صفحات الشباب

ماذا يقرأ الشباب؟ ماذا يشاهدون؟ كيف يصنعون ثقافتهم؟

أحمد ياسين
المجلد السنوي الجديد، الصادر حديثاً لـ”تجمّع الباحثات اللبنانيات” تحت عنوان: “الممارسات الثقافية للشباب العربي” (كتاب “باحثات” الرابع عشر 2009 2010)، يُوثّق، وبعمق، للحراك الثقافي الحالي للشباب العربي المعاصر (في بلدانه الأم، وفي بلدان المَهاجر/ الشتّات)، أي الشباب المتراوحة أعمارهم (من الجنسين) ما بين 15 سنة و24. فنحن، هنا، نطّلع على وجوه الريادة الآنية لهذا الحراك التفاعلي، بوَقْع تداعياته التبادلية في التأثير والتأثّر، الشخصي/ الخاص، والمجتمعي/ العام، معاً، وذلك من خلال الوقوف على أبرز مقوّماته وملامحه، وما يكتنف مظاهر ودخائل الدوافع والخلفيات المباشرة وغير المباشرة لكل مجريات وقائع معطياته الراهنة بتنويعاتها كافة، مع استشرافات آفاقها المستقبلية.
أربعة وعشرون باحثاً وباحثة عرب وأجانب شاركوا في تأليف هذا الكتاب بمقارباتهم المختلفة التي جاء بعضها باللغتين الإنكليزية والفرنسية، والتي اضطلعت جميعها بإضاءة جوانب أساسية وهامة عديدة ومتنوعة من ممارسات الشباب العربي الثقافية والترفيهية، في منحيَيَها الإنتاجي والاستهلاكي، تلك الممارسات المتمثّلة بتلقّي واستهلاك أشكال التعابير والمنتجات الثقافية المختلفة: من المؤلفات الكتابية: كالرواية والقصة والشعر، والفنون: ومنها التشكيلية، كالرسومات والمنحوتات؛ والبصرية والأدائية كالرقص والأفلام والمسلسلات والمسرح، واليديو كليب؛ والموسيقى بأنواعها الحداثية: كالرّاب والهيب هوب إلخ… علاوة على النظر أيضاً الى تفاعل الشباب العربي مع هذه التأثيرات الثقافية من خلال إنتاجهم الخاص، الذي يتنوّع بين الغناء والموسيقى والمرئيات والأداء، الى إنتاج المسرحيات وكتابة الروايات، واستخدام المدوّنات كوسيلة للتعبير عن القضايا التي تهمّهم.
وهكذا توزّعت محتويات الكتاب على مقدّمة تشرح بعضاً من الخلفية المفاهيمية التي شكّلت منطلقاً للتعريف بموضوعه مع تبيانها لمقتضيات الغرض من إصداره، كما حملت تلخيصاً لمضمون محاوره الثمانية من خلال بلورة توضيحية لأبعاد توجهاتها.
يقدّم المحور الأول مشهداً عاماً للممارسات الثقافية للجامعيات اللبنانيات، كمشاهدات وقارئات ومستمعات. ويستعرض الثاني طبيعة “الهويات الشبابية المتحوّلة”، والثالث يتناول “هموم القراءة والكتابة” ويحدّد الرابع “الوسائل الثقافية الجديدة” للشباب، كالإنترنت، مثلاً والخامس يتتبّع خُطى “سياسات ثقافية ترويجية أو دعائية”. ويدرس السادس “كتابات وعروضاً وشؤوناً مسرحية”، على أن “حيوات الشباب” التزاماً وترفيهاً يرصدها المحور السابع، كما أن “شهادات الشباب” المساهمين في هذا الكتاب يضمّها المحور الثامن والأخير.
في سياق ما رصدته الباحثتان منى حرب ولارا ديب، بدا وكأن الشباب في ممارساتهم الثقافية، يتوسلون أشكال هذه الممارسات من أجل التفاوض مع محيطهم حول بناء هوياتهم الاجتماعية والشخصية.
ففي الضاحية الجنوبية لمدينة بيروت، مثلاً، يظهر نزوع الشبان والشابات لإعادة تشكيل الحيّز المكاني وإعطاء معان متجددة لإيمانهم الديني؛ وذلك في عملية تفاوض لا تهدأ بين حاجاتهم لاختبار معيشهم الشبابي المغاير لمعيش أهلهم، ورغباتهم المُعلَنة بالبقاء تحت مظلّة الضوابط الدينية. وهم يسوّغون لخياراتهم الهجينة بين الأشكال المستحدثة وبين الإملاءات السلوكية من طائفتهم بالإحالة الى مراجع من تلك الطائفة نفسها.
وعلى نحو شبيه، ووفق مريم القزّاح، يقوم الشباب المغربي في هولندا، مثلاً، باستكمال تجارب الشباب المسلم في بلدان أوروبية أخرى، بتبنّي الأشكال الحديثة للتأليف الموسيقي والغناء، وبتطويع المُنتج الغربي التكنولوجي وتقديماته لحاجاته الترفيهية، من أجل إثبات الهوية المغربية المهاجرة وتفرّدها. وبسبب جهل الشباب المغربي من الجيل الحالي باللغة العربية، وبسبب تشاركهم والشباب الهولندي في الحيّز المكاني والكوني، فهم يشاركونهم الذائقة الموسيقية، ويُتقنون وسائل تعبيراتها ويقومون، عبرها، بالتواصل مع المجتمع الهولندي، وطالبين، عبرها، القبول بهم، وكسر التنميط الذي لاحقهم منذ كارثة الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول الذي بات معلماً زمنياً فاصلاً في حيواتهم.
وتستعرض يُمنى شلالا تجربة تعليمية قامت بها شخصياً مع زميلات لها، في ورشات عمل فنية في مراكز وسط محلية في سان فرنسيسكو لشباب عرب. في هذه الورش تعلّم هؤلاء الشباب فنوناً متنوّعة راوحت بين تصوير اليديو والرسم، وهي تبيّن كيف كانت هذه الفنون مجالاً لتعبير هؤلاء الشباب عن إحساسهم بذواتهم وعن الاتجاهات الخلافية بينهم وبين أهلهم ومحيطهم، لتخلُص بأن العربي الشاب في الشتات يكتشف، عبر الفنون، كيف أن الأنظمة الحالية تُتيح له تعزيز هويته الأصلية؛ لكنها تدعم، في الوقت نفسه، بناء هويته الجديدة.
وفي تحليله للإنتاج الموسيقي للشباب الفلسطيني في المخيمات الفلسطينية في لبنان يبيّن نيكولا بويغ كيف يوفّق هؤلاء بين التعابير الوطنية والثورية التي تعبّر عن هموم الجماعة، والتي باتت تقليدية بعض الشيء، وبين التعبير الشخصي، الذاتي، فيدخلون السلْطنَة الى المارشات العسكرية مثلاً، ويعبّرون عن انشغالاتهم اليومية، الرومانسية، الغزل مثلاً، وصعوبات الحياة اليومية للاجئين، مازجين التراث بالحديث في توليفة متناسقة مع الذائقة المحلية والشبابية والكونية، في آن معاً.وفي انتقالهم بين الأنغام المختلفة، من الشعبية والوطنية والطرب العربي والتعابير الارتجالية الناقدة، إنما يُعبّرون عن هوية متأرجحة، تنتمي الى واقع المخيمات كما الى الفضاء العربي والعالمي اللذين تربطهم بهما علاقتهم بالشتات، وحيث تبدو فلسطين حلماً بعيداً، والبحث عن حلول للحياة اليومية أكثر إلحاحاً.
في مصر تنظر جنيفر بيترسون الى اختبارات المصريين الشباب، في إنتاجهم للموسيقى والغناء الشعبي الراقص، يتبنّنون أجواء المولد في إبداع ثقافة شعبية جديدة مشاغبة، تعبّر عن شحنات الطاقة لديهم. وهي أنغام وموسيقى تستفيد من الأدوات الإلكترونية الشعبية لإنتاجها وبثّها بواسطة أشخاص غير متخصّصين، لم يخضعوا لمنهج دراسي نظامي لتعلّم اصولها؛ هؤلاء توسّلوا الحواسيب المنزلية لإنتاجها، أو قاموا بارتجالها في الحفلات والأعراس الشعبية، خصوصاً حيث تُعزف لكل الناس. ومن ثم نشروها بوسائل النشر المتاحة للجميع، والخالية من عوائق وشروط النشر التقليدية كي تملأ على ما تقول الفضاء السمعي، بحيث يقوم البلد بأكمله للرقص على أنغامها.
وتفحص الباحثة الأسلوب الذي يقوم فيه هؤلاء الشباب بمصالحة روحانيات المولد وبراءة وسائل الترفيه البسيط فيه مع مشاغبة الشباب وانشغالهم بالشبع الحسي.
وبخلاف بيترسون، تتناول ماري تريز عبدالمسيح الإنتاج المرئي (لوحات زيتية، غرافيك، فوتوغرافيا، يديو، كاريكاتير) لفئة شبابية على قدر من “النخبوية” اكتسبت صفتها هذه من كونها عُرضت في معارض جماعية في القاعات التابعة للدولة، أو حتى خاصة. وفيها رصدت الباحثة تعبيرات متناقضة نجمت، برأيها، عن تفاعل الشباب مع العناصر المجتمعية والتغيرات التاريخية.
وهذه تعبّر عما يسعى هؤلاء الى نقده وتغييره من الخطاب السائد، لكنها، في الوقت نفسه، تمثّل تورّطهم في إعادة إنتاج الخطاب نفسه. ولما كان الشباب في حراك لا يستقرّ، وفي محاولة دائمة لإعادة تعريف الهوية، فهُم يرفضون الالتزام بالتقليد والثابت، فـ”غدت الممارسات المرئية، بتعدّد أنواعها، لغة تمثيل ووسيط اتصال بين الشباب، يتبادلون بموجبها رسائل دالّة على مناهضة المستقرّ، وفي محاولة للاستقلال تشوبها بعض التناقضات”.
ولا يشذّ الشباب الكويتي في هذا المضمار. وتجد وطفاء حمادي التي درست نصوصاً مسرحية لشبان وشابات كويتيات، وتابعت عروض بعضها، أن نزوع المسرحيين الشباب منهم الى الاستعانة بالتقنيّات البصرية والسمعية الحديثة فاق في تمرّده على التقليد مضمون هذه المسرحيات، فكأنه يستعين بـ”ثورة” التقنيات بديلاً عن مواجهته المباشرة مع التقليد. فبدا نتاج الشباب المسرحي عبثياً وهروباً الى الأزمنة الإنسانية العامة، مفتقراً، بذلك، الى الفردية وعلى درجة من التشظّي والتفكيك.
يُراوغ الشباب للتعبير عن خطابهم، فيلجؤون الى التراث الشعبي أو الأسطورة مستلهمين منهما بعض أفكارهم ومُستلّين منهما شخصيات أسطورية ترمز الى شخصيات في الواقع الاجتماعي والسياسي تجنباً للمواجهة والصدام. يبدو وكأن مسرح الشباب اليوم لم يعد يشغله هم البحث عن الهوية العربية أو القومية، كما كان لدى جيل الستينات والسبعينات؛ بل صار المسرح وسيلة لطرح الأسئلة عن الهوية الفردية، عن موقف الشباب من الآخر ومن الأسرة، عن الدولة والأقليات وعن معيشهم اليومي. فهؤلاء الشباب يُهاجرون ويخشون فقدان هويتهم؛ وهذا ما توصلت إليه ميسون علي من خلال تناولها لعروض مسرحية سورية تطرقت الى موضوع الهوية وربط الشباب له بقضية الحرية.
تستمر هذه المساءلة عن الهوية في مسرح الشباب الجزائري الذي ركزت عليه جميلة الزقاي في دراستها، والذي لا يختلف كثيراً عن مساءلات الشباب التي طرحت في المسرحين الكويتي والسوري، يسعى هؤلاء الشباب في مسرحهم الى ايجاد صيغة اخرى مجاوزة لأطروحات الجيل المسرحي السابق.
ويبرز في هذا السياق فنانون جدد من بين الشباب اللبناني يتمتعون بامتيازات طبقية وثقافية، معارضون للأنظمة السياسية العربية برمتها؛ بل هم شكاكون بأهليتها أصلاً، يؤلفون ثقافة فرعية مغايرة للسائد، ويملكون حرية الانطلاق في اختباراتهم الفنية ـ الموسيقية تحديداً ـ دون التقيد بأي من المعيقات الثقافية الاجتماعية أو الاعتبارات المحلية. ويوثق لانطلاق هؤلاء الشباب، الواثق من سلطان هويته وغير القلق حيال أصالتها، الباحث توماس بوركهالتر الذي يقتبس من كلام المنتجين الموسيقيين عنوان دراسته: “نحن الحكومة الجديدة!”. ففي موسيقاهم يتجلى التجديد في أشكال متنوعة، تبدأ باعادة اخراج للتراث، ولا تنتهي عند التفلت الذي يصل الى حد تصبح معه ضجة بيروت هي الموسيقى! ويرى الباحث أن هذه الضجة، وبحسب قول هؤلاء، بمثابة تعبير عن “الأصالة” في هذه الموسيقى لأنها توثق للذاكرة السمعية لبيروت ـ مكان سكنهم الأصلي.
ويبدو كأن الفنانين اللبنانيين الجدد غير معنيين بالسوق المحدودة الانتشار لموسيقاهم لبنانياً وعربياً، وغير مهتمين بتعميم الذائقة بها، فهم أقرب لأن يكونوا كونيين من محليين، موسيقاهم تستهلك في الخارج، وكذلك تمويل جهودهم الفنية.
وعن القراءة ومصيرها بين ظهرانينا، قام محمد بن زينا من تونس، مثلاً، عبر تحليل نتائج بحث شمل عينة ممثلة للمراهقين في تونس، بتقصي أسباب انخفاض الاقبال على ممارسة المطالعة، وذلك برغم إيلاء الدولة التونسية المسألة اهتماماً تجلى في انتشار المكتبات في أنحاء البلاد وتغذيتها تباعاً بالمؤلفات. وعلى الرغم من الحملات الوطنية المتكررة الحاثة على القراءة.
ولعل النتيجة الأكثر إثارة للاهتمام في نتائج بحثه الميداني تمثلت في استواء مشاهدة التلفزيون عاملاً مشوشاً على ممارسة المطالعة، فيما بدا الابحار في الانترنت عاملاً مساعداً عليها، لكن المطالعة، بدت أيضاً، ممارسة مرتبطة بالانجاز المدرسي الظرفي، بالضرورة، أكثر من كونها تمارس لمتعة معرفية مستقلة، ورغبة بالاطلاع بحد ذاتها.
وتتساءل رجاء فنيش ان كانت الوسائل الرقمية قد غيرت بأساليب القراءة عند الباحثين التونسيين الشباب، وهل استفادوا من كل الامكانات التي تتيحها، مما يبشر بعلاقة جديدة تفاعلية مع النص المكتوب.
إلى ذلك تعالج كلاديس سعادة مسألة أثارت حيرتها، مصدرها وجود أولاد فتيان غير قادرين على القراءة بسهولة، وغير قادرين على فهم نص فرنسي أو إنكليزي، ماثلين أمام شاشات الانترنت لساعات طويلة. فاذا افترضنا ان مستخدم الانترنت هو بالضرورة قارئ، بلغة أجنبية، فماذا يفعل هؤلاء الفتيان إذاً؟ للاجابة على سؤالها تقصت الباحثة في اطار دراسة استطلاعية، أحوال ستة عشر منهم، فتياناً وفتيات جلهم على وشك التساقط من النظام التعليمي النظامي، لا يقرأون من الكتب الا ما اضطرتهم اليه واجباتهم المدرسية. أما استخدامهم للانترنت فهو اجتماعي أساساً للتحادث والتواصل بالعربية المحكية، لكن بالأحرف اللاتينية، مع آخرين، وللبحث عن معلومة جزئية يستحصلون عليها عبر غوغل، وهم قلما يبحثون عن نص مكتوب، بل يتركز بحثهم أساساً على الصور: صور فنانين أو رياضيين أو سيارات، الخ…
يدعو أحمد بيضون، في نص تأملي الى خرق حجاب العادة “لاستعادة الشعور بالنعمة” لتوفر الكتاب في أيامنا للجميع، والى الاعتراف بجهد الكاتب المبذول ب “كرم” لكن الكاتب “أهل كرم” محتمل، ومشروط وجوده، بوجود قراء له. ويدعو بيضون الى اعادة تعريف المطالعة لتشتمل على السماع والمشاهدة الطاغيين في أيامنا، فلا الصوت ولا الصورة “يصادران شيئاً من جلال الكلمة المكتوبة.. والحاجة اليها”.
واذ يبدو بيضون مطمئناً الى سيادة الكلمة المكتوبة، تكتب رشا الأمير في شهادتها بلهجة فيها قدر غير قليل من الخيبة.
فهي بذلت الكثير في مؤسستها النشرية “المنمنمة” في بلادنا المشغولة بالتقاتل وبتبديد الموارد الهائلة على ما لا يلزم، والتي تبخل، في الوقت نفسه، على الكتاب. واذا كان لا مفر من الانصياع الى “أقدارنا التكنولوجية”، فاستقبلنا الكتب الالكترونية، مثلاً بترحيب، فهي لن تحل ما “نشكو به من أمراض”؟ فالتكنولوجيا بمستعمليها وصائنيها ومطوريها.. “أليست الخيل بفرسانها وفارساتها؟ أفليست الجامعات بعلمائها؟ والكتب بقرائها وبالباحثين عنها في أبعد البقاع”؟
وفي بحثها عن التربية في شبكات المدارس الشيعية في لبنان بينت كاترين لوتوما دور التنشئة الاجتماعية الذي أوكلته المناهج التربوية للمسرح، حيث يكون فيه الشباب كتاباً وممثلين ومخرجين، وبالطبع مشاهدين.
وهي توسعت في دراسة ثلاث شبكات منها: مدارس العاملية والمصطفى والمبرات، حيث يعطى للمسرح في الحالة الأولى طابع التسلية والحث على المواطنية، ويعبر عن هوية اسلامية وهادئة، فيما يبث المسرح في الحالة الثانية مفاهيم الالتزام الديني ـ السياسي ـ النضالي، رديف المقاومة (مقاومة اسرائيل). وتستخدم مدارس المبرات المسرح كأداة معرفية، تعالج تيمات متنوعة، دينية أو أخلاقية أو اجتماعية. في دراستها للحالات الثلاث تبرز مثالات لهويات مرتجاة، تعكس اتجاهات سياسية متباينة، وتصورات لمواقع الطائفة الشيعية في النسيج المجتمعي اللبناني.
وتبحث آمال حبيب في مكانة الممارسات الثقافية ضمن برامج التنمية الشاملة، كأدوات تواصل وتكوين تهدف الى التأثير على سلوكيات الجمهور، الشباب منه خاصة، واحداث تغيير في العقليات. يتمحور العديد من البرامج في لبنان حول القضايا البيئية مثلاً، ومنها ما يهدف الى تحسين صورة المؤسسات الاقتصادية، وهي، في غالبيتها تستهدف جيل الشباب، متوسلة الممارسات الثقافية، لتنقل عبرها المعارف بين الأجيال، وتبث قيم الحوار والتضامن والسلم.
ويدعو راشد دياب الى العقلانية في اتباع سياسات تربوية وثقافية تدفع الشباب الى اكتشاف معنى الهوية واختبار الحرية، لتكون الأساس الصلد لبناء شخصياته. وهي سياسات يجب ان تقوم على التجدد الذهني والعلمي وفكرة التفرد والتمييز، ما يسمح باكتشاف المواهب، ويدفع الانسان لاحترام ميوله، من خلال تكثيف النشاطات والممارسات الثقافية لاكتشاف القدرات، والتدريب عليها، واتاحة الفرص للعمل الابداعي. ويرى ان يتضمن المنهاج التعليمي للفنون التطبيقية ما يؤسس لقيم جمالية وسلوك حضاري واستيعاب لفلسفة الفنون.
كما قامت رجاء نعمة باستعراض تاريخي لتطور الأزياء في بلدتها الجنوبية، صور، على خلفية التطورات التي مرت بها، ومر بها البلد بأكمله، لتبين تأثيرات الأحداث عليه، الاجتماعية والسياسية، الهادئة والصاخبة، وتفاعلها مع املاءات العصر وخصائص المجتمع اللبناني، لا سيما ما يتعلق منها بتنوع جماعاته، وشيوع الهجرة بين أبنائه، وهي تناولت حجاب الشابات الصوريات، محللة المعاني الكامنة خلف تنوعاته على أرضية الحجابات التي سبقته، والاتجاهات التي أحاطت به، ان في القبول به أو في رفضه، او في استعادته واستقراره، رمزاً لتأكيد الهوية في الداخل وبمواجهة الآخرين في الخارج.
ويرى نادر سراج ان الميل لاستخدام المفردات اللغوية ذات الطابع الشبابي والعفوي ظاهرة معروفة عندنا، وهو يعرض في مقالته نماذج منها، ويقوم بتحليل دلالاتها النفسية والاجتماعية، مشيراً الى معانيها المستوردة والمعلنة، والى بناها اللسانية العربية والأجنبية والبين بين، ليثبت كونها نسقاً تعبيرياً موارباً وموازياً يعمد جيلنا الشاب الى انتاج مفرداته واستهلاكها، تعبيرا عن رغبة دفينة في استحضار معالم خطاب غير مكشوف، وتجاوز دائرة الممنوع والمحرم.
أما دراسة وعد ابراهيم الميدانية فقد تقصت آثار مشاهدة المسلسلات التركية المدبلجة الى اللغة العربية، على عينة من شباب الموصل ـ العراق، تقع في هذه المنطقة.
ومن النتائج الميدانية لدراسته ان مشاهدة هذه المسلسلات تتمدد على مساحة وقت الشبان والشابات، وباتت من نسيج تفضيلاتهم واتجاهاتهم، ومعتقداتهم. فان التوظيف العاطفي المحيط بهذه المسلسلات مؤثرة في حيواتهم على أكثر من صعيد، بسبب ما توفره لهم من فسحة آمنة خارج العنف والتوتر السياسي، وخارج التقييدات الاجتماعية التي يرزحون تحت وطأتها.
وقد بينت حنان الحاج علي الارادوية المتمثلة في جمع المسرحيين الشباب في اطار عمل جمعوي هو تعاونية “شمس” وضعت استراتيجيتها مجموعة من الشباب الفنانين من مسرحيين وسينمائيين وغيرهم. بالاضافة الى المخرج روجيه عساف.
ويبدو ان الجيل السابق لم ينقطع في تواصله عن الجيل المسرحي الشبابي في لبنان، اذ يقوم المسرح في جمعية شمس بدفع هؤلاء الشباب لكي يبادروا ويقدموا مسرحهم.
وفي اطار حماس الشباب العربي المعاصر للوسائل الحديثة ولمتونها، تشير كثافة استخدام الانترنت، والشيوع النسبي لاقتناء الحواسيب المنزلية، لدى العينة من الشباب اللبناني في دراسة مود اسطفان ـ هاشم وعزة شرارة بيضون الى اندفاع هؤلاء الى مشاركة العالم في حماسه للتقنيات الحديثة، وفي اندفاعه للاستفادة من الامكانيات الهائلة التي توفرها. هذه التقنيات تبدو غامرة الوجود وتحتل مساحة واسعة من أوقات وانشغالات هؤلاء في سياق استهلاكهم الثقافي على اختلاف متونه وظروفه: الصورة والكلمة والصوت، وسبل الاتصال والتفاعل ومساحاتها.
الى ذلك فان الباحثة الأصغر سناً من الذين اسهموا في اصدار لهذا الكتاب وهي فاطمة علي تؤكد في مطلع دراستها ان الشباب هم أكثر الفئات تفاعلاً لجهة التأثير والتأثر بسبب ما توفره التكنولوجيا ـ ملمح العصر الأهم ـ من فضاءات ومواقع للتعرف الى الذات، وللتعبير عنها أمام الغير، وللتفاعل مع الآخرين، فهذه مساحة للحرية وسجل ذاتي حميمي ومعبر الى دمقرطة الثقافة.
هذا وقد عبر الشباب والشابات المدونة شهاداتهم هنا في المحور الأخير من الكتاب وهم من دول عربية عدة، وغالبيتهم مبدعون وفنانون، عبر هؤلاء من خلال هذه الشهادات عن السبل المتنوعة لحصولهم على الاعتراف والتقدير والتشجيع المجتمعي لنشاطهم الفني، لكنهم عبروا ايضا عن معاناة لم تثنهم عن مساعيهم الثقافية.
[ الممارسات الثقافية للشباب العربي
[ (575 صفحة من القطع الكبير ط. أولى 2010)
[ الناشر: تجمع الباحثات اللبنانيات ـ بيروت
[ التوزيع: خارج لبنان: المركز الثقافي العربي في لبنان: دار نلسن
[WWW.NEELWAFURAT.COM
[WW.ADABWAFAN.COM
ارسل هذا المقال الى صديق     اطبع هذا المقال
المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى