صفحات ثقافية

الكتاب الأسود

null
احمد بزون
على مثقفي البلاط العرب أن يعلنوا اليوم، قبل غدٍ، تبرؤهم من السلاطين والملوك والأمراء والطغاة، الذين يتهاوون واحداً بعد الآخر. فتجربة جابر عصفور في انسحابه المتأخر قبل أسبوعين من الحكومة المهزومة لم تكن موفقة، وإعلانه اليوم أنه يبحث عن وسيلة لرد جائزة القذافي، التي تهالك لنيلها العام الماضي، جاء باهتاً، لأن «ملهمه» يعوم فوق بركة دماء حارة.
أيها المثقفون العرب، لنشكر جابر عصفور لكونه قدم مثالاً ساطعاً لكل ذي صلة بالأمر، فلا ينتظروا حتى يسقط سلاطين أحلامهم تحت الأقدام، فلن يجدوا بعدئذ آذاناً لأصواتهم، ولا عيوناً تقرأ إرهاصاتهم وكوابيسهم السوداء. وإذا كان عصفور بليداً، إلى درجة أنه لم يلتقط رسالة الكاتب الأسباني خوان غوتسيلو الذي رفض «جائزة القذافي العالمية للآداب» لأنها تحمل اسم دكتاتور، ولأنه اختار أن يكون منسجماً مع قناعاته في مناصرة العدل ورفض أنظمة الاستبداد. ثم لم ينتبه عصفور، مرة أخرى، لاستشراف غوتسيلو بأن أجنحة ثورة تونس سوف تحط في مصر.
وما دمت أقارب الكلام على جائزة القذافي، في الوقت الذي يرتكب فيه الأخير أبشع المجازر، لا أريد الانعطاف نحو مقرر الجائزة، الذي يدفن اليوم صوته بخجله، أعني صلاح فضل، ولا إلى المثقفين العرب الذين قدسوا «الكتاب الأخضر»، إذ الأجدر أن نتذكر اليوم أشهر الكتّاب الليبيين، الذي اختار أن يروي الصحراء الليبية، التي اختار أبطال رواياته منها، بسيل إبداعاته الذي أراده أن يتدفق من نوافذ بيته الفخم المتربع على جبل أخضر في الريف السويسري، قبل أن ننسى وينسى أنه استمد رفاهية قلمه، بالطبع، من عائدات الكتاب الأخضر، الذي ختم به القذافي كل الكتب، وأقفل به عقول كل المثقفين الذين تناعسوا في فيء خيمته.
نعم ننتظر بيان ابراهيم الكوني المتأخر، لنتسلى أكثر، ونتدرب باكراً على فهم قدرة كاتب على أن يتربع على ستين كتاباً، تتحول في لحظة من اللحظات إلى خازوق الانتماء إلى سلطة. نعم ننتظر كيف يتفاجأ الكاتب، الحنون على أبناء الصحراء، بجيوبه وهي ترشح دماً، حتى لا نقول إنه يمكن أن يستفيق ذات ليلة على كابوس يرى فيه تلة كتبه جبل ندم.
يمكن للكوني، رغم تعاونه الواضح مع القذافي، وقد ختم هذا التعاون بترؤس أعز جائزة على قلب القائد وملك الملوك، كونها تمسح بصفتها الأدبية كل «مآثره» الدموية… يمكنه أن يقطع أواصر علاقته بالطاغية، قبل أن يشمل الصحراويون كتبه بعواصفهم الرملية التي سوف تدفن تحت معاطفها وجوهاً ليبية كثيرة. يمكنه أن يستلحق نفسه فيعلن «فجاءته» بدموية القذافي، وبقدرته على تحويل «الثورة» التي ولّدها ذات يوم إلى نقمة عليه، وتحويل الكتاب الأخضر إلى أسود.
تحضرنا هنا جملة قالها الكوني قبل شهرين، وهو يتسلم جائزة الرواية العربية في القاهرة، وهي «أن الابداع ما هو إلا خطيئة لأنه انتحال سافر لسلطة الرب». تلك الخطيئة يطلب غفراناً عنها من الخالق يوم الحساب، فمتى يطلب الغفران من خلق ليبيا؟
السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى