صفحات العالم

العراق يُفرّغ من مسيحييه: الآني الذي يخفي جبلاً

نهلة الشهال
اللمحة الطريفة الوحيدة في الكارثة الجارية مصدرها الأميركان الذين يصرحون كالتالي: «الإرهابيون يحاولون إثارة فتنة بين العراقيين من أجل تقويض التقدم الحاصل» (بيان السفارة الأميركية في بغداد). فعدا اللغة الخشبية لهذا الموقف (من هم الإرهابيون هؤلاء في هذه الواقعة تحديداً؟)، وعدا وقوعه خارج الصدد، (إذ ليس الأمر فتنة بين العراقيين هكذا على العموم)، فلبّه هو القول في نهاية الأمر أنهم هم – الأميركان وخطتهم السياسية – المستهدفون. هم وتقدمهم «الحاصل»! لكن التندر هنا من قلة الذوق، ووقوع نصوص كهذه في مجال التحليل السيمانتيكي يخص الدارسين.
يكاد العراق يفرغ من مسيحييه، وهم سكان البلاد الأصليون كما يفترض بالجميع أن يعرف… كما فلسطين، بلد يسوع الناصري، تفرغ رويداً من مسيحييها، وإن كان النزف الفلسطيني أبطأ ويجري بهدوء وبفعل عوامل متعددة.
يطرح الأمر قضية ملحة، تتجاوز المسيحيين إلى كل الأقليات، عرقية كانت أو دينية: لا يمكن بناء أي تصور عن المستقبل، المواطنة والدولة والإطار الإقليمي… إلى آخر العناوين التي تخص كل البرامج السياسية، من دون التصدي لمسألة الأقليات، والأساس الذي يضمن مساواتهم التامة، وكذلك الآليات. قد يشير البعض وعن حق، الى أننا اليوم لسنا بصدد بناء تصورات وبرامج كهذه، فنحن نبحث عن كيفية وقف الانهيار المتسارع: تفكك المجتمعات، والحروب الأهلية المتفجرة أو الكامنة، وضياع كل المرتكزات المألوفة، وفي كل الميادين. ولكن هناك ما يبرر الاعتقاد القوي بأن مهمة وقف الانهيار غير قابلة للتحقق من دون بلورة وطرح ذلك التصور المستقبلي الشامل. أي أنها لا يمكن أن تنجح بواسطة رد الفعل على عملية التحلل الجارية، وتوسل تدابير مؤقتة أو داهمة. فالحالة الموصوفة هي من الكبر والعمق بحيث أن المطروح فعلياً هو مهمة تأسيسية، فكرياً وسياسياً.  ولعل المباشرة بإعادة التأسيس وحدها تتمكن من التقاط نقطة بدء ما تسمح بالتماسك وسط المعمعة الضاربة. ثم لا يمكن تصور حل تاريخي للمسألة الفلسطينية من دون ذلك. فخلا «رمي اليهود في البحر»، لا بد من الإقرار بأن تلك المسألة باتت فلسطينية/يهودية، وأن هزيمة إسرائيل لن تُنجز عسكرياً فحسب، بل لا مناص من بلورة اقتراح لكيفية استيعاب هؤلاء المهزومين (يوم يتحقق ذلك، ولكن من أجل تحقيق ذلك، وهو الأهم). وربما ينبغي الاكتفاء هاهنا بتسجيل ملامح «الجبل» والعودة إلى الآني.
ولكن قبل ذلك، لا بد من القول أيضا إن هذا التطلب بتصور شامل وحضاري يشمل بالطبع تلك الأقلية «المتفرعنة» التي باتها الأكراد، مخافة أن يؤدي سلوكهم الحالي إلى توليد مشاعر عامة من الحقد عليهم بوصفهم أكراداً، كما هي في الوعي العام السائد استحالة الكلام اليوم عن اليهود العرب كشيء مختلف (أو يمكن أن يكون مختلفاً) عن إسرائيل والصهيونية. لماذا النعت القاسي؟ لأن ما يُعمل له كردياً، حتى في ظل الظرف السياسي الملائم الذي نشأ بعد احتلال العراق، هو الوصول إلى اكبر هيمنة ممكنة على العراق، أي اضطهاد أقلية لأكثرية، وليس طموح دولة كردستان كلها – وهي حق، لكنها تشمل أقساما من إيران وتركيا وسورية علاوة على العراق، ودون ذلك كل شيء، ودونه أيضا التناقضات الكردية بين تلك المكونات، وهي ليست بالقليلة.
والأكراد هم اليوم المتهمون الأول في عملية ترويع المسيحيين العراقيين، وآخر فصولها ما يجري في الموصل من قتل ونهب، أدى حتى اللحظة إلى مغادرة أكثر من ألف وخمسمائة عائلة لمنازلها، واللجوء إلى الأديرة تحت حماية الشرطة (يا للذل ويا للبشاعة)، والاستعداد للرحيل إلى بلدان الجوار كمحطة نحو المنفى الأميركي البعيد. أما المتهم الآخر فالقاعدة، حيث اتخذ بعض ترويع المسيحيين في أحياء من بغداد – فرغت منهم هي الأخرى – طابع الدعوة إلى اعتناق الإسلام أو دفع الجزية! من المفرح أن هناك إجماعا على إدانة الوقائع، يبدأ من لدى السيستاني الذي شجب واستنكر، وينتهي عند منظمة المؤتمر الإسلامي التي وصفتها بـ»الجريمة غير المسبوقة».
يتبرأ الطرفان بقوة من التهمة، وهذه بداية ايجابية لأنها تؤشر إلى مبلغ فظاعتها. ولكن ثمة من يقتل ويروع! ويصادف أن ذلك يحدث على نطاق واسع في الموصل قبيل انطلاق انتخابات مجالس المحافظات، وهي في غاية الأهمية، لأنها بمثابة الحكومات المحلية. يقول المطران لويس ساكو، رئيس أساقفة الكلدان في كركوك، إن الترويع يحدث «لأهداف سياسية، ولإجبار المسيحيين على التحالف مع قوى بعينها» في تلك الانتخابات.  ومعلوم أن ما فاقم المشكلة هو الصراع على قانون انتخابات المحافظات الذي ما زال عالقا للنقاش في البرلمان العراقي، حيث دفع الطرف الكردي باتجاه حذف المادة 50 المتعلقة بحق الأقليات في مقاعد مخصصة في مجالس المحافظات، بسبب خلاف حول الفقرات الخاصة بإجراء الانتخابات في محافظة كركوك. ومن المهم بالطبع ألاّ يلاقي المطران ساكو مصير سلفه، وهو كان شخصية مرموقة، مناهضة للاحتلال ولضم كركوك إلى كردستان. وقد قتل بوحشية.
تعلن الحكومة العراقية عن امتلاكها لمعلومات قيمة، وعن قدرتها على إعلان نتائج تحقيقاتها خلال أيام. لعله ينبغي البدء من هنا ليمكن تهدئة روع المسيحيين العراقيين ووقف تلك المأساة… ولتتمكن تلك الحكومة من تسجيل منجز ما لنفسها علاوة على منح ولو لحظة من صدقية للكلام الأميركي، الأشبه بالاسطوانة المشروخة، عن التقدم الحاصل. والاهم من هذا وذاك، المعالجة… كي يتوقف بتر الأعضاء. فكل أقلية كائنة من كانت، تُضطهد وتدفع إلى المغادرة، بالهجرة أو الانسلاخ، تمثل عملية بتر للجسم الواحد. ولا يمكن لجسم مبتور أن يستعيد عافيته دون ترميم البتر… هذا ما قالته يوماً ابنتي الشابة وهي تبكي بحرقة بعدما شاهدت الفيلم الرائع «إنسَ بغداد»، الذي يحكي سيرة أربعة يهود عراقيين لا يحبون شيئاً كحبهم للعراق، ولا يناهضون شيئا كمناهضتهم للصهيونية، وقد استمروا حتى شيخوختهم يبكون رحيلهم عن بلدهم ويحلمون بالعودة اليه، وهم كانوا قد غادروا العراق تحت وطأة حوادث ترويع ساهمت في وقوعها منظمات صهيونية بتواطؤ مع السلطات القائمة آنذاك. فكيف إذا كان البتر متواصلاً؟ ولا يخضع لظروف إشكالية دولية معقدة كتلك التي صاحبت إنشاء إسرائيل!

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى