صفحات ثقافية

الموقع الالكتروني وقد دُفعت دفعاً اليه

null


حنان عاد

حيرة مريرة وقعت في شركها طويلاً قبل أن أحزم أمري وأطلق موقعي الالكتروني الخاص لجعله متاحاً للعامة أو وفق المصطلحات الانترنيتية، لوضعه online.

في الأساس، أنا أمقت أن يقدّم المرء نفسه للآخرين ويقول لهم تعالَوا الى موقعي: اقرأوني، اسمعوني، أو حتى أنظروني! وفي ظنّي أو أقلّه وفق المبادئ الأدبية التي عرفناها منذ اليفاع أنه ينبغي للكاتب في مختلف وجوهه الترفع عن عرض أناه وليس فقط عدم التباهي بها والصياح يمنة ويسرة: فعلت كذا وحققت كذا وأبدعت في كذا وأتقنت كذا وهلمّ جرّاً من ألف أمر وأمر يمكن لأي كاتب أن يقيم عليه ما يسمّى بالفرنسية matraquage. وان عنى لي هذا المصطلح فيعني وفق رؤيتي، عملية غسل دماغ للمتلقي، وبأسف شديد أقول الى حدّ الجزم ان عملية غسل الدماغ تلك تفلح راهناً فلاح النار في الهشيم، ذاك أن قراء كثراً جداً، والطامة الكبرى أن بينهم مثقفين كثراً جداً، يقعون ضحايا غسل دماغهم من حيث لا يدرون!

وكم أتذكر هذا المقتطف من احدى مسرحيات الرحابنة : بهالبلد كل شي بيصير!

وتران يجي بلا خطّ! بهالبلد كل شي بيصير!.أتذكره كلما أدركت، أقلّه قارئة متابعة تحاول أن تكون يقظة ونقدية ومجردة، أن ثمة طبلاً وزمراً هائلاً دائماً ومبرمجاً يرافق نتاجات البعض في المجالات الأدبية والفنية عندنا. ثمة أشخاص تقام سلفاً لأعمالهم الآتية ولائم المديح والاشادة التي تكال فيها من جعبة اللغة جميع المصطلحات الدالة الى العبقرية لاغداقها على هؤلاء، وهنا ربّ سائل يسأل : وأي قاموس أبقيتم يا سادة لاستخدامه في الكلام على العباقرة الحقيقيين؟ والاعتراض هنا ليس قطعاً ضدّ أشخاص بل ضدّ المبدأ وضدّ هذا الأداء الشاذ والمسيء للأدب والفن عامة، بحيث لا يبين في الواجهة سوى من جعل سلاح الاعلام والانترنت مطيته السهلة والثمينة لركوب عروش الشهرة الوثيرة. وهذا السلاح متاح لمن يشاء شرط أن يقرّر استخدامه، بل الأحرى أن يؤمن به سلاحاً. أمّا أولئك الممتلئون، الصامتون،المترفّعون، المترفّعون حقاً ليس الا لأنهم مدركون استحقاقهم، امام ذواتهم في الدرجة الأولى، فلا يشعرون بالحاجة الى جلبة وضجيج وصياح على السطوح. وان أزعجتهم المبالغة في الجلبة القائمة لاي كان فليس ذلك غيرة أو حسداً وفق التهمة الجاهزة والسريعة كطعام الفاست فود التي لا يجد مطلقوها سواها للتلطّي خلفها، بل لأنهم أساساً ينأون بأنفسهم عن هذا الأداء الثقافي المسطّح الذي بات يماثل تماماً الأداء السياسي للأنظمة الديكتاتورية البالية التي تبجّل أصحابها معتقدة أن جميع من حولها مجرّد ملحقات وتابعين يعيشون على فتاتها ويا لبؤس هذا الاعتقاد ويا لسخفه!!

منذ دخولي عالم الاعلام في البداية، وعالم الأدب والنقد لاحقاً وأنا أصاب بخيبات. دعوني أشرح. أقرأ وأسمع وأشاهد اعلاناً عن عمل فني أوأدبي ما فيفرح قلبي وأمنّي نفسي بأنّني سأسرّ وأغتني وأحلّق نشوة بما سأرى وأسمع أو بما سأطالع. لكنّ المعاينة من كثب لهذا العمل أو ذاك الكتاب غالباً ما كانت تجعلني أترحّم على من قال يوماً: اقرأ تفرح، جرّب تحزن! طبعاً، يمكننا دوماً الخروج بأمور حسنة وجيدة من أيّ عمل فنّي أو أدبي الاّ اذا كان في غاية الافلاس! لكنّ المؤذي لي كان ويلبث، ذاك الشعور بأنّ ثمّة من كذب عليّ، من أوهمني، من ضلّلني، أو أيضاً من ظنّ أنّ في امكانه غسل دماغي وجعلي أصدّق أنّ هذا العمل أو ذاك الكتاب في مستوى البروباغندا التي أثيرت حوله.غالباً ما أذهب متحمّسة لأشاهد أو أقرأ أو أسمع، وأعود يأكلني الخذلان! وأيضاً شيء من الغضب لأنّ الكلام المروّج يجعل عملاً ما في مستوى حين أن العمل في مستوى آخر تماماً! الهوّة مرعبة بين القول والحقيقة! بين الدعاية والواقع! بين ما يراد ويخطّط للعمل أن يكون وبين ما هو عليه حقاً! ولنقلها أيضاً: الهوة فظيعة أحياناً بين طاقة الشخص الابداعية في ذاتها وبين ما يعطاه من خارج ذاته البحتة.

وأعود الى نواة مقالتي لأقول ما لا يخفى على كثر سواء رفضوه أم ارتضوه لغاية في نفس يعقوب، سواء رأوا ضرورة ملحّة لوجوب قول الأشياء على الأقلّ أم تغاضوا عنها قانعين بمقولة “وهل أنا من سأقوّم المقتاية؟”. سأقول، وكما عادتي في قول أشياء أعرف سلفاً أنها ستخسّرني في قاموس معايير الربح والخسارة الرائجة والمنضوية تحت لوائها غالبية البشر على هذا الكوكب المهتز. سأقول ما يقولونه في الخفاء لأنفسهم ولأصدقائهم، ويؤثرون عدم الجهر به علانية للأسباب السالفة أو ربما لأسباب أخرى أيضاً. سأقول أمراً ليس مبتكراً ولا استثنائياً ولا مستجدّاً ولا اكتشافاً، لكنني على طريقتي سأقوله. سأقول انّ الأوساط الأدبية في الأرض كلّها، حتى في الدول المعتبرة الأكثر تحضّراً وتثقّفاً وديموقراطيّة وليبرالية واحتراماً لحقوق الانسان، وخاصة وتحديداً في عالمنا العربي وعندنا في لبنان، ثمّة وضع أدبي نقدي ثقافي لعلّه في بعض منه في أوج شذوذه، وأكاد أقول أنّه حتماً كذلك.كيف لا وبعض المشهد الأدبي الثقافي في انحدار مريع الى هاوية مفاهيم الاغواء الدعائي المبرمج الذي يبدو غالباً وقحاً حين هو لسلعة تجارية، فما الحال اذا كانت البروباغندا تلك لصنيع أدبي!

استفيقوا أيها الأدباء والشعراء والمثقفون! بل أنادي الحقيقيين فيكم! انهضوا من سباتكم اواستسلامكم وازجروا عالياً هذا الفساد المتسلّل من عالمي السياسة والاقتصاد الى هيكل الأدب والثقافة، بل أيضاً من عالم الفن المنحدر الى ما بعد الدرجة العاشرة. أقول هيكل وأقصدها بقوة فائقة. بربكم تشبثوا بذرّات باقية بعد من ذخيرة المقدّس في الأدب. بربكم أبقوا عليها ولو انّ معايير النقض والهدم والهتك…. وهلمّ جرّاً تغريكم شديداً. وإذ أقول “مقدّس” أعني حتماً نوعاً من الحرمة المعنوية المتحرّرة من أيّ منزل يماثل المغلق الديني. اذ أقول “مقدّس” أعني فقط النأي بالأدب والكتابة عن بازارات الاستهلاك والتسليع والمبارزات الدعائية الرخيصة. ثمّ، ان لم تحولوا دون انزلاق الأدب والكتابة الى مدارك ودهاليز خطيرة كهذه، الأجدى الكفّ عن التباهي باختلافكم عن السياسيين والتجار والسماسرة! الأجدى الكفّ ـ وهنا أرفع صوتي عالياً ـ عن تغنّيكم الأجوف بنبل الأدب والكتابة!

صراع مرير وأكاد أقول دامٍ خضته مع ذاتي قبل اتخاذ القرار بتشييد موقع الكتروني خاص بي، وبلغ هذا الصراع حدّته قبيل اطلاق الموقع ووضعه online. ليال ثقيلة أمضيتها في التردّد الشاق وكم قلت: لا لا لن أدخل هذه اللعبة ولو أنني

تكبّدت متاعب تشييد الموقع…. الى أن رضخت وولد الموقع. وليس ما سأقوله في هذا السياق تبريراً بل هو عرض لمسار واقعي فرضته اختبارات وتجارب شخصية مؤذية ليس لي ولكثر وحسب بل خاصة وأساساً للمشهد الأدبي والثقافي عامة.

لطالما آمنت أنّ لكل كتاب الحقّ في نيل فرصة نقده ايجاباً أم سلباً، وهذا أقلّه ما حاولت الالتزام به قدر المستطاع ومنذ البدء ناقدة أدبية. والقريبون يعرفون ما أردده منذ زمن انّ على المرء، خاصة ان كان ناقداً وكاتباً، ان يتعامل مع الكتاب والنص على أنهما روح، ولذا عليه أن يعمل ضميره فيهما ومعهما. لكنّ المناخ العام أراني ما لا أودّ أن أراه: مقايضات فوق الطاولة وتحتها. تكتّلات ثقافية ناشطة على قدم وساق ترذل كلّ من يرفض دخول حرمها وثرثراته والخضوع لمعاييره! ومن يفوّت على نفسه نعم تلك التكتّلات “يخسرنفسه كاتباً دنيا وآخرة”، أي أنّ نصّه وكأنه في نظرهم غير موجود أساساً ـ وان كان بعضهم يخشون ربما في أعماقهم سطوة نصّه ويحسدونه سرّاً عليه، و”تبظّ” عيون بعضهم خلسةً لنقله أو تقليده أو بكلّ بساطة السطو عليه بألف حيلة وحيلة. اذاً، عليه أن يدرك أنّه لن يقرأ اسمه لا في مقالة نقدية جدّية وصادقة عنه. لن ترد حروف اسمه في سيل الأنطولوجيات المتدفقة من كلّ حدب وصوب والمعيبة في استنسابياتها على طريقة أهل البلاط والحاشية والقبيلة! لن يكون له يوما “نعيم” المشاركة في أي مهرجان خارج لبنان لأن اسمه لم يعبر الى القيّمين على المهرجانات، وتالياً لم يعبر اليهم نصّه، وذلك ليس الا لأن العبور هذا لا يمرّ الا بمباركة بعض تلك التكتّلات المنصّبة نفسها وصيّة على الأدب والأدباء.

شعراء وشاعرات وكتاب وكاتبات كثر يعانون من هذا الواقع، كلّ لوحده، وثمة يقين أنّ هؤلاء يدركون تماماً كنه ما تقدّم لأنه يمسّهم بطريقة أو بأخرى.كم اختبر بعضهم على مرّ الأعوام أنّ ثمّة “فيتو” على اسمائهم ونتاجاتهم في منبر ثقافي معين. وكم تأكّد بعضهم الآخر أنّ أسماءهم تستبعد عن سابق تصوّر وتصميم من أي أنطولوجيا أو أيّ نشاط ثقافي في لبنان أو خارجه، وفي اعتقادي أنّ الروايات الواقعية المعاشة في هذا السياق أكثر من أن تحصى.انّه الالغاء بعينه، بل محاولة الالغاء! محاولة الاغتيال المعنوي! (ألا توازي محاولة التصفية الجسدية سياسياً؟).

وبعد، ولكلّ ما تقدّم ولأسباب وحيثيات ووقائع أخرى كثيرة شخصية وغيريّة لايتسع المجال لعرضها،وقد لا تليق كتابتها حتى،أذعنت لضرورة قيام موقعي الالكتروني الخاص. بت أتفهم عميقاً لم7-7- استلحق7-7- كتّاب كثر أنفسهم وأقاموا مواقعهم الخاصة ولو أنهم ترفّعوا طويلاً عن الفكرة. حضور “انترنتي” على غرار الموضة الافتراضية؟! لم لا؟ فليكن! أقله لئلا يظنّنّ ظانّ أو مريض مخيلة يحسب الحضور الانترنتي “سماءه السابعة” وحده، أنّ اولئك المترفّعين هم في دائرة العدم أوالغياب أوالوهن أوالهزال!

المستقبل – الاحد 27 نيسان 2008

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى