صفحات ثقافية

عن “عمليات تجميل” الكتابات وتشذيبها

null
راشيل عيد
يتخلى بعض الشعراء والكتاب عن بعض نصوص كتبوها سابقاً لأسباب سياسية او ايديولوجية او جمالية. السؤال هل يحق للكاتب او الشاعر ان يتخلى عن نص كتبه، وكيف يمكن المرء التخلي عن “ابنه النص”؟ وهل يمكنه أن يتخلى عنه طالما انه انوجد على ورق؟ وهل “عمليات التجميل” للنصوص مفيدة أم ان النصوص يجب ان تبقى كما هي لأنها تعبّر عن مرحلة من المراحل التي عاشها كاتبها؟
هدفنا التأمل في مكنون “تجميل” الشعر والرواية والابحاث، الذي يقابله في الضفة الأخرى التشذيب والحذف والاعدام وغيرها من الطرق التي تتبعها السلطات الدينية والسياسية. ولئن كان بعض الشعراء والروائيين يلجأ إلى تعديلات على نصوصهم قبل نشرها، فالسلطات الدينية أو التوتاليتارية تعمد الى بتر النصوص التي لا تتوافق مع سياساتها أو قد تمنعها وتحرقها. يختلف الأمر مع نظرة الأديب الى نصه، فمرات قد يحرق كتبه لأسباب وجودية، أو يغيّر بعضها لأسباب جمالية، وخصوصاً “الكتاب الاول”، الذي قال عنه الشاعر صلاح عبد الصبور إننا نستعجل إصداره، ثم نسعى لاحقا الى التخلص منه. فورطة البدايات نجدها لدى عدد لافت من الشعراء، حيث يخفي بعضهم كتابه الأول أو يعدّل فيه اكثر من اللازم.
يجري الكتاب والشعراء تعديلات على نصوصهم قبل نشرها وبعد نشرها. ثمة فئة تختار “الجراح الأدبي”، اذ جاز التعبير، لتجميل نصوصها فتكون عند حسن ظنّ القراء أو المريدين. بعضهم يكتب النص اكثر مرة ويحتفظ بمسوّداته كلها، وقد ينشر نصه ثم تتاح له الفرصة لينشره من جديد، وهذا قد يدفعه إلى إدخال تعديلات عليه، بعد قراءته الملاحظات التي سمعها أو قرأها اثر نشر النص في طبعته الأولى. نذكر هنا أن ت. س. اليوت عندما عرض مخطوطة قصيدته “الأرض اليباب” على صديقه الشاعر عزرا باوند، بادر هذا الأخير الى حذف نصف القصيدة، وبفضل هذا الحذف بلغت القصيدة هذه الدرجة من الشهرة والرصانة. كتب الروائي البيروفي ماريو فرغاس يوسا ان فوكنر كتب النسخة الأولى من روايته “المحراب” عام 1929. وشرح في مقدمة الطبعة الثانية من الرواية (1932) أن فكرة الكتاب بدت له دائما “مبتذلة”، إذ انه تخيلها لهدف وحيد هو ربح المال. وتمثلت طريقته في “ابتكار أفظع حكاية يمكن تخيلها”، وهو أمر يمكّن احد سكان الميسيسيبي من أن يأخذه على أنه موضوع رائج. وقد أعلمه ناشره، الذي أثار النص رهبته، أنه لن ينشر مثل ذلك الكتاب، فلو فعل ذلك لزُجّ بكليهما في السجن. في ذلك الوقت، كتب فوكنر رواية “حينما أرقد محتضراً”، بينما كان يعمل وقّاداً في باخرة. وبعد ظهور هذا الكتاب، تلقى ذات يوم التجارب المطبعية لـروايته “المحراب” التي قرر ناشره في النهاية نشرها. وعند إعادة قراءة الرواية، فكّر فوكنر أنه لا يمكن تقديمها مثلما هي، فحذف منها الكثير من المقاطع وأجرى عليها بعض التعديلات، بحيث أن النسخة التي ظهرت عام 1931 كانت تختلف اختلافا جذرياً عن الأصل. لم تكن النسخة الثانية أقل “فظاعة” من النسخة الأولى، فقد أًبقي على فظاعات الحكاية في الاثنتين، باستثناء الميل الخفي الى المحارم بين هوراس ونارسيسا بنبو، وبين هوراس وربيبته ليتل بيل، الذي كان في النسخة الأولى أكثر صراحة. يتمثل الاختلاف الرئيسي بين النسختين في أن هوراس بنبو كان هو محور الأحداث في النسخة الأولى، في حين أن دور كل من بوبيي وتمبل درايك تنامى في النسخة الجديدة، بما جعل دور المحامي النزيه والرعديد ثانويا. أما في ما يتعلق ببنية الرواية، فقد كانت النسخة الأصلية أكثر وضوحا على رغم تداخلها الزمني، ذلك أن هوراس كان هو وجهة النظر التي يتم من خلالها سرد كامل الحكاية تقريبا، في حين أن وجهة نظر الحكاية في النسخة النهائية تتغير باستمرار، من فصل الى فصل، وأحيانا حتى في داخل الفقرة ذاتها.
في المقابل هناك فئة تعمد الى تعديل نصوصها الابداعية بعد زمن على نشرها. لا تعمد الى التنقيح، بل تسمّي ما تفعله “صوغاً جديداً”، او تضع عناوين جديدة. فالروائي الالباني اسماعيل كاداريه بدّل عناوين بعض رواياته، مما اوقع القراء في الوهم أحياناً. روايته المعروفة “الحصن” صدرت بهذا العنوان في الطبعة الألبانية الأولى وترجمت إلى العربية بالعنوان ذاته أيضاً، ثم صدرت في باريس بعنوان “طبول المطر” وترجمت بهذا العنوان إلى العربية. أما الآن فتصدر الرواية بعنوان جديد هو “الحصار”. أجرى كاداريه تعديلات على روايته “الشتاء العظيم” بعد انتحار أو اغتيال محمد شيخو(احد قادة النظام) في 1981 حتى تكون الرواية لمصلحة الرئيس أنور خوجا فقط، كما أجرى لاحقاً تعديلات أو “رتوشات” على رواياته التي كتبها خلال الحكم الشيوعي لألبانيا لكي تتفق أكثر مع الصورة الجديدة عنه كمعارض للحكم الشيوعي في بلاده بعد لجوئه إلى باريس في خريف 1990.
في مطلع الخمسينات أصدر ادونيس(علي أحمد سعيد) قصيدته “قالت الأرض” وقد اهداها الى الزعيم انطون سعادة منها هذا البيت: “قيل: كون يُبنى، فقلت: بلاد/ جُمعت كلّها فكانت سعادة!”. يقول ادونيس أنه لقي بسبب هذه القصيدة محاربة شديدة في أوساط اليسار الماركسي – الشيوعي، وفي الأوساط القومية العربية على حد سواء. الأولى لأنها رأت أن القصيدة قومية. والثانية لأن القصيدة بدت لها “سورية اقليمية”، وورد في مقدمة هذا الديوان التي كتبها أحد قياديي الحزب يومذاك الأديب سعيد تقي الدين: “ان العقيدة القومية الاجتماعية، عقيدة القوميين السوريين، وادونيس من شعرائها، هي القوة التي تلتزم النظام والواجب في حرية تحفز الموهوب ان يحقق نفسه”. نلمح في قصيدة ادونيس هذه معالم تموزيته الأولى التي ستتكامل مع تشكل القصيدة التموزية (الانبعاثية) في الشعر العربي الحديث. وإذا كانت قصيدة “الأرض اليباب” لإليوت المصدر الأساسي في تموزية السياب وفي قصيدته التموزية “أنشودة المطر”، فإن تموزية أدونيس تعود إلى تأثره بكتاب سعادة “الصراع الفكري في الأدب السوري” الذي دعا فيه الشعراء السوريين (القوميين) إلى إيجاد موصل “الاستمرار الفلسفي بين القديم السوري والجديد السوري القومي الاجتماعي”. يبدو ان ادونيس استيقظ لاحقاً من سكرة “الحلم القومي” فأصبحت كلمة “دم” في الطبعة الأولى من ديوان “قالت الارض”، “وردة” في الطبعة الثانية، واذا كان الكتاب بنسخته الأولى نفد من الاسواق فقد عمدت “دار الجديد” الى اصدار نسخة “طبق الاصل” عن الأولى، وقد تغيرت بعض الكلمات بتغير ايديولوجيا ادونيس. وتحمل بعض طبعات دواوين أدونيس الاخرى عنوان “صياغة نهائية”!
ان نقرأ طبعة مزيدة ومنقحة، فهذه من البديهيات في أعراف النشر، لكن أن تسمّى “صياغة نهائية” فهي تصبح سؤالا لا جواب له، او سؤالاً يفتح الباب على اسئلة اخرى. فهل ثمة صوغ نهائي للقصيدة؟ وما منطلق هذا الصوغ؟ يأخذنا شعار “صياغة نهائية” الى “لانهائية القصيدة”، على نحو ما هو كتاب “الف ليلة وليلة” الذي لم ينته، وسحر بورخيس والكثير من الكتّاب العالميين. علينا هنا ان نميز بين “النص اللانهائي” و”النص الميت” قبل ولادته. يعتبر ادونيس ان ما يفعله في قصائده هو نوع من التحسين، وليس تغييرا أساسيا. وثمة دراسة انجزها الناقد حاتم الصكر تحت عنوان “صياغات أدونيس النهائية”، وفيها تتبع أعمال أدونيس الكاملة وقارن النصوص بين صيغتها الأولى وصيغتها النهائية، ولاحظ أن أدونيس ينقح، باستمرار، قصائده ودواوينه قبل دفعها الى النشر أو إعادة طباعتها. ويقول أدونيس “إن الحذف والتنقيح يتمّان لمنح النص مزيداً من التوهج. من التعمق والتأمل” ولا يكتفي الصكر برأي أدونيس هذا، بل يقدم اجتهاده الخاص حيث يرى أن الشاعر “لا يفعل ما يفعله استجابة لدوافع فنية فقط بل يستجيب لضغوط جمالية، تكوّنها تصوراته عن تلقي نصوصه وفق المتغيرات.

أعراس
يقول محمود درويش في احدى مقابلاته: “عندما أنظر إلى الوراء لا أنظر برضا أبداً وإلا لما تعبت إلى هذا الحد، أقدر على نقد ذاتي وعلى اكتشاف ما ليس شعرياً في شعري أو هو لمصلحة خطاب آخر، أقدر أيضاً على إعادة النظر في كل نص، ولو أتيح لي الآن أن أعيد كتابة كتبي وهي حوالى عشرين كتاباً فقد لا أنشر منها سوى خمسة أو ستة فقط. لكن لا أحد يتحكم في عمره، كل عمر له تعبيره وقدراته”. حين يقارن القارئ الصيغة الأولى لقصيدة محمود درويش “نشيد إلى الأخضر” التي ظهرت، ابتداءً في مجموعة “أعراس” بصياغتها التي ظهرت في طبعات المجموعة نفسها اللاحقة، يلحظ خلو القصيدة من الأسطر الآتية: “وأنا أكتب شعراً، أي: أموت الآن، فلتذهب أصول الشعر ليتضح الخنجر ولينكشف الرمز: الجماهير هي الطائر والأنظمة الآن تسمّى قتلة”. كتب محمود درويش مقدمةً لأعماله الكاملة الصادرة عام 1987، أتى فيها على ظاهرة الحذف في أشعاره، ومما ذهب إليه: “لا أخجل من طفولتي الشعرية، ولكن الطفولة شيء، والمراهقة شيء آخر، وهذا هو المبرر الوحيد لإقدامي على قطع بعض أجزاء من جسدي الشعري… كل شاعر يرتكب الكثير من الحماقات”. لقد كان تخليه عن مجموعته الأولى “عصافير بلا أجنحة” يعود الى اسباب فنية جمالية بحسب الناقد عادل الاسطة، فيما حذف أكثر قصائد “أوراق الزيتون” لأسباب جمالية وعقيدية سياسية، وأخذ في فترة لاحقة يتخلص من القصائد التي يكون فيها للشعار السياسي حضور بارز. هكذا استبدل درويش مفردات بأخرى، كما في “مديح الظل العالي”، فقوله في صياغة النص الأول: “الله أكبر/ هذه آياتنا/ باسم الفدائي الذي خلقا/ من جزمة أفقاً”، غدا في الصياغة الثانية: “الله أكبر/ هذه آياتنا/ باسم الفدائي الذي خلقا/ من جرحه شفقا”. وقول درويش في قصيدة “أحد عشر كوكبا”: “يتلو علينا معاهدة الصلح يا ملك الاحتضار”  و”فلماذا تطيل التفاوض يا ملك الاحتضار”، غدا في الصياغة الثانية: “يتلو معاهدة اليأس يا ملك الاحتضار” و”فلماذا تطيل النهاية يا ملك الاحتضار”. وهذه اشارة الى ما تؤول اليه “شبحية” الايديولوجيا في الشعر، فهي تجعله يغرق في الشعارات والزمن الذي انتج فيه، بل تسوّره في اطار ضيق دون الأخذ في الإعتبار ان قيمة الشعر تكمن في كونيته قبل كل شيء، وليس في توجهه الى فئة محددة.

الشعر الجاهلي
لنقل ان الزمن السياسي وتبدلاته جعلا درويش يغير الكثير من قصائده، وخصوصا تلك التي تتداخل فيها السياسة بالشعر. في المقابل ثمة كتب كانت ضحية السياسية والسلطوية والرقابية. فعام 1926، أصدر طه حسين كتابه “في الشعر الجاهلي”، الذي لم يكن سوى كتاب أدبي نقدي، يتضمن خلاصة آرائه في الشعر الجاهلي وشعر صدر الإسلام، وهي آراء كوّنها بعد دراسة 30 عاماً فضلاً عن اتجاهات استحسنها من بعض المستشرقين الأوروبيين من دارسي الأدب العربي. فرمى الشعر الجاهلي بأنه “منحول” أي ليس أصيلاً، وإنما وضع بعد الإسلام، مستشهداً على تلك الفرضية بلغة هذا الشعر التي تختلف تماماً عن لغة أهل الجاهلية، حيث لم يطمئن طه حسين سوى لقليل من قصائد الجاهلية. طالب “الأزهر” بمنع الكتاب واستتابة طه حسين، وانتهى الأمر بإحالة طه حسين على النيابة العامة، فصودر كتاب “الشعر الجاهلي”، واضطر طه حسين إلى الاعتذار في صفحاته وسمح له بتنقيحه، وإعادة إصداره، بعد حذف بعض سطوره مع تغيير عنوانه الذي أصبح “في الادب الجاهلي”.
سياسة التشذيب وتغييب النصوص قديمة. فقد اصدرت دور النشر طبعات جديدة منقّحة لكتب التراث، بترت كل ما لا يتلاءم مع توجهات “القوى الظلامية” في المجتمعات العربية، وقد شمل الحذف حتى المؤلفات الادبية الشعبية ككتاب “الف ليلة وليلة”، والسيرة النبوية وغيرهما من الكتب العابرة للقارات. نقرأ في أحوال تجميل الكتب وتشويهها ونعرف جيداً ان معظم الكتب الابداعية العربية تحتاج الى تجميل، او صياغات أخرى، وثمة جانب من الكتب يحتاج الى الحرية، اي منع التشذيب الذي يقتل المعنى. ومن هذا المنطلق يبدو ان النص العربي في حاجة الى ثورة في اتجاهين يلتقيان في ركن واحد هو الحرية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى