صفحات العالم

حيرة أمريكية

ميشيل كيلو
أجرت القناة الرابعة البريطانية حديثاً مع وزير خارجية الولايات المتحدة الأسبق هنري كيسنغر الذي وصفته ب”صاحب النهج الذي رسم سياسة بلاده في الشرق الأوسط طوال السنوات الثلاثين الماضية” . أما موضوع الحوار، فكان الحدث المصري والتطورات المحتملة التي يمكن أن تترتب عليه، وما إذا كانت أمريكا قد ارتكبت أخطاء سياسية أفضت إلى التخلي عن الرئيس مبارك ونظامه، أو ما إذا كانت مهيأة اليوم لفهم ما وقع، ولاحتواء آثاره الخطيرة التي أقر الوزير الأسبق أنها ستشمل العالم بأسره، وقد تشكل تغييراً جذرياً في شكله وأوضاعه السياسية، كما عرفناها منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، في حال تكونت حكومة إسلامية معادية للغرب في القاهرة .
ومع أن الرجل يدافع عن سياسة بلاده، ويمتدح مواقف إدارتها من الأحداث الأخيرة في المنطقة عموماً، ومصر خصوصاً، فإنه يناقش السبل المختلفة للإبقاء على النفوذ الأمريكي فاعلاً ومقبولاً بالنسبة إلى الأطراف المتصارعة على الجانبين العربي و”الإسرائيلي”، ويقول إن هناك ممكنات عديدة قد تترتب على التغيير الحاصل، وإن بعضها يضمر مشتركات مع المصالح والخيارات الأمريكية، فلا بد أن تشجعه واشنطن، من دون أن يساورها اليأس من قدرتها على التأثير في التطورات المستقبلية كيفما اتجهت، مع أنها يجب أن تركز على بلورة نهج سياسي معتدل وعلماني في مصر، تعتمده أساساً للتعامل مع العرب خلال السنوات المقبلة .
لا أعتقد أنني أهملت شيئاً مهماً قاله كيسنغر في هذا التلخيص الموجز، ولا أظن أن من يقرأ هذا الموجز ستفوته ملاحظة الحيرة التي تنتاب الأمريكيين -الذين يعتبر كيسنغر من خيرة مفكريهم الاستراتيجيين- بسبب تطورات الواقع العربي التي بدأت قبل أشهر قليلة، ويقول الوزير الأمريكي إن أحداً لا يعرف إلى أين ستقود، ما يضع واشنطن أمام أمرين: الخوف من أن تفلت الأمور من يدها تماماً وتنقلب عليها من جهة، والوقت الكافي لترتيب أوراقها وتجديد حساباتها، وتالياً ممارسة النفوذ والتأثير المطلوبين للاحتفاظ بمكانة مهمة في منطقة فائقة الأهمية والحساسية من جهة أخرى، علماً أن الرئيس أوباما كان قد قال بحق إن ما يحدث هنا سيلهم ويغير العالم بأسره .
لن أعود كثيراً إلى الوراء، من أجل شرح مظاهر الحيرة والقلق في السياسة الأمريكية، وهي ليست بنت الأحداث العربية الأخيرة . يكفي التذكير بأن أمريكا دخلت العراق لأسباب بينها محاربة الإرهاب، داخله وخارجه، وأن تصريحاتها العلنية جعلت الفوضى الخلاقة هدفاً لها، من دون أن تلاحظ وجود صلة قوية بين نشوب وانتشار فوضى كهذه وصعود الإرهاب وارتفاع أسهمه في المنطقة . إلى هذا، استخدمت أمريكا العنف للسيطرة على أحد مفاتيح المنطقة الاستراتيجية، الذي هو العراق، ولإسقاط نظامه باعتباره شرط تهدئته وتحويله إلى رأس جسر يمكن أن تستخدمه في أي وقت ضد من تتطلب مصالحها ضربهم أو تطويعهم أو تأديبهم أو إسقاطهم . لم يكن في منظور أمريكا أي مكان لأي إصلاح أو تحول سياسي كالذي وقع في تونس ومصر، فهل كانت تعرف حقائق ووقائع المنطقة التي انخرطت فيها وشنت حربا على شعب من أمتها، ووصلت إلى حد أنها تتعهد منذ بعض الوقت بمغادرة العراق هذا العام، بعد أن قال مسؤولون كبار فيها إن جيشها سيبقى فيه إلى الأبد، كما بقي منذ الحرب العالمية الثانية (أي منذ 1945) في ألمانيا واليابان؟ وعلى أية أسس بنت استراتيجيتها فيها وحيالها، بعد أن شرعت النظم المحسوبة عليها والصديقة لها في الانهيار والتهاوي تحت وطأة الضغوط الشعبية والمجتمعية، في تونس ومصر وخارجهما؟ بينما أعلنت أن محاربة الإرهاب هدف طويل الأمد لوجودها فيها، وها هي تجد نفسها في مواجهة مجتمعات تطالب بالديمقراطية . ينكر كيسنغر ذلك، ويقر فقط بأنها تعادي النظام الذي يحكمها، ولا تعرف بعد إلى أين ستذهب وماذا تريد، فقد استبعدت قيامها في أي مدى منظور، وتمثل في حال نجحت في توطيد أقدامها تحدياً أخطر بكثير من أي تحد إرهابي أو متطرف لها، لأنها ستضع العرب من جديد داخل عصر من التجدّد القومي والتنموي والنهضوي لا تريده واشنطن قطعاً، بما أن مشكلاتها، ومشكلات “إسرائيل” معه، ستكون أضعاف مشكلاتهما مع أي نظام آخر يمكن أن يقوم في الوطن العربي، بما في ذلك النظم المتطرفة . تريد أمريكا و”إسرائيل” عرباً متفرقين مشتتين متناحرين، ولن تقبلا بهم بأي حال موحدين متوافقين متفاعلين بإيجابية بعضهم مع بعض، لهم كلمة واحدة أو متقاربة تجاه الآخرين: هنا وفي العالم .
بين أصولية لم تهزم، وفوضى تؤذي أمريكا قبل غيرها، وحركة شعبية ومجتمعية كاسحة تجتاح منطقة لطالما عملت أمريكا من أجل استقرار نظمها واستمرار أوضاعها الراهنة، المرفوضة شعبياً، تبدو السياسة الأمريكية وكأنها فقدت القدرة على فهم ما يجري، وعلى التفاعل الصحيح معه، وتظهر بمظهر العاجز عن إيجاد سبل تكيف قد تمكنها من انتهاج سياسات منسجمة، متماسكة وبعيدة المدى حياله، لا تتغير مع كل هبة ريح أو حدث مباغت، كما تغيرت أربع مرات على سبيل المثال في أفغانستان، حيث يوجد لها قرابة ثمانين ألف جندي وتخوض حرباً منذ عشرة أعوام، ويخال المرء أنها تمارس لعبة كمبيوتر وليس سياسة كونية معرّفة بوضوح ومندمجة، تليق بقوة عظمى، فكيف إن كانت تزعم أنها القوة العظمى الوحيدة، وتغيرت خلال الأسابيع القليلة الماضية من النقيض إلى النقيض في بعض بلدان الوطن العربي، حيث كانت تحمي نظمها بحجة محاربة الإرهاب، وها هي اليوم تتملق مجتمعاتها دون أن تقول شيئاً حول الإرهاب .
أصل من كل ما سبق إلى نتيجة أعتقد أنني أراها مهمة، تتصل بنا وبأوضاعنا العامة خلال الحقبة المقبلة، هي أثر هذا التخبط الأمريكي علينا، الذي يطرح الأسئلة الآتية: هل ستبدأ أمريكا بالعمل على حصر الحراك العربي داخل حدود كل قطر، لمنع خروجه إلى المدى العربي الفسيح وتحوله إلى حركة قومية جديدة حاملها هذه المرة المجتمع المدني وليس العسكر أو الحزب الواحد؟ وهل ستعمل، بالتوازي مع ذلك، على تحويل الثورة على النظام إلى ثورة على الرئيس وأسرته، فيكون هدفها إنقاذ ما يمكن إنقاذه من النظام “القديم”، تمهيداً لاحتواء التغيير واستعادة الأمر الذي كان قائماً قبل التمرد عليه، ولكن في نسخة جديدة ومنقحة، باعتبار ذلك الوسيلة الأفضل التي يمكن بمعونتها تفادي الحيرة والتخبط، والتعامل مع المستجدات المتحدية وفق أسس أمريكية المركز، يمكن بوساطتها إعادة العلاقة مع مصر، ومن ثم مع العرب، إلى ما كانت عليه في المفاصل الرئيسة، بما في ذلك حيال “إسرائيل”، فأمريكا لا تحتمل وجود كيان بحجم الأمة العربية في منقطة استراتيجية هائلة الأهمية بالنسبة لمجمل مصالح ونظم وسياسات العالم، هي الوطن العربي؟ أخيراً، هل ستحاصر أمريكا المارد العائد إلى دوره ووعيه عبر محاور إقليمية جديدة، تتعاون أو لا تتعاون مع “إسرائيل”، وإنما تنسق معها عبر واشنطن وتحت إشرافها، لدرء الخطر العربي المتجدد؟
هذه الأسئلة لا بد أن يرد عليها عربياً من خارج أي نسق خارجي: أمريكي أو غير أمريكي، دولي أو إقليمي، لأن الرد يجب أن يكون نسقاً قائماً بذاته، قومياً وعربياً، يتركز على الأمة العربية ويستهدف تحقيق مآربها ومقاصدها، القريبة والبعيدة التي طال حديثها عنها ودعوتها إليها، وحان اليوم زمن تحقيقها دون إبطاء أو تردد، ليس فقط لأن اللحظة الآتية ستكون مناسبة جداً، بل لأنه ستتوفر لديها القدرة اللازمة لبلوغها، خاصة إن قام في بلدانها الرئيسة نظام سياسي جديد حامله المجتمع العربي، بآماله وتطلعاته الموحدة والجامعة، فهل سيتوافر مثل هذا الرد خلال الحقبة المقبلة؟ هذا ما يخشاه كيسنغر، وتريد مواقف أمريكا الرسمية إيهامنا أنه هدفها، وأنها موافقة عليه وراغبة في قيامه عندنا، مع أنها يرجح أن تكون ضده على طول المدى .
نحن أمام زمن عربي جديد، يتطلب طرقاً جديدة في الفكر والعمل العامين، وفي إدارة شؤوننا، والتعامل مع غيرنا، ليس من أجل الدخول في معارك لا لزوم لها ضده، بل لبلورة مشتركات مفيدة لنا وله، تحدد في ضوئها أسس واضحة تدوم لأجل طويل، تجنبنا العداء مع أي كان غير “إسرائيل”، وتوفر على أمريكا خوض معارك لا ضرورة لها عندنا، لن تربحها، بدلالة الأحداث الأخيرة التي أظهرت كم هي قوية مجتمعاتنا، وكم بلغت من نضج سياسي وإنساني، وشجاعة رأي وقلب .
إن الخيار اليوم لأمريكا: إما أن تتعامل معنا بروح الندية والمساواة والاحترام، فتصان مصالحها، وإما أن ترفض ذلك، فيكون ما تعيشه اليوم شيئاً لا يستحق الذكر بالمقارنة مع ما ستعيشه في مقبلات الأيام، في منطقتنا وخارجها .
الخليج

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى