صفحات سورية

لعن الضحية واستجداء الجلاد

null


د. علي محمد فخرو

ليس موضوع إدارة وممارسة النقاش موضوعاً أكاديمياً بل أصبح في قلب واقع العرب. ومن يتابع الحوارات في الساحة العربية، سواء علي المستوي القومي أو علي المستوي الوطني، وذلك بشأن مواضيع من مثل الطائفية أو العنف أو العولمة أو القضايا المأساوية في فلسطين والعراق وغيرهما، يشعر بأن هدف تلك الحوارات ليس التقدم نحو الوصول إلي الحقيقة وإنُّّّّما تحقيق انتصار علي الخصم.

وقديماً قالها الفيلسوف اليوناني سقراط بأن المتحزٍّب لايهمٌه في الحوار ما هو حق وأن كلَّ همٍّه إقناع الآخرين بوجهة نظره . ومن هنا فان الكثير من تلك الحوارات ليست أكثر من ثرثرة بلغة منمَّقة متكلٌّفة. إنها في غالب الأحوال عبارة عن أساليب وحيل تٌستدعي لجعل القارئ أو المستمع يوافق المتحدث أو الكاتب. إن القضية بكاملها هي قضية إقناع وليست قضية فهم.

في قلب الموضوع تكمن طريقة النظر إلي الأحداث والظواهر الخاطئة في المجتمع. فالطريقة الشَّائعة هي النظر إلي الحادثة أو الظاهرة في معزل تام عن أسبابها وجذورها الدًّفينة، عن مكوناتها التاريخية، عن الظروف المحيطة بها، عن الظروف النفسية والاجتماعية لمن ارتكب الحادثة. فالحكم علي أية حادثة وعلي أية ظاهرة، مهما كانت بشعة، دون التمحيص في الأسباب والجذور والتاريخ والظروف، هو حكم سطحي مبتسر غير عادل. ويزداد هذا الحكم ظلماً وتعسُفاً عندما يحدٍّد المعلُقون والغاضبون مايجب أن ينطق به القاضي أو ما تقوم به سلطات الأمن من أنواع العقاب ومدي شدًّته. بل ويذهب أولئك من معلقين وغاضبين إلي أبعد من ذلك عندما يطالبون بأن ينقلب العقاب إلي عقاب جماعي يشمل طائفة أو قبيلة أو عائلة أو جنس الفاعل. إنها مطالبات شمشونية تٌسقط أعمدة المعبد علي كل من فيه.

إن هؤلاء يبسٍطون ويسطًّحون الأمور عندما يعتقدون أن الحقيقة تكمن في ذات الحادثة المستنكرة وبالتالي يمشون في الأرض ويطلُون من علي شاشات التلفزيونات وصفحات الجرائد كمالكين للحقيقة. هنا يجب تذكير هؤلاء بما كان يقوله الفيلسوف الفرنسي فولتير من أنه يحترم ويقدِّر الباحث عن الحقيقة، ولكنه يحتقر من يدَّعي أنه يملك الحقيقة.

دون أيٍّ تبرير لأيًّ حادث بشع يجب أن نتفق علي أنه، في الأرض العربية، فقيرها وغنيٍّها، هناك أسباب وجذور وتاريخ وظروف وراء كل الأحداث البشعة. هناك الفقر الذي كاد أن يكون كفراً والذي تزداد وتتسع مساحته. هناك التمييز الفاضح المثير للفتن الأشدٍّ من القتل علي أسس طائفية وقبلية وعائلية وغيرها. هناك فساد مالي وإداري وذممي علي مستوي الحكومات والمجتمعات. هناك دولة تقمع المجتمع وتبتلعه وتركٍز الأرض وثرواتها في أيادي قلًة متخمة أنانية بلا ضمير. هناك تراجع في الأمن والاستقلال القومي والوطني وهزائم متتابعة تؤدي الي الشعور بالهوان واليأس والرًغبة في الموت. هناك القصور والمجمًعات الفاخرة والأكواخ المزرية المحيطة بها. هناك الكثير.

ليست هذه اناشيد اللًطم وتعذيب الذات. إنها أوجاع ومثيرات لا يحٌس بها الاً من يكتوون بنارها، ولذلك فان البعيدين عنها لا يستطيعون فهم الأحداث والظواهر. إن الذين يستطيعون فهمها هم المكتوون بنار أسبابها وجذورها وتاريخها وظروفها التي تسحق إنسانية من تلسعهم نارها فيلجؤون إلي العنف وإلي أكثر من العنف.

إن أفلاطون كان يردٍد بأن الذي يظلم يرتكب عملاً أكثر خسًة من الذي يعاني الظلم. والرئيس الأمريكي جورج واشنطن كان يكرٍر بأن أقوي أعمدة الحكومات هي ممارسة وإدارة العدالة.

وكان الكاتب الإسباني الشهير سرفانتس يسخر بأن هناك عائلتين فقط في العالم: عائلة الذين يملكون وعائلة الذين لا يملكون. علي الذين يؤدٌون أن ينبروا للتعليق علي الأحداث أو شجبها أن يربطوا كل تعليق أو استهجان بالأسباب والجذور والتاريخ والظروف وإلاً فإنهم لن يكونوا أكثر من شاهدي الزٌور. إن لعن الضحية واستجداء الجلاًد هما ثرثرة عبثية مضحكة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى