صفحات ثقافية

بعد 75 عاماً على رحيله … من يعيد الاعتبار إلى الشاعر الروسي المنتحر ماياكوفسكي؟

null

رفعت سلام

–> نعم، من يعيد الاعتبار «الشعري» إلى ماياكوفسكي، الشاعر الروسي الكبير، في الذكرى الـ75 لانتحاره؟ من يستطيع فصل «الشعري» عن «السياسي» لديه، لتمكن رؤية الجوهري مستقلاً عن العابر؟
ومن يستطيع استبعاد تأثيرات الكتابات السطحية، الأيديولوجية (مع أو ضد) التي تراكمت حول الشاعر، من هنا وهناك، ليتبدى لنا وجهه الشعري الحقيقي، بلا رتوش، بعد 75 عاماً على انتحاره؟

شاعر إشكالي، في حياته القصيرة، وبعد انتحاره المفاجئ؛ كشاعر تبنى بإخلاص متكافئ المطرقة والسندان معاً: الشعر والعمل السياسي، فالتبست وضعيته وصورته، من دون أن يبادر أحد – بعد رحيله – بفض الالتباس. فبفعل انخراطه في «العمل السياسي»، اختار كتاب الغرب (المعادون تقليدياً للشيوعية) – ومن ورائهم بعض الكتاب العرب – التقليل من قيمته الشعرية لمصلحة شعراء آخرين من الحقبة نفسها، غاضين الطرف عن أنه أحد مؤسسي «المستقبلية» الشعرية في روسيا، وأحد موقّعي بيان «صفعة في وجه الذوق العام» (1913)؛ فلم ينتبهوا بالتالي – أو لم يريدوا أن ينتبهوا – لتلك الذخيرة الشعرية الهائلة التي قدمها بلا غاية سياسية.

صدمة الحزب

في المقابل، لم يغفر له قياديو الحزب والحكومة – خلال حياته القصيرة – أنه سبق أن انسحب من الحزب والعمل السياسي «الثوري» قبل الثورة، بعد ثلاث مرات من الاعتقال، وأنه – ذات يوم – كان أحد مؤسسي «المستقبلية» الشعرية في روسيا، وأحد موقّعي البيان الشهير، الصادم، الرافض، المتمرد على كل أدب «معتبر» في اتجاه التجريب الشعري إلى حدوده القصوى.

وسيصل الأمر بلِينين – حين عرض عليه أمر طبـــع ديوان له – إلى أن يكتب، في 6 أيار (مايو) 1921، إلى «لوناتشــارسكي» مفوض الشــــعب للتـــعليم: «ألا تشعر بالخزي من نفسك وأنت تقترح طبع 5 آلاف نســخة من قصيدة ماياكوفسكي «150.000.000»؟ إنها لحماقة وتصــنع هرائي مطبق. أعتقد أن عشــر الكمية فقط هو الذي يســتحق الطباعة، على ألا يزيد على 1500 نسخة، من أجل المكتبات والمهاويس. ويستحق لوناتشارسكي التأنيب على مستقبليته».

ويزداد الأمر التباساً حين يكون أول ما ترجم له إلى العربية – على يد أحد قيادات الحزب الشيوعي المصري – هو قصيدته السياسية الطويلة «لينين»!

ولا سبيل إلى إنكار أن نتاجه الشعري يضم قصائد تحريضية في المعنى السياسي. إنها ضريبة الحضور في حقبة تحول هائلة، وضريبة الإيمان الحقيقي بالثورة؛ لكنها تمثل – في منجز ماياكوفسكي الشعري – الزائل، الهامشي، على رغم أنه لم يفلت سلبيات التجربة الجديدة من الهجائيات اللاذعة المريرة للبيروقراطية الناشئة، والتهرب من المسؤولية، والذاتية الضيقة، والانتهازية المختفية وراء الكلمات الثورية (قصيدتا «جنون الاجتماعات» و «فظائع الأوراق»، على سبيل المثل)؛ وذلك ما أثار بيروقراطيي الدولة والحزب ضده حتى الانتحار.

وخارج هذا الوقتي، العابر، الزائل، يبقى منجز ماياكوفسكي الشعري شاهقاً، كواحد من أهم أصوات القرن العشرين الشعرية. صوتٌ خاص، منفردٌ، لا يشبه سابقاً أو لاحقاً، ويمتلك أهليته الحقة المتميزة لتصدر المشهد الشعري الإنساني مع نيرودا وإيليتِس وريتسوس وأراغون وإيلوار وبريخت وأونجاريتي ولوركا

صوتٌ شعري متعدد الطبقات والأبعاد، بلا أحادية. بضربة واحدة، أدخل إلى القصيدة الروسية أصوات الشارع الروسي ولغاته وملامحه وعمقه، ذلك القاع بلا قرار، فخرج بالقصيدة من الذهنية والتأملية والتجريد إلى حيوية التحولات المتلاطمة.

يمتزج في هذا الصوت «أنا» الإنسان العادي، المغمور، الذي يندفع إلى التحدي الجريء لكل النظم، مع صوت «بطولي» مجلجل، يوحد تواريخ الألم الروسي في لحظة نادرة: لحظة الهدم العظيم والبناء العظيم. هو – في آنٍ – «رجل مغمور» يمتلك القوة والموهبة، فلا يرجو بل يطلب، لا ينحني بل يواجه؛ تدفعه شهوة التمرد إلى الكلام والصراخ؛ إلى أن تعجز القصيدة عن التعبير (عنْ ذلِك/ لا قصِيدة يمْكِنها أنْ تحْكِي). هو اندماج أصوات النبي والشاهد والحكم والفاعل، في لحظة تاريخية تستقطب التاريخ، وفي حدود جغرافية تستقطب الجغرافيا.

صوتٌ فردي صعلوكي/ بطولي يواجه عالماً من هواة انتهاك المحرمات والقتل والجريمة، والدخان الذي يخنق جوقة الروح، والقبضات القذرة والوحشية التي تندفع خلال الابتسام والمرح، وحظائر الشوارع التي تغدو أكثر وحشية.

في هذا العالم، يفقد الوجود معناه: يصبح القمر نوعاً من النفاية القديمة التي تفتقد الجدوى، والمدينة جحيماً هائلاً، ومصابيح الشوارع قياصرة في تيجان من الغاز تموت، والقراءة لا تثير سوى الملل، والكتب مرادفة للكراهية، والشارع يئن تحت وطأة الألم، صامتاً. ولا يتبقى سوى الجنون. أما الحب فإهدار وتدمير وعبث جنوني لا منطق له، ولا يمكن التنبؤ بمساره، سوى ما تتخذه النتيجة الأخيرة من نكران.

السخرية المرّة

لكن هذا التعارض يتحقق – أيضاً – في شكل «هجائي»، ينطوي على «المأسوي». فالسخرية المرّة والهجاء الخشن هما الأداة الشعرية لمواجهة العالم. لكنه يتكشف عن إحساس مأسوي بالعزلة والعجز الفرديين، في خضم علاقة صراعية غير متكافئة، بين «أنا» صغيرة فردية و «لا أنا» أخطبوطية، مهولة وساحقة؛ هي «لا أنا» عالم كامل معاد وقاهر لكل الكيانات الصغيرة.

وينقسم الصوت الشعري على ذاته: إنه القوة والمجاهرة والخطاب المباشر والسخرية والتفاؤل – في مواجهة العالم الخارجي، والوجود العام؛ لكنه الأسى والبوح والرثاء واليأس – في مواجهة نفسه والوجود الخاص: «فلْيمْتد الانْتِظار حتى اليأس/ ولتتحول الحياة إِلى كابوسٍ واحِدٍ طوِيل، ولتمْضِ مِنْ سيئ إِلى أسْوأ». ولا أمل في أن يلتئم الإنسان؛ أو أن الأمل الوحيد هو أمل يحمل طابع اليأس من التحقق «سبْع سنواتٍ ظللْت أنْتظِر ذلِك أنْ يتحقق، وسوْف أسْتمِر مصْلوباً هنا، على مر الْقرون».

وتنطوي الصورة الشعرية على حركية فائقة – تخاصم الركود التأملي، وسكونية التصميم الذهني – تستمد مقوماتها من اعتمادها العناصر الحية في حركة العالم: عناصر الشارع الموسكوفي، أوائل القرن، وعناصر الحياة المعيشية. فهي – في «غيمة في بنطلون»، على سبيل المثال – الموعد المضروب في الساعة الرابعة، والمساء الديسمبري، وزجاج النافذة اللامع، والعربات المقرقعة، والمطر المتساقط على الزجاج، والجص الذي يسقط من السقف، وصرير أبواب الفندق، ورجال الإطفاء، والتاكسيات المنتفخة، والزحام، والكنيسة، والحانات.. إلخ.

لكن الصورة الشعرية تعتمد أيضاً – في حركيتها – على صوت هذه العناصر وحركتها اليومية المألوفة؛ فتصبح القصيدة غابة من الأصوات لا تخبو، وبحرا من الحركة المتلاطمة لا يهدأ، وعالماً من الصور الشعرية المتعددة العناصر والمستويات.

هكذا، ينكشف وجه الحياة اليومية غير المألوف، المتخفي وراء قناع العادة والآلية، على نحو يضيء – أو يعري – الأركان المعتمة، والزوايا الخبيئة. وتكمن المفاجأة في انكشاف العادي عن اللاعادي، والرتابة عن الدهشة، والألفة عن الاستغراب.

اللغة اليومية

يستند بناء الصورة الى اكتشاف اللغة اليومية، التي كانت محل ازدراء من جانب الشعراء، باعتبارها لغة مجافية لـ «الشعرية». إنها لغة المناقشات والأحاديث والخطابات والتعبيرات العامية والجمل المتداولة؛ اللغة الحية الآنية القابلة للتشكيل. يدخل القصيدة «هذيان الحمى والملاريا»، و «سوْف آتِي فِي الرابِعة»، و»هاللو! من الذِي يتكلم؟ من؟ أمي؟»، و «حِساء الكرنْب»، و «ابْن الزنا»، و «أيها المواطِنون»، و «ألا تشْعر بِالضجر؟!»، و «يا لكم مِنْ أوْغاد»، و «سوْف أمزقكم»، و «دعونِي أمْضِي»، و «لنْ توقِفونِي». لغة الهذيان، وتحديد موعد اللقاء، والإخبار الفاتر، والحديث الهاتفي، والإعلان التجاري، والرجاء، والسؤال الاستنكاري، والشتيمة، والتهديد، والانقضاض.

لكن الآلية الأكثر ارتباطاً بكيفية استخدام اللغة اليومية، هي الانتقال – الحاد والمفاجئ – من هذه اللغة الاعتيادية إلى لغة الجموح الخيالي: «سوْف أمزقكم كلكم، مخْموراً بِالتملق،/ ابْتِداء مِنْ هنا ورأساً إِلى ألاسْكا!».

حيوية يحققها – على صعيد البنية الشعرية – جدال «المونولوغ الداخلي» و «الحوار» و «المخاطبة» في تأسيس العلاقة بين الداخل والخارج، بين السري والعلني، بين الحميم والعمومي، بين الأنا والآخر. ويوحد هذه الأشكال ويتخللها صوت الأنا الشعرية: صوت الراوي الذي يحكي ما فات، ويستعيد الذكريات والوجوه، ويحيي الماضي المنطوي على الخبرة الإنسانية الجليلة. إنما يشوب ممارسته الكثير من النزق الطفولي والعبث الصبياني، وخراقة مهرجي السيرك والسائرين على الأسلاك المشدودة على الهاوية.

وهو صوت المشاهد الذي يكشف ما يتخفى وراء أستار التواطؤ أو اللامبالاة، وما يتقنع بالرطانة الثورية المباحة من انتهازية وعفن. إنه ليس مشاهداً، بل هو شاهد متطفل، لا ينتظر دعوة لن تجيء للنطق بشهادته، وإنما يمنح نفسه حق إطلاقها، أو الصراخ بها، وقتما يريد، وكيفما يريد. فهو الشاهد الذي لا يرحب أحد بوجوده، ولا بشهادته.

لكن الشاهد المرفوض يحول شهادته إلى عريضة اتهام، من دون مقدمات، فتنتفي المسافة بين شاهد الإثبات والمتهِم، ليتوحدا في صوت واحد، يصرخ في شوارع المدن الكبيرة والقرى النائية بالحقيقة المرة، والفضيحة.

ولا يتخذ هذا الصوت المتحول – دائماً – سمة الجدية الصارمة، في شكلها الخارجي، بل تتخفى هذه الجدية الدامية خلف أقنعة من الهجاء المرير، والتهكم الكاريكاتوري المغالي، واللعن والسباب الحاد، في كثير من الأحيان. إنه الفعل اللفظي الأقصى، البديل الممكن عن الفعل الجسدي غير الممكن في القصيدة.

لكنه سرعان ما يروعه اكتشاف حقيقة أن الأصوات المدوية – وحدها – لا تصلح من شأن العالم، ولا تحيل القبح إلى جمال الحلم، فينفجر هذا الصوت المجلجل بالسخط واللعنات التي تساقط على الرؤوس، عن صوت العاشق الأسيان، وأناته وتوسلاته إلى حبيبته الحجرية: «أخاف أنْ أنْسى اسْمكِ/ كما يخاف الشاعِر/ أنْ ينْسى كلِمة ما/ عثر عليْها تواً، لم يلْحقْها الجفاف والابْتِذال بعْد». هي الوحدة التي تجعل الصوت ينكسر على أسوارها الصلدة، ليرتد إلى الداخل، واهناً، مبعثراً جريحاً: «لا أنْفاس حية تدب قرْبِي… فتحملْ وحْدك الْفرح والألم»؛ أو «ها أنا وحِيد/ كعيْنٍ وحِيدة/ لِرجلٍ يمْضِي مسْرِعاً إِلى الْعمى».

يصبح – إذاً – مبدأ التعددية، في العناصر والأساليب والأشكال والأبعاد، مبدأ جوهرياً في تجربة ماياكوفسكي الشعرية. هي تعددية التناقضات والتداخلات والتحورات والتوافقات معاً، وفي آنٍ واحد. إنها – في جوهرها العميق – تعددية أشكال الوجود الإنساني.

فهل يمكن أن نستعيد ماياكوفسكي «الشاعر» من براثن «السياسي»؟ أم أن الأفق يضيق عليه بعد موته، مثلما ضاق عليه في حياته، فأطلق الرصاصة الأخيرة؟

شاعر مصري

الحياة – 05/05/08


مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى