلسطيني)علي العموم فان المسألة اي كره الغرب وامريكا هي مسؤولية الدول الغنية. فبعيدا عما نراه اليوم من الشك بالاسلام والمسلمين والحواجز التي فرضت بعد ايلول (سبتمبر) فالدول الغربية مطالبة بفهم او الالتفات لروح الفقر والفقراء. ويخشي باموك ان يقود الغرب الطهور الراضي عنه العالم الي السبيل الذي قاده رجل دوستوفسكي رجل النفق عندما قال ان (2+ 2 = 5) وحينها سيتحول العالم الي ما صار اليه النموذج الكمالي التركي من سلسلة الي الانقلابات والاحكام العرفية. وما دمنا نتحدث عن دوستوفسكي، يقدم بوماك قراءة لكتابه مذكرات من تحت الارض وهو الكتاب الذي اراده الكاتب الروسي مقالا طويلا ثم تحول لرواية، وجاء نتاجا لرحلته له لاوروبا ويكشف باموك انه عندما اعاد قراءة الكتاب بعد ثلاثين عاما من القراءة الاولي، ان عداء دوستوفسكي للغرب او النبرة الظاهرة فيه هي نتاج لغضب الكاتب الروسي ليس علي الثقافة الغربية ولكن لان هذه الثقافة لم ترحل الي بلده روسيا من خلال نسختها الاصلية ولكن عبر النسخ المقلدة او الخردة . فالكاتب علي الرغم من غضبه علي اوروبا التي يعرفها يطمح لان يكون جزءا منها وان يطرحها في الوقت نفسه. وهنا اساس الفهم فغضب دوستوفسكي علي المثقفين الروس الذين كانوا يقلدون ويحتفون بكل فكرة قادمة من الغرب مساو في النهاية لحنق باموك وازدرائه للكماليين وتعاملهم مع الثقافة الغربية. لكن هذا الموقف وان تشابه في الفهم مع الكاتب الروسي الا انه يختلف من كون باموك لم ينخرط في السياسة بالطريقة التي انخرط فيها دوستوفسكي في سياسة بلاده. باموك في كتاباته يراوح بين المجد العثماني القديم واعادة اكتشافه وبين الكمالية والحداثة المشروخة التي يمثلها الكماليون او العلمانية التركية. ودعوته للحديث عن الماضي العثماني كالقضية الكردية ومذبحة الارمن هي دعوة لفك التابو عن هذه الموضوعات وبحثها. وهو يقول ان محاكمته ادت الي اهتمام بالموضوع ومحاولة فحص ما حدث للارمن عام 1916 بطريقة علمية علي الرغم من ان الموقف التركي لم يتغير. يكشف باموك عن الفرق بين فعل القراءة كاكتشاف وفعله كاعادة تقييم اي العودة للكتب مرة اخري، فمثلا يقول انه اعجب في صباه بكتب فيكتور هوغو خاصة البؤساء وقصة مدينتين، لكن العودة لهذا الكاتب الفرنسي تثير ضيق كاتبنا بصوته الذي بدا منتفخا ومتضخما بدرجة كبيرة. يذكرنا باموك دائما بالثلاثين عاما التي قضاها في فعل الكتابة، ومن هنا فالمقالات تقدم صورة عنه تضيف لما كتبه في اسطنبول والاضافة تتعلق برؤيته للعالم، رحلاته، خطبه ومشاركته في المؤتمرات. مثلا في ندوة علمية في كوريا الجنوبية يلتقي الروائي الياباني كينزا بورو أوي الذي يحدثه عما تعرض له من الكتاب القوميين اليابانيين الذي شجبوا دعوته لضرورة مواجهة اليابان تاريخها وممارسات جنودها اثناء الحرب العالمية الثانية خاصة في كوريا والصين. لكن اهم ما في المقالات تلك التي تنقل الينا صورة عن قتامة النفس والعودة الدائمة للطفولة واستعادة تاريخ العائلة والبحث عن اماكن لموضع رواياته كمخرج يبحث عن امكنة لتصوير افلامه. الكتاب يظهر الكثير عن باموك وحدته وتوحده ككاتب ومعركته وطموحه من اجل النجاح وتأكيده علي اهمية الكتابة كفعل يومي وابداعي وتماهي الرواي، كاتبنا مع الراوي المتخيل واحتفاءه بالرواية كمنتج ادبي عالٍ ان لم تكن المنتج الاهم. لكن المقالات وان قدمت الكثير لكنها لا تحمل لنا توتر عالمه الروائي. المؤكد ان باموك كاتب مطلع يتعامل مع عمله ككاتب بجدية ويطمح ان يكتب روائع علي طريقة نماذجه التي يحبها مثل ناباكوف وفولكنر ودوستوفسكي. بالنسبة لنقاد في الغرب فان هذا الفعل يبدو تجديفا لكن الاصرار علي العمل قادر علي انتاج ادب وتراث مهم. وفي النهاية كان باموك كما تظهر هذه المقالات قادرا علي اثبات ان الكتابة والتفرغ لها في عالم ثالث فقير ممكنة، علي الرغم من مخاوف والدته وقلقها علي مستقبله. لكن الرواية كتابتها وان كانت عملا شاقا فانها تؤدي الي الراحة والرضي ويحدثنا باموك عن شعوره عندما انهي روايته الكتاب الاسود كيف كان كريما مع نفسه واشتري قميصين من ماركة فاخرة وتناول طعاما دونر كباب وارتاح ليومين لا يعمل شيئا سوي ترتيب وتنظيم بعض الامور العادية.
كاتب من اسرة القدس العربي
Orhan Pamuk
OTHER COLOURS
Eays and a story
Translated by Maureen Freely
419. Faber;
London/ 2007

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى