ثورة ليبياميشيل كيلو

هــل ســينجح التغييــر؟

ميشيل كيلو
يدور حوار مهم على امتداد المنطقة العربية – وربما العالم – حول فرص نجاح عاصفة التغيير الشعبي والمجتمعي العربية الراهنة. يلاحظ صوت يراقب الأحداث أن النظم تبلور بسرعة ردودا مدروسة لمواجهة ومقاومة الحركة الشعبية، وتراهن أساسا على الانقسامات الطائفية والاتنية السياسية والطبقية في بلدانها، كي تضع مواطنيها بعضهم في مواجهة بعضهم الآخر، على أن تستخدم جهاز الدولة كاحتياطي استراتيجي ترجح بواسطته موازين القوى لصالحها، بعد مرحلة من الصراع تجمد خلالها الحراك المعارض، المطالب بالتغيير، وتجعله يشبه عجلة سيارة غرقت في الوحل: فهي تكثر من الدوران دون أن تبارح مكانها أو تخرج من الوحل. يقول هذا الصوت إن ما نجح في غفلة من الزمن، بالمفاجأة في تونس والتنظيم الدقيق والشامل في مصر، لن ينجح في غيرهما، بدلالة ما يجري في ليبيا، حيث تقوم سلطة عائلية تتماسك بقوة الخوف من الشعب، وتعمل ككتلة واحدة، كعصابة مافيا، تتحكم بأقليات من الناس عبأتها ضد مجتمعها، ضد كل ما ليس منها كسلطة تتجسم بقضها وقضيضها في شخص واحد هو معمر القذافي: عراب هذه المافيا، التي تواجه مجتمعها المسالم بكل ما لديها من أسلحة حديثة وعنف حقود، وتذبح شعبها بمعنى الكلمة «دفاعا عن الثورة والنظام الجماهيري»، متذرعة بحجج وطنية ترى أنه عميل للخارج الأميركي / الإسرائيلي، وأن قتله واجب وطني يطهره من الخونة، فلا ضير إن كان عدد قتلاه بالملايين، ما دام العدد القليل الذي سينجو من الموت هو الذي سيعتبر «الشعب الطاهر، الثوري والجماهيري والمحب للقائد».
هناك في الحقيقة فروق بين تونس ومصر وليبيا، أهمها إطلاقا الفارق التالي: كان زين العابدين بن علي رأس النظام في تونس, وكذلك حسني مبارك في مصر. عندما وقع التمرد الشعبي، تخلى النظام عن رأسه كي ينقذ ما يمكن إنقاذه من كيانه ومصالحه وأشخاصه، ولا تطيح الثورة به. في الحالتين: الطرف الذي بادر إلى الإنقاذ كان الجيش، الذي رفض نجدة بن علي ثم مبارك، وقرر إخراجهما من منصبيهما، ثم من تونس بالنسبة إلى الأول، ومن قلب مصر البشري والسياسي بالنسبة إلى الثاني. لهذا، يتساءل بعض النقاد اليوم إن كانت قد حدثت بالفعل ثورة في هذين البلدين، وما هي على سبيل المثال هذه الثورة المصرية التي لم تنجح حتى اللحظة في إخراج المناضلين الذين اعتقلوا خلالها من السجون، كما لم تنجح في الإطاحة بأركان حكومة مبارك في مصر وزين العابدين في تونس؟.
بالمقارنة مع تونس ومصر، ليس في ليبيا نظام: هناك شخص العراب الذي يجسد السلطة والنظام والمجتمع والشعب والدولة والمواطنات والمواطنين والعلم والجهل والسياسة والنفط والمطارات والموانئ والطرق والجسور والسماء والأرض والماء والهواء… الخ، لذلك لن ينقذ الجيش النظام إن هو أطاح بالقذافي أو أجبره عل الرحيل، بل سيجعله ينهار ويختفي دون أن يبقى له أي أثر. إن حصل هذا، كانت ثورة شعب ليبيا أول ثورة عربية ظافرة بنسبة مئة بالمئة، وضربت المثل لغيرها في تحقيق أهداف المجتمع، لكونها لن تواجه، برحيل القذافي أو إزاحته أو قتله معضلة القضاء على أبنية نظامه، التي يمكنها تحويل الثورة إلى تمرد على شخص هو الرئيس، وتتظاهر بقبولها، كما يحدث في تونس ومصر، ريثما تحشد قوى كافية وتنجح في إدخال الثوار إلى سراديب ودهاليز سياسية لا يتقنونها وليست لديهم خبرة في التخلص منها أو تفاديها.
برحيل القذافي سيرحل النظام كله، لذلك يراقب طرفا الصراع: الشعب العربي من جهة والنظم الحاكمة من جهة أخرى المعركة الدائرة باهتمام، ويعلق كل واحد منهما آماله على كسبها، ما دام انهيار القذافي، أي النظام، سيعني الانتصار على حالة مافيوية قصوى، تتجسد في استيلاء أجهزة القمع المطلق على السلطة، وتعبئة موارد وقدرات الدولة باعتبارها جهة مافيوية، ليس الجيش فيها غير طرف مركزي مستعد لذبح عدوه الرئيس أو الوحيد: الشعب الليبي. فإن نجح أحست الحالات العربية التي تشبهه بهذا القدر أو ذاك، بالثقة بالنفس وركزت جهدها بدورها على إركاع شعوبها، أو دفع الأمور نحو قتال أهلي بين مواطنيها، يقتدي بالمثال الليبي، يريد الممسكون بالسلطة أن يردع المواطنين ويخوفهم من خوضه. بالمقابل، تابعت الجماهير العربية المعركة الليبية باهتمام وأعصاب متوترة، لاعتقادها أن هزيمة القذافي تتخطى في معانيها ليبيا إلى بقية البلدان العربية، وأنها ستضعف تصميم النظم على قلب التمرد الشعبي إلى حرب أهلية، وستعزز ميل الراغبين من مكوناتها في الحوار والإصلاح، وبناء إطار وطني واسع يجنب بلدانها الاقتتال وهزيمة نظمها، التي ستكون مؤكدة، في حال سقط النظام ليبيا، حيث وصل الصراع بين القديم والجديد العربيين إلى درجة ستنحصر داخل حدودها أية صراعات مستقبلية بينهما، خاصة بعد شرع النظام هناك يقتل شعبه بالجملة وبكافة أسلحة جيش العصابة العائلية المجرمة.
لا شك في أن نظم البلدان العربية ستبدأ في التفكير، بعد ليبيا، في طرق تحول المعركة القادمة من إسقاط النظام إلى إسقاط شخص، هو الرئيس. ولا شك في ان تكلفة الدم المرتفعة جدا هناك ستمثل عاملا يردعها عن تكرارها هنا، في بلدانها، وربما شجعتها على حل إشكال النظام عبر التضحية بالرئيس في مرحلة مبكرة من التمرد الشعبي، حيث ستكون تعقيدات التفاهم مع لطرف الآخر غير كبيرة، وتنازلات النظام قليلة الكلفة. يرجح هذا الاحتمال بروز عنصر جديد في الصراع الليبي هو دخول دول العالم الكبرى جميعها على خط الصراع الداخلي الليبي، وتحوله من صراع يواجه النظام فيه مجتمعه إلى صراع يواجه فيه الخارج أيضا، الذي يدعم التمرد الشعبي، مع ما يعنيه ذلك من فرض خطوط حمراء عليه قد تصل إلى حد إقامة منطقة جوية محظورة على طيرانه، وأخرى أرضية على مرتزقته، ومن توسع سريع للثورة وسقوط أسرع للنظام / الشخص.
هذا التدخل الخارجي يعني عمليا جعل انتصار القذافي على شعب ليبيا شبه مستحيل، ويعني كذلك أنه لن يستعيد موقعه من العالم والاعتراف الدولي بشرعيته، حتى إن تمكن من البقاء في السلطة، وهو حكم إعدام عليه يرجح أن يدخل اليأس إلى قلبه وقلوب مناصريه، ويعجل في انفضاضهم عنه وتركه يسقط أو يختفي، ما دام نجاحه الداخلي، شبه المستحيل، لن يلغي سقوطه الخارجي، ولن يغلق بالتالي باب المعركة ضده، بل سيبقيها مفتوحة على كل صعيد، إلى أن يقوم في ليبيا النظام الديموقراطي والحر، الذي يريده ويستحقه شعب بطل اشتراه بغالي دمائه، وافتداه بأرواح ومهج الآلاف من بناته وأبنائه، في قيامه نصر إضافي للأمة العربية ولأحفاد عمر المختار، الرمز الكبير الذي زرع احترامه في قلوبنا ونحن صغار، ونبدي اليوم إعجابنا بأحفاده العظام، الذين تصدوا لطاغية دجال كان يعتقد أنه باق وشعبه زائل، وأن قمع المجتمع مسألة ليبية داخلية تخصه وحده، ولم يدرك، لغبائه وجنونه، أن العالم تغير، وأن من كانوا يولونه البارحة أمور البلاد والعباد لم يعودوا قادرين على مساندته، بعد أن أدركوا كم هي قوية مجتمعات العرب وزائلة نظمهم، وفهموا أن زمنا ينتهي وآخر يبدأ، وأن مصالحهم مع الأخير وليست مع نظم قوضت جميع فرص استمرارها بيديها، وأن بقاءها في الحكم سيكون باهظ الكلفة وسيمثل عبئا ثقيلا جدا على من يدعمها أو يقف إلى جانبها دوليا، في عالم عربي تعصف رياح التغيير المجتمعي بأركانه، يعيش اليوم الموجة الكونية الثالثة من الثورة الديموقراطية، التي بدأت في أوروبا خلال القرنين الثامن والتاسع عشر، ووصلت عند نهاية القرن الماضي إلى وسط وشرق أوروبا وروسيا، وها هي تجتاح اليوم قلب الاستبداد ومركزه الأكبر في العالم: عالمنا العربي، الذي يحرر نفسه بإرادته وقواه الخاصة من حكومات أثبتت جدارتها في تونس ومصر، وتؤكدها بأكثر الطرق تصميما ونضالية في ليبيا، حيث تدور معركة سيتوقف على نتيجتها جزء كبير مما سيحدث في البلدان العربية الأخرى.
في هذه الشروط الداخلية والخارجية، من المستحيل أن ينتصر النظام الليبي، أي شخص الجزار المجرم، الذي سمى نفسه «الأخ العقيد قائد الثورة «. وسينتصر شعب ليبيا المضحي المحب لوطنه، الذي يعطي بقية العرب دروسا في الفداء لا بد من تعلمها، كي يبزغ فجر العصر الديموقراطي، الذي يتمتع المواطن فيه بالحرية: القيمة التي هي أثمن ما في الوجــود، ورأس مال الإنسان والوطن!
السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى