صفحات ثقافية

إيديولوجيــا الغريــب

null
فادي سعد
هو القدر… عندما تصفعكَ ريحٌ على خدك الأيمن، أدرْ لها خدّك الأيسر؛ لاتقاوم كثيرا، ولاتحاول أن تفهم لماذا اختارتكَ الريح. لاتحاول أن تفسّر سبب وجودها، فالريح لاتحب الفضوليين والعقلانيين ولو قليلا. تمدّدْ فقط فوق حبيبات الرمل، أغلق عيناك حتى لاتجرحك ذرّات الرماد الصغيرة، وتمتّعْ بفضيلة الاختيار التي منحتك إياها الصدفة. فالريح لاتصفع أيّا كان.
الصدفة… ألا تملّ من اللعب بالكلمات؟ تقولين لي للمرة العشرين. هذه مملكتي، أقولُ، وماذا تبقّى لي بعد الرحيل سوى مملكة من الحروف، أعبث بها كما أشاء؟ أصنع منها أدراجًا صغيرة أرتّب فيها ماتبقى من صور الذكرى. الذكرى نسيان. كذا قرأت مرة، وياليتني ما فعلتُ. هل تؤمنين أنّ جملة عابرة في رواية عابرة، تكفي لتكشف لنا فجأة بفظاظة سخف أفكارنا السابقة؟ هل تؤمنين أنّ لقاء عابرًا يكفي ليغيّر كل ما حسبناه جوهريا فينا، كل ما حسبناه عصيًّا على التحوّل رغم أنف الاغتراب؟
أياً يكن الأمر، وقد بتنا الآن هنا، حيث لاتنفع طمأنينة المفاهيم الثابتة، ونظريات العقل البارد، في هذا المكان الذي تسوده قوانين غريبة عليّ ـ وعليكِ ربما ـ كتَبتْها الغربة وهي تفرك يديها ضاحكةً من سذاجة الواثقين وبساطة الساخرين من سلطة هذا القدر.
الذكرى نسيان. ما أقوله الآن ليس لعبًا صدقيني، فكّري كم ننسى من لحظات حياتنا، وكم من تفاصيل تسقط عندما نتطلّع للوراء. عندما أبدأ بتعداد المصادفات التي من دونها ما وجدنا أنفسنا ـ أنا وأنتِ ـ تائهيْنِ وسْط طريق يمتد من شرق المحيط إلى غربه. عندما أبدأ بالحديث عمّا يمكن أن يُسمّى قدرًا، ترفعين حاجبيكِ الجميليْن استغرابا من فلسفة اللااختيار تلك الآتية كما تعتقدين ممّا التصق فيّ من أثواب الشرق البعيد، وتحدثينني عن إرادة الإنسان، وقوة الفعل، والطرق التي يرسمها البشر بأنفسهم ليسلكوها بعد ذلك رافعين راية الإرادة القاهرة. صدّقيني، كنتُ من أعند المدافعين عن قوّة الاختيار في بلاد الشرق حيث لكل اختيار أثمان لم تجرّبيها، وها أنا الآن في بلاد الغرب من أكثر المؤمنين بعبثية الصدف وسطوة الأقدار، هل يبدو لكِ في قولي هذا تناقضٌ، أن يولَدَ القرار في أرض تسخر من عقول أبنائها، وأن يتجسّد القدر في أرض تبشر أبناءها كل يوم بمحاسن الحرية؟
كيف يمكن لكِ فهم أحجية كهذه، أن يختار أحدٌ الذهاب بعيدًا عن أرضه طوعًا؟ كيف يمكن تفسير انسلاخ كهذا لمن يشعرون دائما بالأمان والطمأنينة في أوطانهم؟ تقولين لي أنكِ تفهمين، وأنكِ تتخيلين كيف يمكن أن يكون الأمر. ولكني أشك في قدرتك على استيعاب أسرار هذا التمزق، فإذا كان للغربة من فوائد، فإحداها هي اكتساب القدرة على الشك الدائم والمُؤرق في الأشياء والأفكار والنظريات والقوالب والمشاعر السابقة واللاحقة. هل هناك أقبح من لعنة اليقين، »أنا أشكّ إذًا أنا حرّ«، لذلك أشك كثيرا في قدرتكِ على فهم تجربة لم تخوضيها، وبما أنك لن تعيشيها مطلقًا، ستبقين على أعتاب النظرية، تسألين وتنظرِّين. وسأبقى أنا أحاول الشرح، شرحٌ محكوم عليه مسبقًا بالفشل. ما أصعبَ التعبير عمّا نحاول جاهدين نسيانه، أنْ تقذفنا الحياة بين ثقافتين وعالميْن، ثم تطلب منا أن نتأقلم ونتكيّف، هكذا بكل بساطة، علينا أن نقبل ألم الاغتراب بتفهّم، أي أن نصبح ماسوشيين تعريفًا. المهاجرون عن أوطانهم يتعلمون جيدا كيف يحولون ألم الفراق إلى جرح يجلب لهم عزاءً من نوع آخر، ويُلبسون هذا العزاء أثوابا مختلفة، أليس هذا تطبع ماسوشي بالتدريج؟ أما الكتّاب، فهُم أول من يدرك فوائد هذا التطبع، يحولون جروحهم إلى محابر تنهل منها أقلامهم، ليتفرجوا على فعلتهم بعد ذلك متلذذين مُرهقين من نزيف أجسادهم واحمرار كلماتهم، ولكن لا يمكن لومهم على ذلك، لا يمكنكِ لومي على ذلك، فإذا كان لابدّ من الرحيل حينئذ، فلابد من الكتابة الآن، الأمران متلازمان، وإقحامكِ لم يكن إلا صدفة أخرى من مصادفات المُسمّى قدرٌ.
الشكّ الذي أحدّثكِ عنه، ينبت من بذرة صغيرة تقذفها الأرض الغريبة في تربة الثبات التي منحها الوطن يوما. ويكبر رويدا وريدا مع كل لحظة يقضيها المرء بعيدا. يتحول إلى خصلةٍ لابد من اعتناقها للتعايش مع أطراف هذه التناقضات: حبّ الأرض وهجرها، الحنين والبعاد، الرغبة بالعودة والبقاء، النجاح والمرارة، حبّكِ وهجركِ…. الشك يحلّ غموض الكثير من هذه الثنائيات المستحيلة، فالغريب يتعلم حبّ الأشياء بعقلانية أكثر، يميّع رغباته لتلائمَ كؤوسا كثيرة، يضيف عليها أملاح الشك فتصبح مقبولة الطعم، وتصبح الحياة ممكنة بعد ذلك. هكذا يعتني الغريب بجرحه، فيمنعه من التقيّح وتسميم حياته؛ يشكّ في مفاهيم الانتماء والواجب والحبّ والحق والعدل، يشكّ في احتمالات بقائه وعودته، يشك في قدرته على الصمود بعيدا أو بين أحضان الوطن، يشك في ثبات أفكاره ومشاعره، وما كان بغيضًا البارحة يمسي مع الزمن أكثر عقلانية وإنسانية. يشك في كل كلمة نطقها أو سينطقها يومًا، في كلّ وعد يمكن أن يطلقه لنفسه أو لغيره، هكذا فقط يمكنه أن يحمي نفسه.
تلقمّنا الغربة منذ اللقاء الأول درسها الأكبر، أنّ النسبية سيدة العالم، واليقين كلمة تدعو على السخرية والرثاء. لايبدو لي الأمر سيئا، فلو اعتنق أسياد هذا العالم مذهب الشك هذا، لَما ضربتنا النكبات والمصائب الواحدة تلو الأخرى حتى نفد لدينا ما نملكه من تفاؤل في المستقبل، لو كان رئيسكم مثلا مستعدا للتخلي عن بعض يقينه، لتجنّب الشرق على الأرجح الكثير من آلامه ومصائبه الكبيرة؛ الشك عدو الإيديوجيا، الإيديولوجيا التي لاترى إلا نفسها، الإيديولوجيا التي سيّرت أميركا والعالم من ورائها نحو هذا التخبّط. أحب أن أتخيّل جمال هذا العالم لو نُفي أسياده كلّهم أجمعين إلى بلاد بعيدة حتى يدركوا سخف الثبات ويتذوّقوا تجربة القناعات غير الراسخة في معرفة الآخر. أعلم أنْ للأمر وجهان، فكما يمكن لإيديولوجيا الكراهية والحقد والأحكام المُسبقة أن تتشقّق في أرض غريبة، يمكن لإيديولوجيا الحبّ أن تتحطم أيضا، أن يدخلها شك الغريب في إمكانية دوام الحبّ، أيّ حب، ودوام أيّ شيء.
يتبع في مكان ما
(الولايات المتحدة)
السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى