بدر الدين شننصفحات الناس

مجزرة معيشية جديدة

null

بدر الدين شنن

لم يكن مفاجئاً ، كما زعم البعض ، أن يقدم النظام السوري على رفع أ سعار المازوت والمحروقات الأخرى ، وأن يفرض على الطبقات الشعبية مزيداً من الانحدار في أحوالها المعيشية البائسة .
فهذا النظام ممثلاً بنائب الحكومة الاقتصادي ، قد وعد الشعب منذ أعوام ، عبر عشرات المحاضرات والتصريحات ، بالآلام الاجتماعية ، ثمناً لتطبيقات خيار اقتصاد السوق ، الذي من أولوياته وحسب طلبات البنك الدولي وا شتراطات الشراكة مع الاتحاد الأوربي والتجارة العالمية الحرة ، رفع الدعم الحكومي عن المواد المعيشية والمواد ذات الصلة بها ، وفي مقدمتها المحروقات المستخدمة في النقل وتوليد الطاقة والإنتاج الزراعي وغيره ، وكذلك خصخصة مؤسسات الدولة الإنتاجية والخدماتية ، بما في ذلك الصحة والتعليم على اختلاف مستوياته .

ولم تكن ذكية لعبة مهندسي الاقتصاد السياسي السوري المتمثلة بالزيادة التافهة ( 25 % ) على الرواتب والأجور ، لتغطية المجزرة المعيشية الجديدة ، بل كانت ا ستغباء ” الحكومة العطرية ” لذاتها ، قبل أن تستغبي الناس البسطاء . إذ أن المفارقة التي تكابد منها الأكثرية الساحقة من الشعب بين هذه الزيادة وبين تكاليف المعيشة مسافة كبيرة من الحرمانات والآلام ، تبلغ أضعافاً مضاعفة ، زادتها الزيادة في أ سعار المحروقات اضعافاً جديدة .

وحسب متطلبات اقتصاد السوق الداخلية والخارجية الآنفة الذكر ، لن يكون مفاجئاً ، إقدام النظام على المزيد من الإجراءات الإقتصادية السالبة لمقومات المعيشة الكريمة للذين يعيشون من بيع قوة عملهم اليدوي والذهني والمتقاعدين والعاطلين عن العمل . ماينطبق عليه تعبير المفاجأة ، إلى حد ما ، هو ردود فعل بعض القوى السياسية داخل النظام ومعظمها خارجه إزاء رفع الدعم عن المواد المعيشية وذات الصلة بها . إذ لم تتجاوز مستوى وصف تلك الإجراءات ب ” التخبط والارتجال .. وقرار غير شعبي خاطيء ” وأنها ” سياسة منحرفة تهدد الاستقرار الداخلي .. خطوات طائشة غير مسؤولة ” وعلى أنها ” نوعاً من المفاجأة وخيبة الأمل .. المواطن الذي لايملك إلاّ أجره سيبقى حتى النهاية مهزوماً ” . أي أن هذه القوى لم تقدم رفضاً حاسماً لحيثيات ومفاعيل رفع الدعم .. ولم تقدم البديل المنهجي العلمي لتوازن الاقتصاد مع الحفاظ على مستوى معيشي كريم للطبقات الشعبية ، ما يتيح هامشاً ، يفسر من خلاله النظام ردود فعل هذه القوى على أنها للإستهلاك الحزبي والمحلي ، وعلى أنها تستبطن الموافقة على رفع ” كابوس الدعم ” عن الاقتصاد ، وتتقاطع معه ، بشكل أو بآخر ، حول نمط اقتصادي جديد ” متحرر ” من مفاهيم وآليات ” الاقتصاد الشعبوي ” .

ما معناه ، أنه لم تعد كافية مواقف وسياسات مع أو ضد في حقل الاقتصاد ، خاصة وأن اقتصاد البلاد ليس ولايمكن أن يكون بمعزل عن محيطه الإقليمي والدولي وعن التفاعل والتاثر بمجريات وتطورات الأوضاع الاقتصادية العالمية . فالقائل مع بقاء الدعم يتعين عليه ، وخاصة من الأحزاب السياسية المعارضة ، أن يقدم برنامجاً اقتصادياً متكاملاً يبرر ا ستمرارية الدعم ، في بنية اقتصادية تضمن التوازن الاقتصادي والتوازن المعيشي . والقائل مع رفع الدعم ، يتعين عليه وخاصة من قبل الدولة صاحبة القرار ومن أحزابها الحليفة ، أن يقدم – على سبيل الجدل وليس الرجاء – برنامجاً نزيهاً يحقق اقتصاداً مزدهراً ، مبنياً على المصالح الوطنية عامة والشعبية خاصة ، ويوفر لأبناء الشعب الحياة المستقرة الكريمة .

بيد أن ما يمكن تسجيله في هذا السياق هو :

1 – أن إجراءات المساس بمصالح الطبقات الشعبية ، لم تمر بالبساطة التي توقعها أهل النظام . بل لم يفلح بعبع القمع في تطويع وتطبيع الناس مع رغبات سادة اقتصاد السوق ورواده ، فقد طفرت على السطح بعفوبة تامة ردود فعل مقابلة ، مرشحة للتزايد والإلتهاب في عدد من المدن السورية منها .. التهديد بوقف 2800 مخبز خاص عن العمل ، بل توقف عدد لابأس منها عن العمل فعلاً .. بروز غضب الفلاحين والمزارعين الذي بلغ حافة الانفجار في الريف ، خاصة وأن الموا سم الصيفية والشتوية المروية وفي مقدمتها حقول من القمح وكافة حقول القطن تحتاج إلى السقاية الأخيرة ليكتمل نضجها .. إضراب عدد من سائقي سيارات الأجرة في مدينة الرقة وفي مدن أخرى عن العمل ، احتجاجاً على تحميلهم ، من خلال فرض تسعيرا ت نقل تعسفية ، أعباء زيادة أسعار المحروقات ، ما دفع الحكومة إلى التراجع عن رفع الدعم عن مازوت الأفران ، والتعويض للفلاحين والمزارعين عن فارق السعر في الكميات التي يحتاجونها من المازوت لهذا الموسم على الأقل . وما أفضى ، وهذا هام جداً ، إلى كشف زيف ادعاءات النعيم في اقتصاد السوق .

2 – إن الذي يجري الآن من تفاقم في الأزمة المعيشية على المستوى العالمي ، الناتج عن هجوم احتكاري اقتصادي دولي تشترك فيه الاحتكارات في صناعة الأسلحة والبترول والمواد الغذائية ، في عملية تكاملية تجسد شروط العولمة الرأ سمالية للسيطرة على العالم ، قد كشف أن الدول الإمبريالية العظمى ، وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية ، لاتستخدم ما بحوزتها من قدرات وآليات فائقة التطور من التسلح الممتد من الفضاء إلى أعماق البحار وحسب ، وإنما تستخدم ايضاً أنظمة محلية وإقليمية ، تجيز ممارساتها الاستبدادية وارتباطاتها وعلاقاتها مع مراكز الإمبريالية العظمى ، أن تسمى بالفروع العضوية لتلك المراكز ، كما تستخدم من يدور في فضائها من نيازك سياسية وثقافية قميئة ، لتغطية وتسويغ ماترتكبه من جرائم بحق الإنسانية ، وتقدمه نفاقاً على أنه قدر الشعوب الأبدي ونهاية التاريخ .

وفي معمعان هذا الهجوم ، تتكشف أسرع من غيرها الحلقات ( الأنظمة ) الأكثر هشاشة وضعفاً وبنيوية وتتدحرج بسهولة أمام الهجوم العولمي الاستعماري غير المقدس ، وتبرهن بذلك عن أنها الأكثر رداءة في النماذج الفضائحية . ولعل الأنظمة العربية نتاج المراحل الاستبدادية الشمولية هي الأكثر مطابقة لمعايير تلك الهشاشة والضعف ، وأكثر ا ستجابة لاستهدافات الهجوم الاحتكاري العولمي . ولذا ، فليس غريباً أو مفاجئاً أن مصر وسوريا واليمن في مقدمة البلدان في الشرق الأوسط ، التي تتجلى فيها هذه النمذجة .

وعليه ، يتعين أن يفهم ما يجري في هذه البلدان من تعارض فظ ، يكاد يكون مطابقاً لديها جميعاً ، بين مزاعم التقدم الاقتصادي وتدهور الأوضاع المعيشية .. بين مزاعم الإنجازات الكبرى وبين سلب المواطنين مكتسابتهم الحياتية المتواضعة .. بين التمسك بالسيادة الوطنية وبين تخصيب الأوضاع الداخلية السياسية والاقتصادية لصالح الهيمنة الأجنبية . ففي وقت متزامن تم فيه رفع أ سعار المحروقات في كل من سوريا ومصر واليمن ، وتمت فيه زيادة متقاربة هزيلة للرواتب والأجور ( سوريا 25 % ) .. ( مصر 30 % ) .. ( اليمن 24,7 % ) . وا ستبيحت فيه حقوق الإنسان بالرغيف بعد أن ا ستبيحت حقوقه بالحرية .

3 – إن دخول احتكارات المواد الغذائية في ا ستثمار مناخات العولمة وتكاملها مع احتكارات صناعة الأسلحة والبترول ، قد كشف وجهاً قبيحاً آخر للهيمنة الرأ سمالية الدولية باسم العولمة ، وطرح في المستويات المحلية أ سئلة جديدة حول العولمة والأنظمة المنخرطة أو المؤهلة للانخراط فيها من طرف ، ومن طرف آخر طرح أ سئلة جديدة حول الخيارات السياسية والاجتماعية ، ما يسمح بالقول ، أن الخط العريض لحركة المعارضة تحت عنوان الديمقراطية ( حاف ) .. الديمقراطية هي الحل .., قد ا ستنفذ . وبات المشهد المعارض أمام عناوين ومضامين متعددة في التغيير الديمقراطي ، حيث قفزت المسألة الاجتماعية إلى النسق الأول الموازي للديمقراطية والوطنية . وغدا الخطاب السياسي مطالب بالتعاطي مع المسألة الاجتماعية المنفتحة على مصالح الطبقات الشعبية بالتوازي والاندماج الشفاف مع المسألة الديمقراطية والمسألة الوطنية . وهذا ما سوف ينعكس على بنية وآليات التحالفات عامة ، وما يستدعي أن ترفع الطبقات الشعبية صوتها ، إن حراكها النقابي المستقل أو في صفوف التحالفات العريضة أو في مواقعها السياسية التي توجدها بالضرورة ، للتعبير عن تمايز مصالحها الاجتماعية وبلورة خطابها السياسي .. لقد آن الأوان لسماع هذا الصوت في مختلف المواقع والصور ..

وحينها .. تبدأ الخطوات الجدية .. لإنهاء حالة بقاء الذين لايعيشون إلاّ من رواتبهم .. أو في جحيم حقل البطالة .. حتى النهاية مهزومين .

الحوار المتمدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى