صفحات مختارةغياث نعيسة

الفهم الماركسي للإمبريالية اليوم

null
غياث نعيسة
“اذا تطابق الشكل مع المضمون أصبح العلم نافلاً”
كارل ماركس
يتزايد الاهتمام النظري بدراسة الامبريالية لدى المثقفين الماركسيين منذ نحو عقد من الزمن، وتترافق معه ظاهرة التدخل العسكري و الحروب و الاحتلالات التي تمارسها القوة العسكرية الاعظم في العالم،ألا و هي الولايات المتحدة، من غزو افغانستان الى الحرب على صربيا و احتلال العراق و التدخل في الصومال واليمن ….الخ. فالولايات المتحدة تستخدم القوة العسكرية وبوضوح كاستراتيجية امبريالية خاصة لها، أو باسم الحلف الأطلسي، وفق احتياجات تدخلاتها.  و يكرر الكثير من اليساريين حقيقة أن الإمبريالية تسبب الحروب والدمار، لكن غالبيتهم لا تطرح اسبابا واضحة لماذا يحصل هذا في مرحلة معينة دون غيرها، و البعض الاخر من اليسار يستغرب كيف ان نهاية الحرب الباردة لم تؤد الى إحلال السلام العالمي الذي وعدت به الايديولوجيا السائدة.  في الوقت عينه ، صدرت اطروحات تشير الى نهاية مفهوم “الامبريالية” ليحل محله مفهوم “الامبراطورية” اللامركزية، أو قول البعض الاخر اننا وصلنا الى مرحلة من العولمة الرأسمالية للعالم بحيث انه لم يعد صالحا استخدام مفهوم “الإمبريالية”.  لذلك أصبح ضروريا إجلاء الفهم النظري الماركسي للإمبريالية اليوم، و إبراز التطور الفكري الذي طرأ عليه في السنوات الأخيرة.
من المعروف ان أحد ابسط تعريفات للإمبريالية هو ما قدمه المؤرخ البريطاني فيكتور كيرنان:”الامبريالية اليوم تستخدم القوة الفظة في الخارج بوسيلة او بأخرى، لتحصل على ارباح كان بالإمكان الحصول عليها بالتبادل التجاري البسيط”.  وكذلك تعريف أنطوني بريوير :”الامبريالية تعني أولا التنافس بين البلدان الرأسمالية الأكبر، تنافس يعبر عن نفسه في نزاع على أراض يأخذ شكلا سياسيا و عسكريا و ايضا اقتصادياّ”.  وبالتأكيد فان التعريف الاكثر رواجا عند الماركسيين هو تعريف لينين للإمبريالية  عام 1916 –متأثرا بدراسة جون هوبسون حول الامبريالية الصادرة عام 1902- بانها نظام يقوم على الرأسمالية الاحتكارية و تصدير رأس المال، و هي مرحلة عليا للرأسمالية.
الدافع الأساسي والبعد الاقتصادي الرئيسي للإمبريالية  هو الربح و مزيدا من الربح لأنها تنبع من رحم نظام الاستغلال الرأسمالي لبقية العالم. فان كان حقاً راس المال الاحتكاري ما يزال في قلب النظام الاقتصادي – الاجتماعي العالمي، فذلك لا يعفي الماركسيين و اليسار الاشتراكي الاممي عموما من ضرورة فهم وتحليل ما هو الجديد في دينامية هذا النظام.
ثلاثة مواقف
يمكن تقسيم الدراسات النظرية الحديثة حول الإمبريالية عند المثقفين اليساريين الى ثلاث مجموعات أو مواقف، حسب التوافقات النظرية التي تجمعهم.
المجموعة الأولى: تطرح و تدافع عن وجهة نظر تقول ان الرأسمالية ما تزال غارقة في أزمة الربح منذ نهاية الستينات و لم تخرج منها بعد، و ان العالم تتقاسمه ثلاثة اقطاب اساسية للقوة الاقتصادية و السياسية- العسكرية هي امريكا الشمالية و اوربا و اسيا الشرقية. وبالرغم من التفوق النسبي الراهن للولايات المتحدة و هيمنتها الا ان تنافسات جديدة ما تزال قائمة بين القوى الرأسمالية الكبرى من جهة و أيضا مع دول ناهضة قوية مثل روسيا و الصين من جهة أخرى. (تشمل هذه المجموعة مفكرين ماركسيين مثل اليكس كالينيكوس و دافيد هارفي و جون ريز).
المجموعة الثانية: هي التنظيرات التي تقول بان التنافس بين القوى الرأسمالية الكبرى اصبحت نافلة، نظرا للاندماج الحاصل و العابر للقوميات بين الطبقات الرأسمالية، بل و اصبح ايضا نافلا بنى الدول و شبكة العلاقات التي تربط فيما بينها ( ويعبر عن هذه المجموعة كتابات توني نيغري وميكايل هاردت) وهي اطروحات بعيدة عن الماركسية.
المجموعة الثالثة: تنظر لمفهوم مفاده أن تفوق الولايات المتحدة و هيمنتها هو من العظمة الى حد ان القوى الرأسمالية الاخرى انحطت الى موقع الوكيل التابع (vassal كولاء الإقطاعي سابقا لسيده الامير او الملك) ضمن امبراطورية غير معلنة للولايات المتحدة(كما يطرح جلبير اشقر). فالولايات المتحدة تدير المصالح المشتركة لهذه الإمبراطورية، و بالتالي لم يعد هنالك من تنافس جيو سياسي بين القوى الرأسمالية المتعددة.
النظرية الماركسية الكلاسيكية
وقف كل من لينين و بوخارين و لوكسمبورغ موقفاً معارضاً لأطروحة كارل كاوتسكي عام 1914حول “الامبريالية العليا” الذي اعتبرها الاخير طور اخير لتطور الامبريالية يتميز بإمكانية قيام تحالف دائم للكتل الرأسمالية الكبرى يزيل التنافس العنيف بينها و يحقق السلام.
وفي حين شدد الاوائل على حقيقة ان طبيعة العلاقات بين الدول في ظل الرأسمالية هي بالضرورة علاقات تنافسية  و تناحرية مما سيؤدي، عاجلا أم آجلا، إلى اندلاع الحروب بين الإمبرياليات.  و استند كل من هؤلاء المنظرين الى اعمال ماركس لتطوير نظريته و اكمال ما بدأه ماركس حول الموضوع دون ان يستطيع انجازه.
لقد رأت لوكسمبورغ أن المسألة الأساسية هي شرح و فهم دينامية الاستعمار، و طرحت ان الرأسمالية، في محاولتها الدائبة لتجنب الأزمة المزمنة التي تعاني منها، بحاجة دائمة الى توسيع اسواقها من خلال دمجها لأراض ليست رأسمالية بعد(اسواق جديدة)، و أن الحروب بين الدول الامبريالية تنتج عن هذا التنافس بين القوى الكبرى حول “استعمار” هذه الاراضي و البلدان. لقد استندت لوكسمبورغ، وفق ما اظهره تطور النظام الرأسمالي لاحقا، على نقد و فهم خاطئين لآليات إعادة إنتاج رأس المال لدى ماركس، إذ أنها استندت على نظرية خاطئة تفسر ازمة الرأسمالية ألا وهي نظرية “نقص الاستهلاك”. إلاّ أن بوخارين، وأيضاً لينين، قدما الصيغة النظرية الماركسية الاكثر تماسكا حول الإمبريالية، إذ أكد بوخارين استنادا الى مؤلفات ماركس ان ميل راس المال الى التمركز و التكثف يؤدي الى نشوء راس المال المالي (وفق مفهوم رودلف هيلفردنغ عن الاندماج المتبادل بين راس المال المصرفي و راس المال الصناعي) الذي يؤدي بدوره الى تعزيز رأس المال على الصعيد القومي. و يذهب بوخارين الى أبعد من أطروحة هيلفردنغ حيث يلاحظ انه يجري بشكل مواز ميل الى عولمة رأس المال و هو ما يفاقم من التنافس بين رؤوس الاموال المتعددة ذات الاصول القومية. و استنتج ان الامبريالية هي طور يتميز بميل متزايد الى انصهار الدولة مع الرأسمال القومي، ليجد أن الحرب هي شكل آخر من أشكال المنافسة الاقتصادية بين رؤوس الاموال المختلفة. بينما كان لينين يرى، في هذا الخصوص، ان النزعة العسكرية تنبع من الميل الى التطور غير المتكافئ بين كتل رؤوس الاموال، حيث ان تقاسم العالم يخضع لتوازن القوة الاقتصادية بين الدول الكبرى، فالتطور غير المتكافئ يخلق وضعا يستدعي بالضرورة اعادة توازن جديد من خلال العنف و الحروب.
و قد استند عدد من المفكرين الماركسيين في السنوات الاخيرة على اطروحات بوخارين و لينين لتطوير الفهم الماركسي للإمبرياليةـ والمثال الأكثر أهمية عن ذلك هو استناد اليكس كالينيكوس في كتابه الأخير الهام جداً “الإمبريالية و الاقتصاد السياسي المعولم” عليهما حيث ارتكز على أطروحة بوخارين لتعريف الامبريالية باعتبارها تفاعل جدلي بين المنافسة الاقتصادية و المنافسة الجيو-سياسية . في حين انه- و غيره- استند على اطروحة لينين في تفسيره لمسألة بقاء و استمرارية تعددية اشكال الدولة و علاقات التناحر فيما بينها.لكن نظرية لينين تعاني من اشكاليات عديدة منها انها تعيد انتاج مفاهيم عالمثالثية اثبت تطور الراسمالية بعد الحرب العالمية الثانية خطئها ( مثل مقولة طفيلية رأس المال المالي و مقولة الأرستقراطية العمالية..). في الوقت الذي عانت فيه نظرية بوخارين من مشكلة كبيرة تنبع من مشاركته لرأي هيلفردنغ حول رأس المال المالي فتوصل مثله الى ان درجة التنظيم في داخل كل اقتصاد قومي قد وصل الى مرتبة عالية يجعل من الصعب حدوث فوضى في الإنتاج، و بالتالي يجنب وقوع أزمة اقتصادية، جدير بالقول أن بوخارين قد طرح هذا الرأي عشية الازمة الاقتصادية العالمية المشهورة لعام 1929.
تطوير النظرية
في مقدمة الانتقادات الموجهة للخلل في النظرية الماركسية الكلاسيكية  هو ما يسميه كالينيكوس “الاختزالية الاقتصادية”، والتي تعني تلك الرؤية الميكانيكية للمادية التاريخية التي تختزل السمات الجيو-سياسية للإمبريالية الى مجرد انعكاسات للتناحرات الاقتصادية بين الدول الكبرى. و ينطلق من هذا النقد الى الدعوة للتفكير بعنصر “استقلالية” الدولة النسبي. و هو يتفق في هذا الطرح مع دافيد هارفي –في كتابه الاخير” الامبريالية الجديدة” – حيث يقترح هارفي تعريفا يبدو قريبا لتعريف كالينيكوس للإمبريالية، إذ يقول هارفي ان الامبريالية هي ” تفاعل بين منطقين( او مصدرين) للقوة (او السلطة) الاول رأسمالي و الثاني إقليمي” (territorial). وذلك يعني أن مصدر القوة الرأسمالي في هذا التعريف هي تلك النابعة من السيطرة الرأسمالية على وسائل الانتاج و القيمة التي تنتجها، و تشير مصدر القوة الإقليمية إلى بنى الدولة التي تضمن السيطرة الفعلية على ارض محددة و على ما تحتويه هذه الارض من مصادر و طاقات بشرية و طبيعية.
ولكن ما يبدو غير واضحا هو طبيعة العلاقة بين هذين المنطقين (او المصدرين ) للقوة لدى هارفي، و إن كان يدعو الى تناولهما باعتبارهما مرتبطين جدليا. ويشير كالينيكوس الى هذا الضعف في تعريف هارفي للإمبريالية، لذلك دعا إلى البحث في مفهوم النظرية الماركسية الكلاسيكية عن الدولة لعناصر الاجابة عن هذا التحدي النظري.
ينطلق كالينيكوس اولا من قضية المنهج حيث يحدد ان” التنافس الاقتصادي بين «رؤوس اموال متعددة” هو مكون اساسي لنمط الانتاج الرأسمالي ، وان اي تطوير لنظرية ماركس يستند على فرضية ان نمط الإنتاج الرأسمالي أصبح سائدا على صعيد العالم ، عليه ان يدخل، في اللحظة المناسبة من التحليل، شكل اخر مميز من التنافس الرأسمالي له دينامياته و اهدافه الخاصة”. و يقصد كالينيكوس بالشكل الاخر للتنافس الصعيد الجيو-سياسي.
يقول كالينيكوس ان تعريفه يختلف عن تعريف هارفي للإمبريالية فقط في طريقة الصياغة. و لكن قراءة متأنية تؤكد ان التعريفين يحملان مفهومان مختلفان عن العلاقة الجدلية بين الاقتصادي و الجيو-سياسي. اذ ان هارفي يشدد على ان كلا المنطقين متمايزين وان هنالك نوع من الصراع بينهما لمعرفة ايهما هو السائد. بينما يتناولهما كالينيكوس كشكلين ، بالطبع متمايزين، و لكنهما شكلين لدينامية واحدة هي المنافسة بين الرأسماليين، و هي دينامية مكونة اساسا لنمط الانتاج الرأسمالي. و يشير الى ان الامبريالية ظهرت في لحظة تاريخية  اعطى فيها تطور نمط الانتاج الرأسمالي ميزة جيو-سياسية للدول الرأسمالية (بريطانيا و هولندا) للتفوق على منافسيهما من الدول التي تحكمها انظمة الحكم المطلق في القارة الأوربية، وهذا ما أدى بدوره إلى دفع تطور الرأسمالية في عموم اوربا في مسعى دول الحكم المطلق الى الحفاظ على قدرتها على المنافسة الجيو-سياسية.
يمكن اذن القول ان الامبريالية قامت منذ اللحظة التي عمت فيها الرأسمالية القارة الاوربية ، بينما كان بوخارين يرى ان الامبريالية تنتج عن الميل الى تعزيز رأس المال القومي من خلال تراكم ميلي الرأسمالية الى تركيز و تكثيف رأس المال.
و في هذا الاطار تتفوق رؤية كالينكوس على تلك لبوخارين لان الاولى تضع الامبريالية في سياق التطور البعيد المدى للرأسمالية ، أولا، ولأنها تربط الامبريالية مع سيرورة الانتقال من الاقطاعية الى الرأسمالية في اوربا، ثانياً.
يقترح كالينيكوس في مقاربته للاستقلال “النسبي ” للدولة فرضية نظرية للعلاقات التي تربط الدولة و راس المال تقول” ان الرأسماليين من جهة، و موظفي (مديري) الدولة من جهة اخرى، يشكلون مجموعتان لفاعلين اجتماعيين لهم مصالح مختلفة هي بالنسبة للمجموعة الاولى زيادة رأس المال، وهي بالنسبة للمجموعة الثانية المحافظة على سلطة دولتهم في مواجهة السكان الخاضعين لها من جهة، وفي مواجهة الدول الاخرى من جهة أخرى”.  في حال الاعتماد على هذه الفرضية يصبح سهلا فهم العلاقة بين هاتين المجموعتين انها”علاقة اعتماد متبادل هيكلي” بينهما، لان قدرات الدولة تعتمد على مدى الموارد التي بإمكانها حشدها من خلال الضرائب المتنوعة ، فان لها مصلحة اكيدة في تعزيز اوسع تراكم ممكن لراس المال. في الوقت نفسه يحتاج الرأسماليون الى الدولة لتوفير افضل الشروط السياسية والقانونية لهم لتحقيق تراكم رأس المال.
لكن لهذه العلاقة الجدلية التي تبدو قوية لدى كالينيكوس إشكالية وتعرضت لانتقادات عديدة حول ما تحمله من تنازل نظري لأصحاب التيار”الواقعي” في العلاقات الدولية و مبالغته الشديدة باستقلالية الدولة و استقلالية المجال الجيو-سياسي.كما ان فرضيته تخفق في توضيح الطبيعة الطبقية لبيروقراطية الدولة، فاذا كانت المجموعتان متمايزتان في مصالحهما فباي درجة يمكن القول ان البيروقراطية تشكل جزءا من الطبقة الرأسمالية، في هذه الحالة؟ وإذا لم تكن البيروقراطية جزءا من الطبقة الرأسمالية فهذا يعني انه توجد اوضاع تتفارق فيها مصالحهما لحد ان مفهوم الاعتماد المتبادل يصبح ملغيا؟
و الحال، فان كالينيكوس يعتقد فعلا بهكذا امكانية لتفارق المصالح بين البيروقراطية و الرأسماليين ليبعد شبح الاختزالية الاقتصادية. ولكن في هذه الحال لا يعد هنالك شيء حقا رأسمالي في مصالح البيروقراطية. بل انها تبدو في هذه الحالة حاملة لنفس المصالح التي حملتها البيروقراطية في الدول الاقطاعية و الحكم المطلق.
لعل الفرضية النظرية الافضل لتجاوز هذه الاشكالية هي الانطلاق من حقيقة تعدد الوظائف الضرورية لإعادة انتاج رأس المال. وأن لكل من الرأسماليين و البيروقراطيين وظائف مختلفة –هذا في الاوضاع التي لا تعمل فيها الدولة بوصفها رأسمالي جماعي(اي رأسمالية الدولة) من خلال امتلاكها لوسائل الانتاج و القرار في حقلي الاستثمار و ادارة عملية الانتاج- مما يمكن وصف البيروقراطيين بـ”الرأسماليين السياسيين”، وهو مصطلح اقترحه كريس هرمان في مقاله”الدولة و الرأسمالية اليوم” ،لان وظيفة البيروقراطيين هي توفير افضل الشروط السياسية لمراكمة راس المال، و يمكن وصف الرأسماليين ب،”الرأسماليين الاقتصاديين” لان وظيفتهم هي تقرير طبيعة الاستثمارات و ادارة عملية الانتاج.
قد تسمح هذه المقاربة بكشف علاقة تضامن طبقية متبادلة ما بين هاتين المجموعتين. و تسمح بتفسير عملية الانتقال السهلة و الدائمة للأفراد من البيروقراطية بعد مغادرتهم مناصبهم الحكومية الى تولى مناصب في مجالس الشركات الرأسمالية الكبرى.
أشكال الدولة
السؤال الذي يحتاج جوابا هو كيف نفسر استمرارية تنوع اشكال الدولة في ظل سيادة الرأسمالية على الصعيد العالمي؟
يستند كالينيكوس على قانون التطور المتفاوت و المركب لتروتسكي ليفسر التمركز المكاني لرأس المال المتطور تقنيا، من جهة. و يستند على التحليل الذي قدمه كل من كريس هارمان و دافيد هارفي حول تشكل البنى الدولاتية، والتي تقول بان هذه البنى تنشأ حول التمركزات المكانية لرأس المال المنتج و التجاري و النقدي، من جهة اخرى. ويتوصل كالينيكوس الى ان الربط بين مفاعيلهما يشكل القوة التي ما تزال تحافظ على البنى الدولاتية القائمة، فقانون التطور المتفاوت و المركب يؤدي الى تعزيز التمركزات المكانية القائمة مسبقا. لكن كالينيكوس يعتبر ان هذا مجرد ميل، و ليس قانون مطلق، و يمكن تجاوزه في بعض الشروط، و ما الاتحاد الأوربي إلا دليل على ذلك.
صحيح ان الاعتماد على قانون التطور المتفاوت و المركب لتروتسكي يكشف ان دينامية تطور قوى الإنتاج ينتج عن المنافسة بين الرأسماليين، لكن يبدو ان هنالك نوع من التقليل من امكانية بزوغ أشكال دولاتية جديدة على الصعد الاقليمية في اطروحات كالينيكوس. فقد كان بوخارين قد أشار إلى ان الإمبريالية هي ناتج التناقض الجزئي بين ميلين للرأسمالية ، الأول هو الميل الى تعزيز الانغراس القومي لرأسمال والثاني هو الميل الى عولمة رأس المال. واوضح كالينيكوس في كتابه المذكور أعلاه، أننا نعيش منذ الستينات في مرحلة يهيمن فيها الميل الى العولمة. لكن عولمة رأس المال منذ السبعينات تأخذ شكلين ثانويين الأول هو تعدد الجنسيات لرأس المال، و الثانية هي التوجه إلى تعزيز تجلياته الاقليمية، و أوربا هي أفضل مثال على ذلك و ان لم تكن المثال الوحيد، حيث هنالك توجه اقليمي في امريكا اللاتينية و جنوب شرق اسيا، و أيضا بدايات لها في منطقة الشرق الاوسط (انظر الى مجلس التعاون الخليجي او التعاون الاقليمي المهم جدا بين سوريا و تركيا و ايران…) .
ومع ان ظاهرة “التجمعات الإقليمية”، التي أشار إليها دافيد هارفي في كتابه (الامبريالية الجديدة)، لم تلغ –بعد- الدول القائمة، لكن القبول بفكرة ان الاشكال الدولاتية تنشأ حول التمركز المكاني لرأس المال، يعني الإقرار بميل عميق للدول الراهنة نحو التجمع او التعاون الاقليمي.
تكمن أهمية أطروحات كالينيكوس في حقيقة انه تجنب منزلق الاختزالية الاقتصادية، و قدم عرضا لعلاقة جدلية بين الاقتصاد و الجيو-سياسي (اي بين رأس المال والدولة) و تجنب تناول ظواهر عابرة غير أساسية و غير مكونة للإمبريالية (بخلاف ما فعله لينين) ، مع تأكيده على ان العلاقات بين الدول في ظل الرأسمالية هي ،بالتعريف، علاقات تناحرية لأنها شكل من اشكال العلاقة التنافسية في الرأسمالية وهي المكون الاساسي لنمط الانتاج الرأسمالي. و هو بذلك يلغي ترسيمة المراحل التي طرحها لينين، فان ما كان مؤسسا للإمبريالية ليس بروز رأس المال المالي ، بل التفاعل بين المنافسة الاقتصادية والمنافسة الجيو-سياسية، و بذلك لا تكون الامبريالية “مرحلة عليا ” للرأسمالية.
الإمبريالية : بين الماضي والحاضر
يقدم كالينيكوس في كتابه عرضا لثلاثة أطوار للإمبريالية :
الحقبة الاولى تبدأ في عام 1870 و هي مرحلة نشوء اقتصاد رأسمالي عالمي يرتهن فيه التنافس الجيو-سياسي بين الدول الاوربية بدينامية النظام الرأسمالي نفسه القائم على المنافسة، و تمتد هذه الحقبة لغاية 1945 و نهاية الحرب العالمية الثانية، وتميزت هذه الحقبة بالتعددية (القطبية) الاقتصادية و العسكرية والسياسية  مع نمو واضح للنزعة العسكرية. كما تميزت هذه الحقبة بالتدخل المباشر للدولة في الاقتصاد .
الحقبة الثانية هي مرحلة ما عرف بالحرب الباردة، و تميزت بثنائية قطبية عسكرية-سياسية (كتلة غربية في مواجهة كتلة ستالينية)، مع تواجد تعددية قطبية اقتصادية و هو ما ادى الى نوع من التفارق النسبي بين المنافسة الاقتصادية و بين المنافسة الجيو-سياسية، واهتمام متناقص تدريجيا من القوى الامبريالية بالعالم الثالث، و ما رافقه من سياسة نزع الاستعمار و التركيز المتزايد و الهائل لتدفق رؤوس الاموال في المراكز الامبريالية الثلاثة و هي امريكا الشمالية و أوربا و شرق اسيا ، و قد ساهم هذا الوضع بنشوء قوى امبريالية ادنى عبرت عنها قوى اقليمية مصنعة صغرى.
الحقبة الثالثة تبدأ مع انهيار الاتحاد السوفياتي و الدول الستالينية الاخرى و تتميز بانتهاء الثنائية القطبية السياسية مع استمرار التناحرات الجيو سياسية ، دون ان يعني ذلك بالضرورة ان تأخذ هذه التناحرات طابع حرب مكشوفة.
لقد ادى زوال الاتحاد السوفياتي ، و معه التوازن النسبي المفروض على العالم المستقطب حول القوتين الأعظم، إلى تنافس اكبر بين الدول . ودفع سيادة النظام الرأسمالي عالميا إلى ضخ مئات الملايين من الناس الى سوق العمل والاستغلال الرأسمالي، و مما ساهم في زيادة الاستغلال الرأسمالي عدد من العوامل الجديدة مثل ازالة الحواجز الجمركية و ادخال تقنيات جديدة للإنتاج و الاتصالات بمقدورها ان تؤثر ماديا على التكوين العضوي لرأس المال نفسه. ودخل إلى سوق العمل المأجور ملايين البشر و لأول مرة في تاريخ البشرية ، مما يضخم ويؤثر على تكوين الطبقة العاملة في كل مكان في العالم و بشكل مباشر.
و كما قال غرينسبان رئيس صندوق الاحتياط الفدرالي الامريكي (جريدة وول ستريت 4 نوفمبر/ت2 2005) ” ان ضخ اكثر من 100 مليون عامل مدرب من بلدان الاتحاد السوفياتي السابق، و غالبية ال750 مليون عامل التي تشكلها قوة العمل في الصين والعمال في الهند..سوف تضاعف تقريبا قوة العمل .. على صعيد العالم”.
لكن روسيا ماتزال قوة كبرى في العالم، و تبرز أوربا والصين كمنافسين للقوة الامريكية. واذا كانت ثروة الاتحاد السوفياتي ، خلال الحرب الباردة، تعادل نصف ثروة الولايات المتحدة، لكن الصين اليوم تملك الامكانية لتوفير ثروة وطنية تتجاوز مرتين ونصف ثروة الولايات المتحدة. فالصين تملك القدرة على التحول الى بلد اقوى من الولايات المتحدة على المدى القصير.
و يحدد هارفي “ان رأسمالية الولايات المتحدة هي اليوم اضعف بكثير مما كانت عليه في الاربعينات. و عدم استقرار اقتصادها يكمن في التدهور السريع لميزان المدفوعات فيها”. وقد يكون احد مظاهر هذا الضعف هو تخفيض قيمة الدولار، الذي يمكن ان يتعرض الى تدهور منفلت. و يشير هارفي الى “ان اي بلد اخر غير الولايات المتحدة يعاني من عجز مثل الذي تعانيه الولايات المتحدة ، لكان تعرض لنظام تقشف قاسي و اعادة هيكلة لاقتصاده من قبل صندوق النقد الدولي. لكن صندوق النقد الدولي هو تابع للولايات المتحدة”.
من الواضح ان الطبقة الحاكمة للولايات المتحدة واعية تماما بضعفها الاقتصادي على المدى البعيد، لكنها تستند و بكل غطرسة على قوتها العسكرية لضرب اي بلد يجرأ على اعتراض سياساتها.  و يؤكد اغلب المفكرين الماركسيين ان العنف المنظم من الدولة ما يزال الصفة المركزية للرأسمالية. و يستند هارفي على اعمال روزا لوكسمبورغ في شرح ان هنالك سياقان للتراكم الرأسمالي ” الأول يعمل من خلال الاستغلال الواقع على العمل و هو سياق اقتصادي و واضح. و السياق الآخر يسود في السياسة الكولونيالية، و يعتمد بشكل فاضح على القوة العارية”، و يؤكد هارفي أن مفهوم لوكسمبورغ حول “المرحلة الاصلية الاولى لرأس المال” المرافق لمرحلة الاستعمار أو مفهوم ماركس حول حول”التراكم البدائي لراس المال” ليسا شيئين من الماضي فقط. بل ان صفات العنف الشرس و الضاري المرافق للتراكم الرأسمالي مع ميلاد الرأسمالية ماتزال ماثلة أمامنا اليوم. و يطلق هارفي على هذه الدينامية مصطلح “التراكم من خلال نزع الملكية” ، وهي سمات كان قد حددها ماركس باعتبارها جوهرية في التراكم البدائي لراس المال مثل تهجير الفلاحين وبلترة الآخرين (تحولهم لبروليتاريا) و ابتلاع صغار رجال الاعمال من قبل الاكبر ، و النقل الاكراهي للبضائع داخل منطقة السوق ، وهي سمات ما تزال سارية في رأسمالية اليوم. مما يعني ان سياسة النهب التي جعلت من التراكم الرأسمالي الأولي ممكنا ما تزال في قلب السياسات الامبريالية المعاصرة.
لكن نتائج اطروحات هارفي  تأتي مناقضة الى حد ما لمقدماتها ، اذ يرى هارفي ان القوى الاساسية في مقاومة النظام الرأسمالي العالمي ليست الطبقة العاملة، وان اشكال التنظيم للطبقة العاملة اصبحت اليوم عتيقة، و هو يدعو الى الالتفات و الاهتمام بالنضالات ضد تدمير السكن و تخريب البيئة او طرد السكان من اراضيهم، باعتبارها نضالات مركزية ضمن المجتمع المدني.
بالرغم من اهمية النضالات المذكورة، لا يقيم هارفي الدليل على ان اطروحته بان المضاربة المالية و الخصخصة-أي ما يسميه التراكم من خلال نزع الملكية- هي اكثر مركزية واهمية للرأسمالية من استغلال قوة العمل في المصانع والورشات، فالرأسمالية ما تزال اساسا تعتمد على الانتاج وتداول السلع ،وفي حين تساهم العديد من النضالات المذكورة في مواجهة الرأسمالية ، لكن الطبقة العاملة المتزايدة قوتها عالميا هي التي تحتل الموقع الرئيسي في تحدي النظام الرأسمالي في مواقع الانتاج التي تبقى القلب النابض للوحش الرأسمالي.
معاداة الإمبريالية، معاداة الرأسمالية
تحتوي الماركسية على و جهتي نظر حول الإمبريالية، الأولى واسعة الانتشار ترى ان الامبريالية تعني هيمنة الدول الاقوى على الدول الاضعف ، وهذا قد ينطبق على اليونان القديمة  او امريكا الحديثة بلا تمييز. و وجهة النظر الثانية- وهي التي نعتمدها- تقدم تعريفاً أضيق ، يضع الامبريالية في سياق التطور العام للنظام الرأسمالي، و بالتحديد مع بروز الرأسمالية الاحتكارية مع مطلع القرن العشرين، كما أنها لا تعرّف الإمبريالية كسياسة لحكومة معينة بل باعتبارها مرحلة او طوراً(ليست عليا) في تطور الرأسمالية نفسها. وهو تطور متفاوت ، نشأ فيه دول متطورة غنية و قوية واخرى نامية(متخلفة) سجينة ( او مدفوعة نحو) التخلف.
معاداة الامبريالية الجذرية تتطلب معاداة الرأسمالية ، فالسياسات الامبريالية ليست صفة لأفراد حاكمين دون غيرهم، كما حصل  في بعض الكتابات التي وجدت في بوش و جماعته نزوعا إمبرياليا لم يعد قائما مع استلام اوباما لرئاسة الولايات المتحدة ، يشير في هذا الخصوص الكاتب جون بيلامي فوستر في اطروحته “عصر الامبريالية الجديد”(في الامبريالية الان ، مانثلي ريفيو، اب/اغسطس 2003 ) :” من السهل جدا النظر الى الامبريالية كمنتج طفيلي لمجموعات و افراد ذات نفوذ خطفت السياسة الخارجية للبلد في خدمة مصالحها الخاصة الضيقة” لكن الامبريالية ليست سياسة “انها واقع نظامي (هيكلي) يبرز حقيقة طبيعة التطور الرأسمالي، الامبريالية هي مركز الاحتكار في الرأسمالية”.
لا يعني هذا انه يمكن اختزال افعال الدول الى دوافع اقتصادية فحسب، مثلما فعل الكاتب الامريكي مايك ديفيس عندما اطلق على ادارة بوش لقب” اللجنة التنفيذية لمعهد النفط الامريكي” ، فالاستراتيجية الامريكية في الشرق الاوسط يمكن النظر اليها “كاستراتيجية شاملة لحيازة النفط” ولكن ليس ذلك فقط. فالولايات المتحدة لم تخض الحرب على افغانستان وتحتلها فقط لتأمين احتياطات النفط و الغاز في اسيا الوسطى، و لم تغزو العراق و تحتله فقط لوضع اليد على احتياطات النفط ، بل انها بالأحرى شنت هذه الحروب لأسباب جيو سياسية  لإعادة تأكيد هيمنتها العالمية عقب أحداث 11 سبتمبر.
لكن و مهما كانت عليه القوة الامبريالية الامريكية اليوم ، علينا ان لا ننسى ما كتبه اريك هوبسبون”الشئ الوحيد الذي نعلم انه صحيح بالمطلق هو انها(الإمبراطورية الأمريكية) ستكون ظاهرة عابرة تاريخيا كما كانت عليه كل الامبراطوريات قبلها”.
فالعصر الجديد للإمبريالية هو أيضا عصر المقاومة والتمرد والانتفاض لجماهير المأجورين و الكادحين و المضطهدين و المهمشين.
غياث نعيسة
3 يناير/ك2 2011
خاص – صفحات سورية –

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى