صفحات سورية

بعض العبر من ثورتي مصر وتونس

null
مازن ميالة
ثورتان باسلتان لم تكونا لا على البال ولا على الخاطر، سرقتا الأضواء على الصعيد العالمي منذ بداية هذا العام وفجرتا الأوضاع في العالم العربي، بالمعنى الإيجابي للكلمة، بشكل غير مسبوق على الإطلاق، وحرضتا كل أبناء هذا العالم العربي المنكوب للتفكير بالواقع الذي يعيشونه عقودا طويلة مليئة بالهزائم والمحن والمآسي والإحباطات وفقدان الأمل بغد أفضل، لتضعا أمامه أنموذجا عبقريا للخلاص من هذا الواقع وإنتزاع الحرية للإنسان، وحق الشعوب في صنع الحاضر والمستقبل للأوطان.
نحن السوريون، وبسبب محنتنا الأكبر بلا شك، بنظامنا المتفوق بكل معايير السوء والإنحطاط، سوف نكون أكثر من يحتاج إلى إستلهام روح هاتين الثورتين ومشاركة الشعبين الشقيقين نشوة النصر في إسقاطهم الملحمي للإستبداد وإنتزاعهم لحريتهم الفتية من ناحية، ودراسة وتحليل هاتين الثورتين للإستفادة القصوى من تجربتهما وإستخلاص الدروس والعبر لمعركتنا القادمة لابد، لإسقاط الإستبداد وإستعادة الحرية للإنسان من ناحية أخرى. وسأحاول في هذا المسعى، الإشارة إلى أهم ما أراه من تلك العبر.
1- الطريق السلمي لإسقاط الإستبداد
أثبتت تجربة الثورتين أن الطريق السلمي لمقاومة وإسقاط الإستبداد، هو الطريق الأنجع لأنه يحيًد إلى حد بعيد الترسانات الكبرى والطاقات الهائلة لآلة القمع، التي بناها ويبنيها جميع طواغيت أنظمة الإستبداد لتحميهم من شعوبهم ويتحرقون شوقا لفرصة أو مبرر لإستخدامها ضدهم. تماما كما حصل عندنا نهاية السبعينات وكل الثمانينات السوداء في تاريخنا الحديث، حيث لم يتوان النظام مثلا عن إستخدام كل صنوف الأسلحة في مجزرة حماه لتدمير منازل وأحياء بكاملها على رؤوس أصحابها بحجة محاربة المتمردين الإسلاميين، الذين رفعوا السلاح في صراعهم مع النظام، وقام لاحقا بسجن وتعذيب وتصفية الألوف من المعارضين لنظامه ومن كل ألوان الطيف السياسي، بغية تلقين الشعب السوري بكامله درسا لن ينساه. وفيما كلف الإنتصار على الإستبداد في كل من تونس ومصر ما يقرب من ثلاثمئة شهيد، فقد خسر الشعب السوري عشرات الآلاف من الضحايا البشرية في ذلك الصدام دون تحقيق أي مكسب، بل على العكس فقد تمكن النظام من تثبيت دعائم بطشه وإرهابه على جماجم ضحاياه منذ تلك الحقبة وحتى يومنا هذا.
2- الوحدة والطابع الإنساني للمعركة
في الثورتين طغت شعارات ومطالب الحرية والديمقراطية وسلطة الشعب واسقاط الديكتاتورية والفساد وجميعها مطالب وشعارات ذات منحى إنساني جامع، التقى حولها، بالإضافة إلى نواتها الأولى من قوى الشباب “اللاحزبي” مختلف ألوان الطيف السياسي المعارض التقليدي ودون أن تحاول أي من هذه الأطياف إدعاء الفضل أو الغلبة في قيادة العمل الإنتفاضي. بكلمة أخرى لم تجر محاولات لسرقة الثورة أو قنص مكتسباتها من قبل أي طرف على حساب الآخرين، وهذا مكنها بالتالي من المحافظة على وحدتها وثباتها في الصمود والتصعيد حتى بلوغ الهدف.
في الثورتين يُحسب لجميع أطراف المعارضة في أدائها طيلة فترة الإنتفاضة، أنها تواضعت وتجاوزت ذاتها الحزبية والعقائدية، ولو مؤقتا، لمصلحة المطالب الإنسانية والوطنية الجامعة المشتركة وحتى إنجاز إسقاط النظام. طبعا قد لا تستمر الأمور بهذا الشكل المثالي في المستقبل، لكن إدراك أهمية الوحدة لتحقيق الغاية هنا، والتصرف وفق هذا الإدراك يستحق الإعجاب والثناء.
لكن ما يحضرني حين ذكرت ما سبق، هو الإحباط الذي لا يفارقني في هذا الصدد من أداء المعارضة السورية، من الإنقسام والتشتت، من كثرة المبادرات والحركات والزعماء والمرجعيات الحزبية والعقائدية والشخصية من ناحية، وندرة البحث عن المشترك أو الإخلاص في هذا البحث، من ناحية أخرى. لدينا في هذا الصدد الكثيرمما يجب أن نتعلمه ونقتدي به من الثورتين الباسلتين.
3- إسقاط الطائفية
هذه النقطة تخص الثورة المصرية، فقد كان هناك شحن طائفي مخيف وخاصة بعد التفجير الإجرامي في الإسكندرية مطلع العام. إلا أن مشاهد التلاحم بين المسلمين والأقباط في ساحة التحرير، كانت الرد الوطني والإنساني الوحيد على الإرهاب الذي لا يكل عن السعي لغرز أسافين في النسيج الوطني لكل بلد يوجد فيه. كان هذا من المآثر الكبرى للثورة المصرية حيث إختلطت دماء الشهداء من الطرفين على مذبح الحرية وفي النضال لإعلاء القيم الإنسانية على التعصب والحقد وإرهاب السلطة.
وبالعودة إلى واقعنا السوري، لا بد من الإشارة إلى أن مشكلة الطائفية قد تكون بلغتـ، بسبب ممارسات النظام الطائفية بالدرجة الأولى، أبعادا خطيرة غير مسبوقة في التاريخ السوري. وكنت قد أشرت في بحثي الذي نشر تحت عنوان “الإنسان أولا”، إلى أن الممارسات الطائفية للنظام والتي تمثل أحد ثلاث دعائم لسياسته الداخلية “إستبداد، فساد، طائفية”، لها غاية براغماتية محددة، تمليها أجندة النظام الوحيدة الدائمة وهي الحفاظ على بقائه. الطائفية مكنت النظام من الكسب الرخيص لفئات واسعة من الشعب إلى جانبه، ما كان بإمكانه كسبها أو على الأقل كسب حيادها لولا تلك الممارسات. الطائفية مكنت النظام من تحقيق شرخ عميق في النسيج الوطني السوري يحول بينه وإستعادته لعافيته ولحمته ومواجهته له كمجتمع موحد.
الحالة الطائفية من جانب آخر اكتسبت في سوريا، خاصة خلال العقد الأخير بعدا وخصوصية إضافية، مع تعميق الإرتباط والتحالف مع نظام الملالي الإيراني الشيعي، وتشييع أبناء الطائفة العلوية بشكل خاص، الأمر الذي ضاعف وعمق المشكلة الطائفية ومنحها طابعا أكثر راديكالية وشمولية من أي وقت مضى، سيما وقد تم ربطها أيضا بأجندة سياسية تدّعي زورا وبهتانا المقاومة والممانعة للمشروع الصهيوني في الوقت الذي تقدم فيه خدمات استراتيجية لهذا المشروع من خلال تمزيقها للنسيج الوطني للمجتمعات والدول، التي يحظى فيها أطراف هذا الحلف بوجود فعال مثل لبنان والعراق وسوريا
من هذا المنظار يجب رؤية الطائفية سلاحا بيد النظام، هو الذي يحرص على تعزيزها وبقائها لإبقاء سيطرته. لذلك تحديدا يثير إستغرابي واستهجاني كل طرح من قبل الأطراف المعارضة أو المناوءة، التي تمارس نوعا من الشعبوية ومخاطبة العواطف الدينية وتسهم بالتالي في تكريس وترسيخ الطائفية من خلال مطابقتها بين النظام والطائفة التي يدعي أو يحاول تمثيلها. ويبدو لي أن هؤلاء لا يدركون أنهم يدعمون خداع وأجندات النظام الساعية دوما إلى تكريس هذا الواقع من الفرز الطائفي.
أنا أعرف مثل غيري بالطبع أن النظام قد تمكن في الماضي من خديعة وتوريط قطاع واسع من أبناء الطائفة العلوية (وليس فقط منها) في أجنداته وجرائمه ضد كل أبناء الشعب السوري بما فيهم أبناء الطائفة نفسها الذين تجرؤوا بالوقوف ضده، وأعرف أن قسما من هؤلاء بنوا ثروات وقسما آخر أكبر يرتبط دخلهم ولقمة عيشهم بأدائهم الوظائف الأمنية والقمعية للنظام، لكن ومع ذلك، لا يجوز لوطني أن يمنح نفسه الحق في إدانة وتجريم الطائفة نفسها. الأقباط المصريون، تعرضوا لعشرات الإعتداءات الإرهابية من قبل مسلمين. لكن مع ذلك، هل يجوز إدانة المسلمين جميعا بالإرهاب؟.
الفرز الطائفي الحاصل في سوريا ليس فقط بين العلويين وبقية الأديان والطوائف وإنما وبكل أسف هو حالة عامة ويشمل أتباع لجميع تلك الأديان والطوائف، ما يجعل حل المسألة الطائفية أكثر أهمية وإلحاحا. كما يجعل حل هذه القضية شرطا لحل الحالة الإنسانية والوطنية بشكل عام وبالتالي شرطا للتغيير الديمقراطي الحقيقي.
لا أستطيع تصور الآثار التي قد تنجم عن تغيير سياسي في سوريا من دون توافق سياسي “فوق طائفي”، يستقطب، فيما عدا بقية الطوائف، الأغلبية من أبناء الطائفة العلوية. هذا التوافق يجب العمل لعقده الآن وبدون أي تأجيل، لأن البديل عنه سيكون إما بقاء النظام أو تغيير دموي يحمل ملامح التجربة العراقية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى