صفحات مختارةغسان المفلح

الطائفية صناعة، فمن يصنع مثقفها؟

غسان المفلح
كل إشكالية لا تحل معنى ذلك علينا البحث، عن أسباب عدم حلها، من خلال قراءتها مجددا مرة تلو المرة، والتعامل مع أدواتنا التي نفهم الظاهرة من خلالها، ونعيد طرح السؤال: لماذا هذه الإشكالية لم تحل، ومن هي القوى الفعلية التي تقف وراء عدم حلها؟
هكذا الأمر بالنسبة للإشكالية الطائفية في سورية، صار لهذه الإشكالية مثقفيها، من هم يحسب على المعارضة ومنهم يحسب على الموالاة ومنهم خارجهما، ومنهم من أصبحت هذه الإشكالية بالنسبة له مربعا خصبا لتفريغ حمولته المعارضة للنظام أو الموالية له، وقلة تكاد لا تذكر عددا، يحاولون أن يتطرقوا للظاهرة من خارج هذه الرؤى والعصبيات.
تنمو بازدياد مطرد نزعة باتت أصلية وهي تبادل التهم بين أقطاب المعارضة ومثقفيها بالطائفية كلعنة تلاحق كل شخص يقترب من هذا الجحيم الذي يغلي تحت نار ما يسمى استقرار النظام السياسي.
مشكلة أولى زادت الطين بلة وهي تداخل ما نتج وينتج عما يمكننا تسميته الإسلامفوبيا، إن ثقافة هذا الأمر الواقع غربيا، وظفها النظام خير توظيف، لعب بالطرفين بمن يدعون تمثيل الإسلام، وبمن يدعون علمانيتهم. وأهم عنوان نتج عن هذا الحراك، وما تبعه من حرب على الإرهاب، أن النظام هو الحل لبقاء سورية بعيدة عن سيطرة الإسلام المفوب غربيا. كثر منا تعامل مع هذه المقولة وبدأ يجد لها مساحة في قراءته للمسألة الطائفية في سورية. ترك الجوامع لخطباء معينين من أجهزة الاستخبارات ومنهم من هو مدرب جيدا، ويستوعب الدرس أكثر ممن علمه، تهاجم الغرب وثقافته جملة وتفصيلا، وأن التمسك بالقيم والأصالة هو الحل، وترك للعلمانيين هامشا يسرحون ويمرحون به، هامش منظور أمنيا، وترك” اللبرلة الاقتصادية” لرجالات الحاشية! كما يسمونها.
هذا بدوره أعطى مزيجا من علمانية ولبيرالية مشوهة، وهجينة وارتجالية واحيانا حاقدة، وأقل نفعا في الشأن العام لدى هؤلاء الأصدقاء. ابتذال لمفهوم الديمقراطية والليبرالية، وأغرب ما في الأمر أن هذا الوضع نتج عن مثقفي اليسار السابق والحالي. كما سمح للمعارضة باختراع عبارة مطاطة تسمى: الانتقال السلمي التدرجي الآمن نحو الدمقرطة” وكأن المعارضة تحمل السلاح؟ هذه العبارة بدأ كل طرف في المعارضة وكل مثقف يحملها مضامينه، ودوافعه وحمولته السياسية وغيرها سواء حمولات واعية أم لا واعية. ساعد في هذا الأمر هو التجربة العراقية، قال لي أحد المثقفين العراقيين المهتمين بالدراسات حول الديمقراطية في الشرق الأوسط” كيف يمكن أن تنتج هذه النخب التي أتت إلى السلطة في العراق، وهي نخب مرتبطة ارتباطا عميقا بنظم لا ديمقراطية، وتعتبر نجاح الديمقراطية في العراق خطا أحمر، كسوريا وإيران؟ هذا خطأ أمريكي قاتل، أعتقدوا أن ولاء بعض نخب المعارضة العراقية لأمريكا من أجل إسقاط نظام البعث أمر سيساعدهم في استقرار الوضع بعد الاحتلال. لماذا أذكر هذا التفصيل؟ لسبب بسيط جدا وهو أنه يحمل عنوانا غربيا واحدا وهو” نعم نعرف أن النظام طائفي وقمعي وفاسد ولكن نخاف على تكرار تجربة العراق في سورية ونخاف من الإسلاميين” هذا العنوان البسيط عندما كنت تدفع النقاش معهم للإمام، كانوا يقولون أيضا” أن الاستراتيجية الإسرائيلية حريصة على استمرار هذا الوضع- الجولاني نسبة لوضع الجولان المحتل إسرائيليا وتكريس ضمه لإسرائيل بالتقادم المتولد عن موازين قوى وتواطؤات إقليمية ودولية” لم أجد باحثا غربيا واحدا ممن عرفتهم أو اطلعت على كتاباتهم من المهتمين بالشأن السوري والشرق أوسطي، إلا ويصف النظام بكونه نظاما أقلاويا أوطائفيا وفاسدا وقمعيا، ومثقفينا جميعهم يستندون إليهم كمرجعيات أثناء تناولهم بعضا من الوضع السوري.
لا أعرف إذن لماذا نغضب عندما يقوم أي كاتب سوري بوصف النظام أنه طائفي؟ ويقبلون أن تصف أنظمة أخرى بذلك!؟ كيف يمكننا الخروج من هذه الدائرة، ولايزال الوضع السياسي المنتج لها قائما لا بل امتد لإنتاجها على صعيد توزيع ثروة البلد علنا بحجة الانفتاح الاقتصادي، على أسس طائفية وولائية؟ لكن هل يعني هذا أن الطائفة العلوية الكريمة قد تخلصت من الفقر والحاجة؟ أبدا، قال لي صديق يعد دراسة اقتصادية عن سورية” أنه ياستثناء قصور وفلل العاملين بالخارج التي يبنوها في قراهم السورية، إن أكبر نسبة قصور وفلل فخمة تجدها في ريف محافظتي اللاذقية وطرطوس، ومع ذلك تجد إلى جانبها أحياء فقيرة كبقية المناطق في سورية”. هذه مشكلة ثالثة تواجه المعارضة الديمقراطية، ولكن الجيش ومؤسساته يشكل فرصة عمل للفقراء هناك كي يتخلصوا من فقرهم ولإغنياء حركة التصحيح من ضباط وخلافه، وأعدادهم ليست قليلة كما يمكن أن يظن بعضنا، وكي يستمر أبناءهم في سرقة البلد وهذه ليست متوفرة لأبناء المناطق الأخرى المعدمة، وتتكون أجيالا عسكرتارية جديدة في السلطة محملة بوعي القائد- الطائفة الضرورة، إضافة إلى الامتيازات في التعيين في وظائف الدولة لدى الشباب الذين في قريتهم ضابط أو مسؤول، وهم كثر لهذا يبدو التوزيع غير عادل وتكافؤ الفرص مع بقية مكونات الشعب السوري غير عادلة، وهنا بالطبع تختلط الولاءات بين عائلي وعشائري وطائفي، مع ولاءات من نوع آخر لدى رجالات السلطة وهو مناطقي، مضاف إلى ذلك السجل البعثي الاستخباري. هذا الوضع بإشكالياته هذه بات له مثقفيه، في السلطة والمعارضة، وهنالك نقطة أخرى، أن الهامش من الحرية غير المقوننة، صار لها تأثيرا سلبيا على الحراك الديمقراطي، بدل أن يكون العكس. هذا الهامش من الحرية سمح بإنتاج مثقفين باتوا يرون أنفسهم مرجعا في كل شيء في بحبوحة الحرية! وهذا خطر، باتوا لا يقيمون وزنا للفعل التنظيمي السياسي، بحجة أن الوضع لا يسمح والمعارضة منكمشة… إلى آخر المعزوفة المعروفة عندنا. والأنكى من ذلك كله أنك الآن تجد المعارضة أو قسم منها متمحورا حول صراعات مثقفين، وتنافساتهم المرضية أحيانا، وولاءاتهم المفضية في النهاية لذواتهم الصحي منها والمرضي، يبدؤون بتوزيع التوصيفات يمينا ويسارا على كل فعل معارض وعلى أية شخصية لا تحوز رضاهم، أو لا يعجبها طريقة نشاط هذه الشخصية أو كتابتها، هذا طائفي وذاك لا أخلاقي، هذا انتهازي وذاك مع أمريكا والآخر يكتب في صحف خليجية ويقبض بالدولار، وهذا لا ينفع أن يكون واجهة للمعارضة، حيث لا يوجد تيار في المعارضة السورية لم يخون هو ورموزه من نفس المعارضة، قبل أن تخونه السلطة..من يرى ذلك يعتقد أن أصدقاءنا هم المسيح بعينه في سلوكهم الحياتي. هؤلاء المثقفون صار لهم تأثيرهم على معارضة منهكة، وطبيعي أن يكون لهم هذا التأثير، حيث لم تستطع هذه المعارضة من إنتاج مؤسسة يكون المثقفون على اختلاف توجهاتهم وأمراضهم جزء من فضاءها الفكري التعددي، بل وضعها لازال يسمح بأن أي مثقف قادر أن يخلق بلبلة لها أول مالها آخر في أي فعل حزبي او تحالفي على المستوى السياسي، والعجب العجاب أن بعضهم لا يرى مانعا من التواصل مع مثقف محسوب أمنيا حتى على النظام! ثمة أمر آخر في المشهد، أن قسما من هؤلاء المثقفين بات يوطن إحساسه بأنه مستهدف لوحده! أو مع طائفته إن كان ينتمي لأقلية ما. الطائفية صناعة، تحتاج لإناس يصنعوا شيئا بديلا عنها وأكثر تسويقا لدى الناس، ويجسدوه بالملموس، وأول تجسيد له، أن لا يجعلوا معاييرهم هي الصح، وماتبقى كله وسخ، حر صاحب الرأي أن يقول عن النظام أنه طائفي أو يقول عنه أنه ليس طائفيا، حر من يرى ضرورة الحوار الدائم مع النظام وحر من لا يرى ذلك لنناقش الحجة بالحجة، وليس بالتخوين والاتهامات، يمنة ويسرة. كيف يمكننا أن نجسد” لا طائفيتنا” قولا وفعلا من خلال تعاطينا مع أنفسنا قبل أن نتعاطى مع بعضنا؟
إيلاف

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى