صفحات مختارةمازن كم الماز

عندما تخنق أمريكا الديمقراطية

مازن كم الماز
لم تكن علاقات الإمبراطوريتين الأمريكية و السوفيتية تتمتع بالثبات على الامتداد الجغرافي للعالم . كان كل طرف عموما ينتقد تسلط الطرف الآخر في مناطق نفوذه و يدعم كل محاولات الشعوب التي يقهرها , أو يستعبدها , خصمه للتحرر من نيره , هكذا دعم الاتحاد السوفيتي ثورات كوبا و قيام نظام الليندي الذي وصل إلى السلطة عن طريق الانتخابات في الباحة الخلفية لإمبراطورية واشنطن و ثورة فيتنام و هكذا دعم الغرب انتفاضات شعوب أوروبا الشرقية المختلفة ضد سيدها الستاليني , أما نحن و منطقتنا فقد كنا على خط المواجهة الساخن , من جهة هناك الغرب الرأسمالي و معه إسرائيل , أبارتايد الشرق الأوسط , و معهما شبه الجزيرة التي تقاسمتها ممالك و إمارات و مشايخ الخليج , إلى جانب مملكة الأردن الحديثة و على الطرف البعيد المملكة العلوية “العريقة” في مواجهة أنظمة عسكرية صاعدة “قومية” “صديقة” للاتحاد السوفيتي تسير على طريق الانتقال السريع إلى رأسمالية الدولة البيروقراطية , رأسمالية الدولة البيروقراطية هذه ستشكل في النهاية الطابع الطبقي لكل سلطة في المنطقة من أقصى الاعتدال إلى أقصى الممانعة … و لذلك في محاولة تأسيس عالم ما بعد انهيار الاتحاد السوفيتي تشكلت خارطة مختلفة بالضرورة عما سبقها , فالتأثير الحاسم في تشكل أنظمة ما بعد انهيار الاتحاد السوفيتي غلب عليه عامل أساسي حتى اليوم , و هو كراهية السيد السابق الذي بقي أحد أهم عوامل تشكيل المزاج الجماهيري , قبل أن يبدأ تأثير عوامل أخرى كالعطالة الروتينية في الحياة السياسية و قدرة الأنظمة الجديدة على إعادة إنتاج نفسها من خلال وجودها في السلطة , ففي أوروبا الشرقية ظهرت أنظمة شديدة الولاء للغرب الرأسمالي لدرجة أنها كانت مستعدة لترسل أبناءها ليموتوا في كل مكان كانت حكومات هذا الغرب تريد منهم فعل ذلك لتقلل أعداد القتلى من أبناء جيوشها و أن هذه الأنظمة ذاتها قد أصبحت حليفا “تافها” بالتأكيد لأكثر القوى مغامرة و طموحا للسيطرة على العالم و عداءا لروسيا الحالية في واشنطن و الناتو , أما في الباحة الخلفية لواشنطن التي حكمت لعقود بالحديد و النار فقد انتشرت الأنظمة اليسارية كالفطر معبرة عن المزاج الشعبي المعادي للسيد السابق و لكل المآسي التي جرها على تلك الشعوب … في منطقتنا التي انقسمت بين العملاقين فإن الوضع أكثر غموضا , و لو أن وجود إسرائيل يغذي الشعور المعادي لأمريكا و سيبقى يغذيه بقوة ( و قد أضاف إليها بوش مشكورا العراق و أفغانستان ) .. فبعد أن بدأت أمريكا نظامها العالمي الجديد من هنا بالتحديد بعد حرب الخليج الأولى حاولت تغيير خطابها الإيديولوجي , لم تعد معاداة الشيوعية تلعب دورا مركزيا كما كان عليه الحال من قبل و لم يعد ابن لادن مقاتلا في سبيل الحرية , و أصبحت بدلا من ذلك تحاول الترويج للديمقراطية , كسلعة مثلها مثل البيبسي كولا مثلا , كجزء من منظومة و ثقافة الاستهلاك الأمريكية , و صفة الأمريكية هنا أكثر صدقا من أن نصفها بالرأسمالية مثلا , و كتعبير عن علاقات الإنتاج المفروضة في ظل إعادة تشكيل العالم حول مركزه الإمبراطوري بفتح كل الأبواب مشرعة على مصراعيها للاحتكارات , كانت الديمقراطية هي السلعة السياسية و الفكرية المجهزة في وسائل إعلام مردوخ و المعلبة في هوليود و المعدة لاستهلاك شعوب الإمبراطورية .. لكن الديمقراطية تعني شيئا آخر , إلى جانب “منظمات المجتمع المدني” أو “المنظمات اللا حكومية” التي أنفقت عليها أموال و رشاوي كبيرة بغرض خلق مراكز إنتاج محلي لثقافة الديمقراطية على طريقة الإمبراطورية , و لا الأشكال الفارغة من الانتخابات الدورية التي مارستها بكل نفاق و استهتار أنظمة الاستبداد في الشرق … حتى الثورة جرى تعليبها في واشنطن على الطريقة الهوليودية , اخترعت لها ألوان و صممت بشكل يعيد الثقة إلى أنظمة انكشف عجزها و فسادها و أصبحت عالة على مركز الإمبراطورية , صممت بعناية فائقة لكي تؤدي إلى استبدال رأس النظام المكروه برأس آخر اختير بعناية من النخبة السياسية بغرض تجاوز النظام “أزمته الشكلية” , ككيس دم يضخ في أوردة نظام أصبح متداعيا , أما في العمق فبقي كل شيء كما هو , بقيت الإمبراطورية هي التي تحكم كل شيء , هكذا قامت ثورات القرنفل و غيرها في أوروبا الشرقية لتعيد إنتاج شرعية أنظمة فقدت شرعيتها في نظر من تحكمهم باسم الإمبراطورية منذ عقدين من الزمان … لكن هذه المرة كان كل شيء مفاجئا , بالكامل , و حدث في آخر مكان توقعته الإمبراطورية , و أرادت له أن يحدث .. إذا كان سقوط بن علي خسارة يمكن تحملها فإن سقوط مبارك كان ضربة حقيقية للبنية الإقليمية للإمبراطورية … هناك عوامل مفزعة للإمبراطورية : الشارع هو من فرض التغيير و بالتالي فإن رأيه و فعله سيشكلان جزءا هاما من صورة المنطقة بعد التغيير , هذا الشارع لا يخضع لقوى موالية عكس ما كان عليه الحال في أوروبا الشرقية مثلا , و وجود الإسلاميين القوي يزيد من اضطراب و بارانويا مركز الإمبراطورية , القوى التي ربتها أمريكا طويلا لتحكم قبضتها ( العسكر – الليبراليون الجدد خاصة ) ضعيفة إما بحكم أنها غير مستعدة لمواجهة ( أو لمجزرة ) مفتوحة ضد الشارع أو لأن مشروعها كان يتشابه إلى حد كبير مع النظام المنهار أساسا لأنهما كانا يستمدان من منبع واحد … لذلك فإن أمريكا مضطرة لأن تعمل على صعيدين : الأول هو النخبة نفسها , فأمريكا , أوباما خاصة , تعتقد بإمكانية التعامل “الإيجابي” مع أي جزء من النخبة سيصل للسلطة , لقد أعادت علاقتها بكل خصوم إدارة بوش السابقة و خففت من درجة العنترية و من استخدام لغة و ممارسة البلطجة في خطابها العلني و سياساتها , و هي تستند إلى تجارب عدة منها مثلا تجربتها في العراق مع القوى السياسية الموالية لأحد أهم خصومها الإقليميين أي إيران عندما تمكنت تلك القوى من التوفيق بمهارة بين علاقتها المتميزة مع كل من نظام ملالي طهران و جنرالات البنتاغون حتى أن المالكي كان مستعدا ليدافع بيديه ( و ربما بما هو أكثر أهمية شخصية له ) عن بوش في مواجهة حذاء الزيدي , إن أية نخبة ستصل للسلطة سيبقى من الممكن احتواءها حتى الإخوان أنفسهم الذين كانوا على علاقة ممتازة بالنظام الرأسمالي العالمي أيام الحرب الباردة , و الجبهة الأخرى كانت الشعوب نفسها , في إطار السعي لاحتواء ثورة الشارع و لمحاولة تدجينها فإن أمريكا تحت ضغط انتشار عدوى الثورة في كل مكان في الشرق من مسقط و المنامة و بغداد إلى بنغازي و الدار البيضاء تعدل يوميا خطابها العلني , و تحاول أن تجعله يبدو أكثر انسجاما مع آمال الشعوب في الحرية و الحياة الكريمة بينما تنتظر أن تفعل بقية العوامل و القوى التابعة لها في إعادة الشعوب إلى حالة السلبية و تقبل الأمر الواقع , بل لعل واشنطن اليوم و نظام القذافي الدموي يتهاوى تفكر بمبادرة على طريقة بوش الابن , بمبادرة تبدو و كأنها تضرب عصفورين بحجر واحد , فلا يوجد ما هو أحب على قلب الإمبراطورية من أن تبدو و كأنها تحرر الشعوب من طغاتها بينما تملأ جيوبها بالذهب , و نظام القذافي يبدو صيدا سهلا تماما كما كان صدام في 2003 , متداع و على وشك الانهيار و مكروه من شعبه و القوى التي تدافع عنه ضعيفة التسليح و المعنويات .. الجيد في الإمبراطورية أنها كالحيوان المفترس الغبي لا تستطيع أن توفر صيدا سهلا , و أنها لا تتعلم من دروس الماضي أبدا تماما مثل حيوانات الديناصورات المنقرضة للأسف , هائلة الجسم لكن عقلها بحكم ظروف خارجة عن إرادتها محدود الإمكانيات للغاية , لم تكن المشكلة في العراق في نظام صدام , و لا نظام القذافي هو مشكلة أمريكا اليوم في ليبيا , المشكلة في الليبيين أنفسهم , و إذا حالف التوفيق أمريكا في العراق بأن تجد حلفاء في المؤسسة السياسية و الدينية الشيعية فربما لا يكون الحظ إلى جانبها هذه المرة في ليبيا , حيث يبدو أن أكثر من تعرض للظلم و التهميش و القمع من قبل نظام القذافي هم في نفس الوقت أشد عداءا لأمريكا منهم للقذافي نفسه , هذه ليست أوروبا الشرقية , ليس بمعنى أننا لا نستحق الحرية , بل بمعنى أن حلفاء أمريكا الإقليميين من تل أبيب مرورا بالخليج إلى الدار البيضاء هم أشبه ببينوشيت و سواه من جنرالات الموت , لدينا القليل من أمثال تشاوشيسكو هنا في طهران و دمشق أما ما تبقى من طغاة الشرق فهم ليسوا إلا جنرالات أمريكا البينوشيتيين , بمعنى أن تاريخ و حاضر أمريكا يكشفان عن أسوأ ما في الإمبراطورية هنا بما لا يقل عما ارتكبته في أمريكا الجنوبية من مجازر و مآسي , من مجازر جيش الدفاع الإسرائيلي إلى سجون الطغاة و أقبيتهم من أقصى المحيط إلى أقصى الخليج , دعائيا تخوض أمريكا معركة خاسرة هنا , على عكس قدراتها الممتازة جدا و المتفوقة في القتل و التدمير , ليس فقط أن اليد التي تقبض على الذهب و البترول في هذه الأرض مغمسة بدماء الناس و آلامهم منذ عقود , و أنه من الصعب جدا اليوم تغيير كل ذلك التاريخ , لكن هذا في نهاية المطاف يشغل جزءا محدودا فقط من الناس , ذلك الذي يفعل كما نفعل هنا , أي الذي يتناقش و يتجادل حول فهم الواقع لمصلحة هذه القوة أو تلك , فالمهم في حقيقة الأمر هي هذه الأسئلة التالية , الأساسية جدا و البسيطة جدا لدرجة السذاجة و الغباء : هل الإمبراطورية مستعدة لتتقاسم البترول مع شعوب هذه المنطقة , هل يمكن لشعوب الشرق أن تقرر مصيرها بنفسها و أن تمتلك ثرواتها و أن تخلق أشكالا ديمقراطية شعبية تضمن أن يتم توزيع عادل للسلطة و الثروة بين أفرادها و أن تبقى في نفس الوقت أطرافا تابعة و مطيعة للإمبراطورية القائمة , أليس كل ما تريده الجماهير التي تنهض اليوم في سبيل حريتها و انتزاع عالمها من القوى التي تستلبه , أليس هذا هو أخطر ثورة تتهدد الإمبراطورية نفسها في الواقع و في قلبها بالتحديد , يجب ألا ننسى أيضا أنه منذ 1990 ازدادت الأهمية الإستراتيجية لمنطقتنا في بنية و سياسة الإمبراطورية , لقد أصبحنا الباحة الخلفية للولايات المتحدة بدلا من أمريكا اللاتينية ؟ هذه هي الأسئلة التي ستحدد مصير الشرق و علاقته بمركز الإمبراطورية و التي لا يمكن لعاقلين أن يختلفا في الجواب عليها , التغيير يقع بالفعل , الشعوب تثور , واحدة تلو الآخرى , و تفرض التغيير , سواء أرضى ذلك كلينتون أم لا , و سواء أكان هذا في مصلحة احتكارات العالم الرأسمالي أم لا , نحن مجرد عبيد نحلم بالحرية و العدالة و ليس ذنبنا أن الإمبراطورية لا تستطيع العيش دون مص دماء العبيد , هذه مشكلتها هي … تبقى القضية في الأيام القادمة باختصار : هل ستنجح الإمبراطورية و قوى الاستبداد القديمة و الحديثة في فرض تغيير فارغ من المضمون أم أن الشعوب ستتمكن من فرض تغيير حقيقي ديمقراطي و مساواتي و عادل , و في هذه الأيام التي تتصاعد فيها الآمال بالحرية و العدالة و تتطاول إلى حدود السماء يبقى السؤال هو نفسه على الدوام , أن نكون أو لا نكون ………..
خاص – صفحات سورية –

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى