خولة دنياصفحات الناس

“ذكريات سجن: خمسةُ أشهرٍ على قدمٍ واحدةٍ” محاولةٌ لنبش ذاكرةٍ غيّبها “التجاهلُ عنوة

null
خولة دنيا
عندما تتمنى مجيءَ أيُّ جحيمٍ يعزلكَ عن واقعك لبرهةٍ.. لنفسٍ.. أو لشق نفسْ. تتماهى اللحظات في سكون الموت.. بل تتمنى الموتَ بعدد دقائق يَومِكَ المسكونِ بالهلعِ والترقبِ وانتظارِ الأبوابِ الساكنةِ.. أو التي تُفْتَحُ على وَقْعِ دقات قَلبِكَ النابضِ بالصُراخ.. لماذا طال الصمتُ..؟ ولماذا الآن تعودُ الذاكرة للصراخ.. في وقتٍ ظننتُ أن ما مضى قد مضى.. وأن البداياتِ كلها كانت كفيلةً بإغلاق ملفات مالم يقل في حينه… وما مضى أوانه؟ أم أنها ذاكرةٌ فوقَ ذاكرةٍ.. فوقَ ترقبٍ مستديمْ..لا تنفصمُ عن سياقٍ تعوَّدتُ أو عُوِّدت عليه.. في زمن الهلع الأبدي. هل هو خجلٌ من تجربةٍ أقل ما يقال عنها أنها لا تتجاوز “الوقوفَ لخمسة أشهرٍ على قدمٍ واحدةٍ”؟!! ليس من اليسير التحدث عن تجربة سجنٍ لمدةٍ قصيرة، في بلد يصدمك معتقلوه بأرقامٍ تطول وتطول .. فهذا قضى خمسة أعوام وهذا عشرة وذاك خمسة عشرة عاماً،.. وتطول المدد لتتجاوز العشرين وتقترب من الثلاثين.. وفي خضم السنوات المتلاطمة.. تبدو تجربة امرأة.. بشهور سجنها الخمسة.. أقربَ إلى “المسخرة”.. والضحك المكتوم.. أو بأحسن تقديرٍ.. يمكن أن يقال “والله!” وفي بلدٍ مايزال فيه ملف معتقلي الرأي مفتوحاً، يبقى حديث السجن بشجونه، سلعةً رائجةً… بين المعتقلين السابقين واللاحقين… فيما هم في غيتواتهم… التي أنشأها السجن.. ودعّمتها إحباطاتُ ماتلاه.. في هذا البلد.. المصنوع على مقاسات حاكميه.. تبدو شهوري الخمسة فارغةَ المعنى.. عديمةَ القيمة.. زائلةَ الجدوى… ومخاضي لإعادة جدولة ذاكرتي.. يبدو جهداً ضائعاً.. كما هي شهوري الخمسة المشطوبة من حياتي.. مشطوبة من حياتي؟؟ من قال أنها مشطوبة!!هل أنا من قلت..؟ وكيف أفسِّر صراخي تحت رحمة سياط جلاديّ .. وأسلاكهم الكهربائية!! كيف أفسِّر يومي المهدور في الترقب.. وتمنيات الموت رحمةً؟ كيف أفسِّر غيابي عن ربيع عمري.. عن حزن أمي .. لوعة أبي ووفاته..كيف أفسر ألماً مايزال يحترق في داخلي ورغبةً في الانتقام.. الانتقام..؟؟ وهل قلت انتقام..!! وكيف انتقم وقد نسيت اسم جلادي؟.. لون وجهه؟… شكل يديه البارعتين في الشبح والدولبة والكهربة..؟؟ وكيف نسيت مالا ينسى؟ هل نسيتُ حقاً أم تناسيت؟ هل هي الذاكرةُ المهشّمةُ بالوَجَلْ أم أنها محاولةُ خلق ذاكرةٍ جديدةٍ بدون ألم..!! *  *  * والآن وفيما اقترب من سنوات عمري الأربعين.. أحاول لملمة ذاكرتي وترميم ما شابها من فراغاتٍ، تقفز شهوريَ الخمسة إلى السطح (وهنا أُسقِطُ الأيام والساعات.. فليست ذات بالٍ في حسابات معتقلي بلدنا)، تتأرجح بين مافاتني منها ومالايزال قوياً.. استنهض تفاصيلها الدقيقة.. (أحيانا دون جدوى) محاولةً رسم خريطتها.. أتذكر دقات باب منتصف الليل (لماذا لا يأتون إلا منتصف الليل؟) .. البيت المليء بالرجال، الضابطين المكرِشين بمسدسيهما الخفيفين.. التفتيش.. الثياب المفروشة على الأرض.. مصادرة المكتبة التي أسستها بقروش الطالبة المهتمة بتغيير العالم والمهملة لدروسها.. الخزانة التي وجدوا فيها دليل الإدانة اليتيم.. أتذكر فيما أتذكر “الصديق” ويديه المغللتين، نظرة الاعتذار والخجل في عينيه الهاربتين مني.. أتذكر رغبة المقاومة والهرب، وتناقضهما.. عيون أهالي الحارة المستترة وراء الأبواب والمليئة بالفضول والتساؤل.. فيما الزقاق مدججٌ بالرشاشات..!! محاولة جارنا لفهم ماحدث، وصراخ الضابط عليه ليغلق “بوزه” وبابه.. لم أكن أعلم ما ينتظرني عند الوصول.. عيوني مطمشة ويداي مقيدتان.. أسفل درجات القبو (ولماذا قبو دائماً؟؟) دقَ الضابطُ البابَ الحديديَ بعنفٍ (أيضاً حديدي!!) قلت بسخريةٍ مُقاوِمَةٍ (شو مسكرين!) قال لي بهزأ وهو يجرني من مِرفَقي (هلق منفتح). بالفعل فتحوا كل أبواب جحيمهم: الضرب واللكز والشتم.. وبعدها الدولاب.. لم أكن أعرف كيف أجلس فيه، لكنهم علموني… دعسوا بالبوط على رأسي، فيما تولى أحد العناصر إدخال قدمي بالدولاب (يعني حرفياً: تعلمت بالصرماية). للوهلةِ الأولى خجلتُ من الوضعيةِ عَيّنها.. لم أتعود أن أضع باطن قدمي في وجه أحد.. للأسف ولا حتى وجه الجلاد.. لكنني الآن أراها الوضعية مناسبة تماماً لتلك الأوقات!!.. مالا يحكى بالكلمات.. قاله الضابط الأول برذاذ سبابه وشتائمه (كان يأخذ دور الضابط العنيف).. وهو ينهال على قدمي بالخيزرانة حتى تورمتا. بعدها طلب مني الوقوف والذهاب إلى الحمام.. هناك كان عنصر نصف نائم.. يصب الماء على قدمي فيما أنا أرفس بهما حتى أمنع تورمهما.. كان لامبالياً، أو لا… كان متفاجئاًً قليلاً لزائرة منتصف الليل التي حرمته النوم.. وأرّقت ليله باستفسار: من تكون؟ ولماذا هذا العنف معها؟.. كنت ما أزال صغيرة بمظهر براءةٍ واضح المعالم على وجهي.. وعاد الجحيم من جديد.. هذه المرة مع كبلٍ كهربائيٍ مجدولٍ ومُنفَلِتَ الطرفِ.. كان الألم لا يوصف.. وكنت أردد: لا أعرف.. وبالفعل هناك الكثير مما سئلت عنه لم أكن أملك جواباً عليه؟ أتذكر أني كتبت تالياً لذلك: اعترفي.. رددها عشرات بل مئات من المرات ، يصرخ سوط الجلاد وهو يداعب جسدي منهوك ..اعترفي.. وبماذا اعترف؟ بشقاء شعبي.. أم بحبي لوطني؟ بماذا اعترف وسوط الجلاد لا يستريح؟ بماذا اعترف!! يا لدهشتي حينها من جوابٍ لا يلقى آذاناً صاغية، لماذا لا يصدقوني؟ ولماذا يستمرون بضربي وشتمي؟ سمعت كلماتٍ أسمعها للمرة الأولى في حياتي.. نعروني.. شدو شعري.. وضُرِبْتُ حتى تورمتُ كبطيخة.. تُركتُ لارتاح في ممرٍ جانبيٍ، بينما جلبوا “الصديق”، تحدثَ إليَّ الضابط الآخر (كان يلعب دور الطيب!).. وما أطيبه! صفعني بأقصى ما يملكه من لؤمٍ، عندما سألني بأقصى ما أمكنه من لطفٍ، عن علاقتي ببيانٍ وجدوه في غرفتي، ولم أملك جواباً.. لم تختلف الأيام التالية عن سابقاتها.. أضيف الصعق بالكهرباء في اليوم التالي.. واستمرت الدولبة، أصبحت أخاف الليل وأنتظره.. أترقب فتح باب السجن.. وصوت الضابط (هاتوها).. جاءوا بالكثيرين .. وعذبوا الكثيرين.. أصبحت الليالي لا تطاق.. انتظر دوري.. الذي قد يأتي اليوم أو لا يأتي.. تورمت قدميَّ، كسرت الحذاء  “كشحاطة” كي أستطيع حشرهما فيه. جاء الكثيرون.. وذهب الكثيرون.. ومرت الأيام.. توقف التحقيق.. ودخلنا في رتابة القبو.. اعتدت النوم على صوت الصراخ.. كما اعتدت الأساليب البالية التي يكتشفها جميع معتقلي العالم دون استثناء.. التحدث بالنقر على الحائط، سرقة قلم خلال التنفس (وأي تنفس، في موزعٍ يفصل بين الزنازين)، التطريز بالخيوط المنشولة من البطانيات.. اعتدنا القبو، واعتاد علينا.. كان العناصر يخرجونا بين الفينة والفينة لنشرب كأس شاي، أو زهورات، لندخن سيجارة، لنتحدث قليلاً، لنمرر وقتاً كالكابوس بالنسبة لنا، وعملٌ مملٌ مأجورٌ بالنسبة لهم. كنت أرمق كتبي المكومة قرب الجدار، وقد تضاعفت بكتبٍ أخرى من مداهماتٍ أخرى.. كنت أفكر هل سيعيدونها لي؟ أو على الأقل (هذا ما أملته) يعيدوا لي دفتر مذكرات طفولتي ومراهقتي.. وأشعار كتبتها بحماستي.. لو يعيدوا لي، فقط، لوحةً رسمها لي صديق، غيّبه سجنٌ آخر، قبلَ شهور.. ذهب الصيف بدفئه، وجاء الخريف.. أربكنا البرد.. وملابسنا الصيفية الخفيفة.. أتتني بعض الأغراض التي أمكن لأهلي تمريرها عبر (واسطة)، ونقود قليلة.. ساعدتني في شراء احتياجاتي النسائية وبعض السجائر.. أسهبت في الشرود، حتى ملَّ مني شرودي .. تمنيت لو كان لي حبيب، أو حلمت بحبيب، اخترعته على قياسات فلكية.. وأملت أن يكون بانتظاري.. كان أملي بالخروج القريب قوياً.. ولكن كان أملي يخبو بمرور أيامي.. استبدلت حلمَ الخروج للحرية، بالخروج من القبو.. أصبحت انتظر تحويلي إلى سجن النساء.. أي شيءٍ أفضل من عفن القبو.. ووحدة الزنزانة.. تآلفنا مع العناصر وألفونا، أصبحوا يودّعونا عند سفرهم في إجازة، متمنين عدم رؤيتنا عند عودتهم!! ولكن كنا دائماً في الانتظار.. العنصر الذي داس ببوطه على وجهي، أصبح أكثر إنسانيةً ومودة.. قال لي أنه سيهديني دولاباً حين أتزوج، كي أعلقه على الجدار وأربي أولادي بتهديدهم به إذا اهتموا بالسياسة.. كان ينظر إليَّ بشفقةِ الرجلِ البدويِّ العارفِ بأنّي لن أجدَ من يتزوجني.. فمن (برأيه) سيتزوج سجينة سابقة، بذكريات لا تمحى عن التعذيب وخمسة شهور (الله يعلم ماحدث فيها!) مع نهاية الشهور الخمسة تمَّ تحويلنا أخيراً إلى سجن النساء.. وصلنا بهرجٍ ومرج.. فقد كنا الأقرب إلى الحرية بين المعتقلات منذ سنين طويلة.. وبالتالي كنا المسؤولات عن التحدث عن بره (قبل خمسة أشهر). دعكونا في حمّام السجن حتى تورمنا من النظافة (خوفاً من الجرب والقمل وأمراض القبو) ثم أجلسونا على عتبةٍ مرتفعةٍ (كنا سجينتين في نفس الفترة) وأحاطت بنا ثلاثون معتقلة مليئة بالشوق للكلام والأخبار.. كيف ومن أين ولماذا.. وماهي الأخبار؟ وكيف (بره).. كان الشوق ينط من عيونهن.. حاولن رؤية الحرية من خلال عيوننا (عيوننا التي أخمدها القبو، وأشرقها هواء سجن النساء!!) لم يكن لدينا الكثير مما يحكى (منذ خمسة أشهر حصل كذا، ومنذ ستة أشهر.. تغير كذا..) كنا قديمتين حتى النخاع لمن يريد أن يرى، ولكن في عالم السجن لا أحد يرغب بالرؤية.. تمشينا في باحة السجن، استمتعنا بشمس كانون الخجلة، أنشأنا صداقاتٍ واصطفافاتٍ سريعة، كنت أقول لمن تسألني منهن عن اعتقالي، بأني سوف أخرج، فلم يجدوا عليَّ شيء.. وكنَّ يقابلنني بالضحكة الشمتانة نفسها. نصفهن كان وضعهن مثل وضعي.. ومع ذلك بقوا في السجن لثلاث سنين(حتى تاريخ دخولي).. كنت أقول: الزمن تغير، والتعامل تغير.. والحمد لله، فقد كان الزمن قد تغير فعلاً والتعامل تغير أيضاً.. بعد يومين، تمَّ تحويلي إلى الفرع حيث أنهيت إجراءات خروجي مع شبانٍ آخرين بأوضاع مشابهة، لأخرج إلى الحرية..  كان أول شيء فعلناه.. مررنا إلى كافيتريا قريبة من الفرع، شربنا القهوة.. ودّعنا بعضنا البعض.. وتواعدنا على لقاءٍ قريبٍ لم يتم .. بعدها فاجأت أختي بدخولٍ غير منتظرٍ.. وسفرٍ إلى الأهل.. السنين التي تلت لم تخلو من يومين هنا .. واحتجازٍ هناك… تحقيقٍ هنا.. واستدعاء هناك.. تلاه منع سفر لأكثر من عشر سنوات.. وعدم إمكانية التوظيف في أي جهة حكومية.. ولكن كما قلت في البداية.. الأيام والساعات والعذابات الأخرى ساقطة بحكم إمكانية التعامل اليومي معها.. الحمد لله كذلك، أن اعتقال الفتيات لم يطل كثيراً بعد ذلك.. فتمّ الإفراج عن النساء تباعاً.. وقسمٌ من الرجال.. فيما بدأت مرحلةٌ جديدةٌ من التعامل مع معتقلي الرأي الباقين.. فتمَّ تحويلهم إلى محاكم أمن الدولة.. التي لم يكن حظهم معها بأفضل من الاعتقال التعسفي دون محاكمات.. أخيراً هل استطاعت سطوري السابقة طيَّ الذاكرة البعيدة القريبة؟ هل توقف صنين الذاكرة عن النزّ؟ لا أظن، فالكثير من التفاصيل الصغيرة، تفاصيل السجن التافهة الصغيرة (كلّ عالمنا في حينه) لن تقبل النسيان.. لم أحصل على دولابي الموعود لأعلقه على الجدار.. على العكس كرهت الدواليب، وأصبحت أتفهم كذلك كره زوجي المستديم للسيارات!!… قد تكون هذه محاولةٌ لنبش الذاكرة من متاهة النسيان، وترميم ما لحقَ بها من تشوهاتٍ واختزالات.. أو قد تكون دعوة لأصحاب الشهور الخمسة، أو الستة.. أو الثلاثة.. أو الأربعة.. أو حتى الأيام.. لنجمعها معاً سنيناً سُرقت منا.. وأحسسنا بالخجل منها لأنها مجرد شهور..!! هي بالنهاية دعوةٌ لكل المعتقلين السابقين في بلادي، كيف ينظفوا ذاكرتهم جيداً.. وينفضوا عنها درن السجن وآلامه.. علّهم يخرجوا من السجن الذي ترسخ في عقولهم.. ومازالوا يعيشونه في مجتمعاتهم المغلقة والمعلقة على السجن..        وفقط..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى