صفحات الشباب

الشباب في لبنان وانتفاضتا تونس ومصر

* نرمين الحرّ
المشاركون: عمر ديب (رئيس المجلس الوطنيّ في اتحاد الشباب الديمقراطيّ اللبنانيّ)، لين هاشم (ناشطة في “نِسويّة”)، ربيع صلاح (ناشط فلسطينيّ والمدير التنفيذيّ لجمعيّة “أجيال”)، سارة أبو غزال (رئيسة تحرير صوت النسوة)، طارق قيشاوي (طالب جامعيّ وناشط فلسطينيّ)، باسم شيت (عضو مؤسِّس في “التجمّع اليساريّ من أجل التغيير” و”المنتدى الاشتراكيّ”).

في شوارع لبنان، شبابٌ يتنسّم النزاهةَ والعدالةَ وأحلامَ الحريّة من انتفاضتيْ تونس ومصر. فتراه يسأل عن حال الأولى يوميًا خوفًا عليها من التبدّل. كان ذلك قبل أن ينزل، على شكل تحرّكاتٍ عفويّة، أمام السفارة المصريّة صارخًا: “إلحقوها، إلحقوها، المَصَرْوة ولّعوها،” ومخاطبًا مبارك مباشرةً رابطًا التسلّطَ العربيّ بالعدوّ الصهيونيّ: “كلّموه بالعبري، مبيفهمش عربي”.
كيف ينظر الشباب في لبنان إلى ما جرى ويجري في تونس ومصر؟ هل غيّر قناعاتٍ لديهم؟ وهل في انتفاضة تونس، تحديدًا، ما يتّخذونه عبرةً في لبنان، الذي لا يعاني مشاكل أقلّ من حيث الغلاءُ والبطالة؟ وما هي التحديّات من أجل الانتفاض على النظام اللبنانيّ، المبنيّ على الطائفيّة والاستزلام والظلم الاجتماعيّ؟
ها هي إرادةُ شعبٍ تطيح الطاغية
عمر ديب
ثورة تونُس بدأتْ بانتفاضةٍ شعبيّةٍ في الأقاليم البعيدة، أو النواحي كما تسمّى باللهجة التونسيّة. ثم امتدّت رويدًا رويدًا بين صفوف المواطنين بفضل تماسك الحركة النقابيّة التي كانت تحمل مطاليبَ تلك الثورة، وبفضل حراكٍ اجتماعيٍّ وسياسيٍّ وحزبيٍّ أصرَّ على مواصلة النضال والمراكمة على النجاحات المحقّقة.
قبضاتُ مناضلين تهدم عروش الظلم والقهر! حناجرُ آلاف، وآمالُ ملايين، تجعل من حلم إزاحة الديكتاتور حقيقةً فرحةً في نفوس شعب تونس ونفس كلّ مواطن عربي حرّ. ها هو اللهبُ الذي ضرب جسد محمد بوعزيزي يُلهب ثورةً، ويُحْرق جسد بن عليّ ويحوّله رمادًا تناثر في تونس.
ما حصل في تونس هو درس في السياسة لكلّ الشعوب العربيّة والشعوب القابعة تحت القهر: أنّ التغيير ممكنٌ رغم الصعوبات، وأنّ صوت الشعب مرتفعٌ رغم الصمت السائد، وأنّ النضال النقابيّ والطلابيّ ليس ترفًا يمارسه بعضُ أزلام السلطة بل واجبٌ نضاليّ يستوجب التضحيات لتحقيق المكاسب في السياسة كما في الاقتصاد والمجتمع.
إنّ لبنان يواجه منذ سنواتٍ طويلةٍ وضعًا اقتصاديًا صعبًا سبّبتْه سياساتُ أهل السلطة المتعاقبة بتشكيلاتها كافّةً؛ وضعًا يستوجب تحرّكاتٍ شعبيّةً مطلبيّةً لا تقلّ عما حصل في تونس. لذلك نسعى إلى تشكيل رأي عامّ ضاغط، وقوةٍ اجتماعيّةٍ محرِّكةٍ تعمل في الشارع من أجل حقوقنا الاقتصاديّة: من أجل ربطة الخبز والموادّ الغذائيّة الأخرى وأسعار المحروقات المدعومة، من أجل حقوقنا في التعليم والصحّة والضمان، من أجل وقف الهجرة وحقّنا في العمل في وطننا، ومن أجل حقّ السكن في شقّةٍ يُحرم منها الكثيرُ من اللبنانيين اليوم… إلا في أضغاث أحلامهم.
لا ننكر أنّ واقع لبنان أشدُّ تعقيدًا من الواقع التونسيّ، بحكم التنوّع الطائفيّ وكثرةِ الأطراف الخارجيّة ذات المصالح في لبنان. ويتكامل هذان العاملان فينتجان نظامًا يستدعي تدخّلََ الخارج لتقوية زعيم هذه الطائفة أو تلك في لعبة الموازين. هذا النظام، المركّب والراسخ منذ عقود طويلة بلا تنازلاتٍ تُذكر، يَطيب له ويَسْهل عليه تحويلُ كلّ حراكٍ مطلبيٍّ يتهدّد أحدَ مكوّنات النظام الاقتصاديّة أو السياسيّة إلى ورقةٍ أخرى في بازار الطوائف، فيتمّ حرقُها أو وضعُها على الرفّ في أحسن الظروف. هذا ما حدث مرّات عدّة: مع البرنامج المرحليّ للحركة الوطنيّة، وغير ذلك من تجارب كادت ان تكون مرشّحةً لتحقيق حلم التغيير. وهذا ما نعيه اليوم، وما نخشاه على مستقبل الحركة النضاليّة الشبابيّة في لبنان. وهو ما يجعل نضالَنا مضاعفُا، وأدواتِ تفكيكه بين أيدي الخصم (النظام اللبنانيّ) أشدَّ فتكًا من أدوات القمع التي امتلكها النظامُ التونسيُّ وأمثالُه في الدول العربيّة الأخرى. لكنّ المهمّ هو أنّ تجربة تونس زرعت الأملَ ونشرتْه عبيرًا قد تحمله نسماتُ الربيع إلى أرجاءِ ساحاتٍ نضاليّةٍ أخرى. ونحن سنبني على هذا الأمل، وسننتظم أكثر في تجارب نضاليّة جامعة توحِّد طاقاتٍ متنوّعةً تحمل في تجاربها مشروعًا للتغيير السياسيّ والاقتصاديّ والاجتماعيّ العامّ.
إنّ صدى صوت المناضلين في تونس يرنّ اليوم في آذان شباب لبنان. ونأمل أن يكون شعبُ لبنان وشبابُه على قدر التحدّي، فينتفضوا لكرامتهم ولحقوقهم، ويحقّقوا ولو جزءًا منها. لقد رأينا كيف صار بن عليّ في مزبلة التاريخ، وكيف يتناتش تجّارُ الهيكل وورثةُ الطاغية بقايا النظام برعايةٍ دوليّة؛ لكنّ شباب تونس كانوا وسيكونون على قدر التحدّي، وسيجعلون من كل طاغية هاربًا آخر إلى أحضان من يحميه من غضب الناس.
إنّ نضالنا يجب أن يضع أمام ناظرنا هدفًا: أن نجعل من كلّ طاغيةٍ بنَ عليِّ آخرَ، ومن كلّ دولةٍ مقهورةٍ تونسًا أخرى، ومن كلّ قمعٍ سلّمًا للوصول إلى الحريّة، ومن الجوع نبراسًا لتحقيق الخبز، ومن النار نورًا يضيء دربَ الشعوب الأخرى.
شكرًا تونس؛ فقد بعثتِ الآمالَ من جديد، أضأتِ أحلامًا كانت خامدةً، وعلّمتِ الكثيرين كيف تكون الثورةُ الشعبيّة.
رفيقاتي التونسيّات نزلن الشارع، لكنّ التحدّي مازال أمامهنّ وأمامنا
لِين هاشم
منذ سماعي خبرَ الإطاحة ببن عليّ، اعتراني فرحٌ عارمٌ لم يساوِهِ إلاّ خوفٌ عارمٌ من خطفِ هذه الثورة كما حدث في الثورات التي أُجهضتْ على أيدي أبنائها وبناتها. فكيف أثق بالإسلاميين أو باليساريين، والذكوريّةُ بكلّ أشكالها تَحْكم إيديولوجيّتهم؟
في رأيي، كناشطةٍ نِسْويّة، أنّ أهمّ ما في ثورة تونس هو أنّها أثبتتْ أنّ الثورات لا تُصنع “أونلاين” [على الشبكة العنكبوتيّة]، ولا في أوقات الفراغ، بل تُصنع بالقهر والنار والحديد والدم. وكان هذا مثالاً ضروريًا لنخرج من نضالاتنا الوهميّةِ، المطليّةِ بماء الذهب والقهوة والتنظيرات.
في لبنان، لدينا أكثرُ من ديكتاتور نثور عليه: من الفقر، إلى الفساد، فإلى الذكوريّة، والعمالة، والطائفيّة وأسيادها، والإقطاع، والأمراض الاجتماعيّة، والتسليح، والعنصريّة، وغيرها. دكتاتوريّاتنا واضحة ومقنّعة، لا يرْصدُها ويحاربُها إلاّ وعيُنا كشباب وشابّات، وتحديدًا كنِسْويّات. وعينا النِسْويُّ يجب أن يترجمَ نضالاً حقيقيًا على الأرض: إضراباتٍ، واعتصاماتٍ، ومخيّماتٍ، وعصيانًا مدنيًا، وأكثر، حتى نحصل على مطالبنا المحقّةِ في البلد، دستوريًا وقانونيًا واجتماعيًا. لكنْ لا تتوجّب علينا صناعةُ الثورة فحسب بل حمايتُها كذلك من أن تؤُول مكتسباتُها إلى سلطةٍ ذكوريّةٍ تبطش بنا أكثر بعد أن تُحرّر “الذكورَ” من الجوع.
لقد شاركت النساءُ عبر التاريخ في كلّ الثورات، وأوهمهنّ الرجالُ أنّهنّ “مساوياتٌ” لهم. لكنْ، فور نجاح الثورة، كنّ يَعُدن إلى المنازل من دون أن تترجَمَ يومًا نضالاتُهنّ. أذكر أربعة أمثلة: 1) رواندا. في الحرب الأهليّة في رواندا، قاتلت النساءُ إلى جانب الرجال (اليساريين)، لكنّ الأمر انتهى بهنّ الى التعرّض للاغتصاب وتحجيم أدوارهن وعودتِهنّ إلى المنازل أخواتٍ وأمّهاتٍ وزوجات. 2) الأحزاب اليساريّة والعلمانيّة اللبنانيّة (كالشيوعيّ والقومي السوريّ الاجتماعيّ). النساء الحزبيّات شاركن في النضال والمعارك، لكنْ فور توقّف القتال عاد الخطابُ الذكوريُّ ليسيطر على هذه الأحزاب، وليلغي دورَ المرأة ويستعيدَ الحديثَ التقليديّ عنها. 3) الجنوب اللبناني. نساءُ الجنوب دعمن المقاومة ضدّ العدوّ الصهيونيّ، لكنْ ما لبث دورُهنّ أن اقتصر على الطبخ للمقاتلين والإخبار بمآثرهم وتربية الأطفال على ثقافة الجهاد، ولم تترجَم النضالاتُ النسائيّةُ على شكل مكاسب سياسيّة ـ اقتصاديّة – اجتماعيّة. 4) تونس. مع الاستقلال، عُدّل الدستور، لكنّ المفاهيم الاجتماعيّة بقيتْ، وظلّت المرأةُ مقهورةً ومستضعفة، مهما حاول نظامُ بن عليّ تجميلَ صورة وضعها. وظلّت الحركاتُ الناطقةُ باسمها أسيرةَ النظام، باستثناء المجموعات النسويّة الراديكاليّة اليساريّة المقموعة والعاجزة عن تحقيق أيّ تغيير حقيقيّ. وعلى الرغم من دور عدد كبير من الرائدات التونسيّات النسويّات أمثال منوبية الورتاني، وحبيبة المنشاري، وبشيرة بن مراد، وتوحيدة بن الشيخ، وغلاديس عدة، فإنّ أسماءهنّ اليوم طيّ النسيان ولا تكاد تُذكر في الكتب والمصادر الرسميّة.
من أكبر وأقدم الحركات النسويّة في تونس جمعيّةُ النساء الديموقراطيّات، وهي راديكاليّةٌ في موقفها من الإسلاميين، وتدعو إلى علمنة المجتمع التونسيّ. من أبرز ناشطاتها: سهام بن سدرين، وراضية النصراوي، وبشرى بلحاج حميدة، وخديجة الشريف، وسهير بلحسن، وفاطمة قسيلة، وقد تعرّضن للاعتداء والملاحقة على أيدي السلطة، وهنّ معروفات بإصدار بياناتٍ قاسية اللهجة ضدّ النظام السابق. بل كانت هذه الجمعيّة أحدَ أبرز المحرّضين على الثورة التي أطاحت ببن عليّ، وصرّحتْ رئيستُها سناء بن عاشور أنّ عليه الرحيلَ فورًا لأنّ الشارع لن يتوقّف، وأنّ وعودَه بالإصلاحات ساقطةٌ وكاذبة.
صديقاتي نزلن إلى الشارع من بداية التظاهرات. منهنّ مَن أُصِبن، ومنهنّ ما زلن يختبئن من ملاحقة الشرطة لأنهنّ مطلوباتٌ من قبل اندلاع الثورة. لكنّ الإعلام دائمًا يهمّش دورَ المرأة في هذا، ويضع الرجلَ في واجهة الثورات. وهذا ما يُشعرهنّ بالغبن. وهؤلاء يخشين وصول حركة النهضة أو غيرها من الأحزاب الإسلاميّة الى الحكم، بما قد يؤدّي إلى إجهاض مكتسبات المرأة وحقوقها.
المجموعات النسويّة اليوم أمام أسئلةٍ وجوديّةٍ وأخلاقيّةٍ جادّة: هل يترجَم نضالُهنّ شراكةً في السياسة والحكم، على أن تكون شراكةً حقيقيّةً فاعلةً لا مجرّدَ ديكورٍ للنظام الذكوريّ الجديد، كما في عهد بن عليّ؟ هل سيَسمح بعضُ النساء لأنفسهنّ مجدّدًا بالتحوّل إلى دمًى بيد نظام “ما بعد الثورة” الذي يدّعي التحرّرَ من الدكتاتوريّة، كما كانت سابقاتُهنّ ممّن تسلّمن وزارةَ “شؤون المرأة”؟
ما أحاول قوله هو أنّ الثورة ليست من أجل الخبز فقط، وليست بإزاحة رأس الفساد فقط، بل أيضًا بالعمل على تغيير جذوره: جذورِ المجتمع، الذي مهما تغيّرتْ أنظمتُه ظلّ يتعامل مع المرأة على أنّها كائنٌ دونيٌّ وتابع. ولئن قام بورقيبة بتعديلاتٍ دستوريّةٍ في مصلحة المرأة، فإنّ التغيير هذا لم ينعكسْ تغييرًا اجتماعيًا على الفئات المهمَّشة من أمثال النساء، والمثليين/ات، وعاملاتِ الجنس وغيرهم/نّ. إذًا، الثورة فعلُ نضالٍ يوميّ، توعويّ ودمويّ، وعلينا كنسويّاتٍ ان نُثبتَ قدرتَنا عليه، وأنّنا جديراتٌ بحمل لقب “ثائرات” كي لا يظلّ المجتمعُ نفسَه، والثورةُ أسيرةَ “كرسيّ رجلٍ واحد.” علينا أن نتوقّف عن نضال الفايسبوك، والخروجُ إلى الضوء.
لم يَعْلموا أنّ النصر مستحيل
ربيع صلاح
في كتابٍ يؤرّخ الثورةَ الكوبيّة قرأتُ: “… لقد انتصروا لأنّهم لم يعْلموا كم كان ذلك مستحيلاً …” والنصرُ هنا للثورة الكوبيّة، والمقصودُ بـ “لأنّهم” ثوّارٌ من أمثال إيرنستو غيفارا وفيديل كاسترو وكميلوا سيينفويغوس (الجنديّ القليل الذكر عندنا) وخوليو أنتونيو مييا (المجهول) في أوساط الناشطين والسائرين على خطوات الثورة الكوبيّة.
قرأتُ الجملةَ عشراتِ المرّات، وردّدتُها في خلجي عشراتِ المرات، ونسيتُ ما قرأتُ من قبلُ ومن بعدُ، ونسيتُ اسمََ الكاتب وعنوانََ الكتاب. لم أستكمل القراءة. شردتُ. فكّرتُ في ذلك الشابّ التونسيّ الذي أضرم النار في نفسه: هل كان يعْلم، وهل علم مَنْ رفعوه رمزًا، أنّ نصرهم قادم؟ هل علموا أنّ المستحيل ممكن؟ أكانوا يجْهلون استحالةَ النصر؟
ولكنْ، من منّا كان يتوقّع ذلك؟ أتت البشارةُ من تونس أولاً، ولم تنتظرْ مصرُ كثيرًا لتأتي لابسةً زيَّها العربيَّ المعهود. أتت لاحقًا، ولكنها تألّقتْ كما النجومُ عاليًا في السماء. تفتّش عن قبلاتٍ بلون الورود. وتونس نمت زهرةً متّجهةً مباشرةً نحو الشمس، لتبرعم.
قبل يومين أو أقلّ، أخبرتنا هالة عن توقها إلى أن يكون شعبُها التونسيُّ ثائرًا “كما الشعبُ في بلادكم…” ولم تكن تعْلم أنّه بعد يومين (أو أقلّ) ستهبُّ في تونس ثورةٌ لم تقبلْ سوى بالتغيير حلاً. لقد كان الشعبُ الثائرُ يعْلم ما يريد، تمامًا كما كان يعْلم ما لا يريد. وفي مصر ليست الحالُ بأقلّ وضوحًا من ذلك.
مرّت لحظاتٌ وأنا مدهوشٌ ممّا أشاهد. ها هي الثورة تصل إلى أصعب الأماكن وأظلمها. ما أشدَّ ما انتظرناكِ!
وكما في كلّ مرّة ها نحن نعيش انتصارًا جماعيًا: من أسطول الحريّة يَفضح المحتلّ الإسرائيليَّ وإجراميّته، إلى انتصار المقاومة في العام 2006 وسابقاتها من الانتصارات في جنوب لبنان، فإلى انتفاضةٍ تأتي من القدس بعد سنواتٍ من قيام وهْمٍ اسموْه “سلطَةً.”
وكما في كلّ مرّة، أرى كيف نطوِّر وسائلَ المواجهة والتمرّد، بل كيف نمارس أبسطَ أوجه المقاومة: الصمود والثبات على الموقف. والأن أذْكر أنّني، منذ سنواتٍ غير قليلة، قرأتُ في دراسةٍ أعدّها باحثٌ برازيليّ في أربعينيّات القرن الماضي ما يأتي: “إنّ مجتمعات أمريكا [المقصود أمريكا الجنوبيّة] تعْلم ما لا تريد، ولكنها لا تعْلم ما تريد.” نحن نتحدّث عن دولٍ نالت “استقلالها” من المستعمر الإسبانيّ والبرتغاليّ في أوائل القرن الماضي، وهي منذ عشر سنوات تقريبًا تعيش حالة نهوضٍ شعبيٍّ لافت، أقامت بموجبه حكوماتٍ ملتزمةً بقضايا شعبها، ومناصرةً لقضايا المظلومين في العالم، ومواجِهةً لغطرسة الولايات المتحدة المتمادية في نشر الفساد والاستبداد في أميركا اللاتينيّة.
أجلسُ على طرف السرير، وكياني مشتعلٌ برياح الثورة في تونس ومصر. أكتبُ أفكارًا عن تصوّري لنهوض “شعب بلادي.” أخرجُ باحثًا عن السبيل (لا ميلانكوليّة بعد اليوم)، عن صدًى للأفكار في الواقع، مقتنعًا بأنّ النصر آتٍ لا محال، ولكنّ دربَ النضال طويل.
الان، أكثر من أيّ وقت مضى، يجْدر بالنسويّات الشابّات اختراقُ فضاءات اليسار وتنويرُها
سارة أبو غزال
لا شكّ في أنّ ما حصل في تونس وامتدّ إلى مصر يؤكّد قناعاتٍ أساسيّةً لي، وللعديد من المهتمّين بالشؤون السياسيّة في المنطقة، أهمُّها: أنّ التغيير المنتظر قادمٌ دائمًا في وقته، ودائمًا في محلّه؛ لا يمْكن تأجيلُه، ولا يمْكن استعجالُه.
هناك مهّمةٌ أساسيّةٌ نراها في صوت النسوة بعد ثورة تونس وخلال ثورة مصر، وهي: ضرورةُ العمل على إنتاج معرفةٍ نِسْويّةٍ معبِّرةٍ عن النساء العاملات والأجنبيّات والمثليّات واللاجئات، ومرتبطةٍ ارتباطًا عضويًا بالمطالب الشعبيّة الاقتصاديّة والاجتماعيّة والسياسيّة في مجتمعنا اللبنانيّ، بحيث تكون مطالبُنا ومعرفتُنا مندمجةً بالمطالب الشعبية ومتميّزةً (مرئيّةً) منها في آنٍ معًا. ونريد لهذه المعرفة أن تمْلك القدرةَ على اختراق جدار الطائفيّة الذي عادةً ما تُسجن النساءُ خلفه، فتصادَرُ حقوقُهنّ وآراؤهنّ.
لدى الكاتبات الشابّات في صوت النسوة إيمانٌ بالشعوب العربيّة، وتحديدًا فئة النساء العربيَّات. لكنّه إيمانٌ لا يخلو من النقد البنّاء. نجد في العديد من المقالات إحساسًا جذريًا بالمشاكل الاجتماعيّة والاقتصاديّة التي نواجهها في لبنان والعالم العربيّ. كما أنّ هناك مفهومًا واضحًا للحرب الذكوريّة الرمزيّة التي تستهدف فئةَ النساء في لبنان وفي أيّ مكانٍ من الوطن العربيّ: حرب تصرّ على تهميش النساء واستعمالهنّ بما يَخْدم الأجندة الليبراليّة التي تصرّ على تحويل كلِّ شيءٍ إلى سلعة، وتحويلِ النساء على وجه الخصوص إلى سلعةٍ جماليّة.
يومَ الاستقلال اللبنانيّ، خصّصنا عددًا في صوت النسوة لمواكبة هذا النهار. كنّا واضحاتٍ في طرح مشكلةٍ أساسيّةٍ في رؤيتنا لمفهوم “الوطن”: إنّه واقعٌ اقتصاديّ سياسيّ اجتماعيّ يعكس حسنَ نوعيّة الحياة المعِيشةِ في ربوعه أو فقرَها. فالإحساسُ بالوطنيّة يكون عبر الحرص على نوعيّة الحياة فيه، لا من خلال خلق انتماءٍ عاطفيٍّ واهٍ، عنصريٍّ ومذهبيٍّ في الجوهر.
من الصعب، بعد التغييرات التي تقع في تونس ومصر، أن يتجاهل الشبابُ والشابّات في لبنان قدرتهم على التغيير وعلى الثورة ضدّ أيّ شكلٍ من القمع والتمييز. والآن، أكثرَ من أيّ وقتٍ مضى، يجدر بالنسويّات الشابّات أن يخرقن فضاءاتِ اليسار، وأن ينوّرنَها، وأن يجعلنها فضاءاتٍ ترحّب بالنساء وتدفعهنّ إلى مواقع القيادة فيها. كما يجدر بالشباب والشابّات في اليسار، أكانوا مستقلّين أمْ في تنظيماته الكهلة، أن يقوموا بنقدٍ واضحٍ للهيكليّات والخطابات التي تُفرض عليهم، وأن يحرصوا على اتّخاذ الصفوف الأماميّة مواقعَ لهم، وعلى أن يُنتجوا خطابًا يعبِّر عن حاضرهم لا عن ماضي آبائهم.
هناك ما يدعونا إلى التفاؤل عند النظر الى المستقبل. ففي تونس ومصر ما يصْلح لأن يكون وحيًا تتجاوب معه بقيّةُ البلدان العربيّة، كما يَصْلح لأن نتجاوب معه في واقعنا الشخصيّ نفسِه. علينا أن نستعمل كلَّ الوسائل المتاحة لنشارك في التغيير! وسنسخّر كاملَ مواردنا لذلك! وصوتُ النسوة هي، بالتأكيد، وسيلةٌ وموردٌ للتجاوب مع الأحداث.
الواقع أنّ شعوب المنطقة تقوم وحدها بالتخلّص من الديكتاتوريّة، من دون تدخّلٍ خارجيّ، ومن دون استخدام من تلطّختْ أيديهم بالدماء والترهيب والظلام. وهذا يعني أنّ القضاء على الأبويّة والذكوريّة أصبح أمرًا شديدَ الاحتمال، إنْ لم يكن حتميًا. فالقمع، بجميع أشكاله وجماعاته وتنظيماته في المنطقة، أمرٌ موقّت، وتونس ومصر خيرُ دليلٍ على ذلك. وهناك واقع يقول إنّه حين تؤْمن الشعوبُ بنفسها يصبح أيُّ أمرٍ قابلاً للتحقيق.
“يوم الغضب” اللبنانيّ وأيّامُ الغضب في تونس ومصر
طارق قيشاوي
من الخطإ تصويرُ ما يحدث في تونس أو مصر على أنّه ثورةٌ شعبيّةٌ لإسقاط الحاكم الطاغية ونظامه الدكتاتوريّ فحسب. فالشعب الغاضب قالها وبصوت عال: لا للفقر, لا للفساد، لا للبطالة، لا للمحسوبيّات، لا لتوزيعٍ فاجرٍ للثروات، لا للتهميش، لا للتغييب, ولا ولا ولا…
إذًا، فالثورة المشتعلة هي ثورةُ عمّالٍ وطلاّبٍ وفقراءَ ومهمّشين، ضدّ طبقةٍ استأثرتْ بالسلطة والقوت والعمل والثروات. ومن هنا يجدر بنا تصنيفُ ما يجري في تونس ومصر على أنه صراعٌ طبقيٌّ لا بدّ له أن يمتدّ إلى كلّ أرجاء الوطن العربيّ.
ما الذي يمنع وصولَ الشرارة إلى لبنان؟ لبنان، على الرغم من غياب الحاكم الواحد، يتنافس مع تونس ومصر من ناحية الاستغلال الذي يمارسه دكتاتوريّو الطوائف والمذاهب. ولا تتردّد الطبقةُ الحاكمةُ في استعمال الطبقة الكادحة وقودًا تُشعل به حروبًا أهليّة، لاسيّما  حين يستشعر هذا الزعيمُ أو ذاك أنّ الجماهير تستقلّ عنه وتتنظم بشكلٍ او بآخر لإسقاط النظام الطائفيّ أو لتغييرٍ اجتماعيٍّ يكْفل لها وضعًا اقتصاديًا أفضل.
إذا راجعنا الحروبَ الأهليّة وتواقيتها أمكننا أن نرى أنّ إشعالها ابتدأ في كلّ مرةٍ حاولت الطبقةُ العاملةُ تنظيمَ نفسها لثورةٍ ضدّ الطبقة الغنيّة والمستغِلّة: من ثورة 58 والمدّ القوميّ العربيّ، إلى السبعينيّات مع ذروة المدّ اليساريّ وحركات الطلاّب، فإلى غليان المخيّمات الفلسطينيّة مع ثورة الصيّادين، وإضراب عمّال معمل غندور، فإلى اعتصامات العام 2008. لكنّ هذه التحرّكات أُجهضتْ، بل فُرّغتْ طاقاتُها بحروبٍ أهليّةٍ ونزاعاتٍ هلك فيها أهلُها.
حاليًا، مع تأجّج الثورات الشعبيّة في العالم العربيّ، وفي الوقت الذي يختنق اللبنانيون/ات جوعًا، ويكويهم/نّ غلاءُ الاسعار، وتطاردهم/نّ البطالةُ، وينهشهم/نّ الفساد، من المعيب أن نقارن يوم الغضب اللبنانيّ [المقصود يوم غضب أنصار سعد الحريري و14 آذار على فوز نجيب ميقاتي برئاسة الحكومة اللبنانيّة ـ الآداب] بأيّام الغضب التونسيّة أو المصريّة. فما حصل في مصر وتونس انتفاضةٌ شعبيّةٌ، في حين كان يومُ الغضب في بعض مناطق لبنان تحريضًا على فتنةٍٍ مذهبيّةٍ تنسى الظلمَ الذي يعيشه الشعبُ اللبنانيّ. والحقّ أنّه حان الوقتُ للتحرّك من أجل محو الصبغة الطائفيّة عن الصراع الطبقيّ في لبنان، ومواجهةِ دكتاتوريّي الطوائف.
تونس نفضت الغبارَ عن قدرة الشعوب
باسم شِيت
‪ما أثبتتْه الثورةُ التونسيّة حتى الآن لا يقتصر على أنّ الشعب التونسيّ نجح في طرد الديكتاتور بن عليّ، بل هي تدْحض أيضًا الحججَ الواهيةَ التي لم يكفّ مثقفو اليمين والأنظمة العربيّة عن ترويجها: أنّ زمنَ الثورات ولّى، وأنّ الشعوبَ العربيّةَ غيرُ جاهزة وغيرُ قادرة على التغيير. بل أثبتت الثورةُ التونسيّة أنّ الشعوب قادرة على أن تغيّر واقعها من دون “إرشاد” و”تثقيف” يقوم بهما انتهازيون يريدون اختزالَ إرادة الشعوب بنزواتهم من أجل السيطرة عليها.‬
ولم يقتصرْ تأثير الثورة التونسيّة على خريطة تونس السياسيّة، بل أشعلتْ فتيلاً يتنامى يومًا بعد يوم في وعي الجماهير العربيّة التي لطالما ظنّت أنّ التغيير بعيد. الثورة في تونس، والتحرّكاتُ الجماهيريّةُ التي تحتلّ مصر اليوم، تدلّ على أنّ ما سمّاه كثيرون من أركان الفكر والثقافة السائدة “يوتوبيا” مستحيلةً يصبح اليومَ واقعًا، ونرى كيف ترتجف الأنظمةُ العربيّةُ خشية امتداد التحرّكات الاجتماعيّة إلى دولها.‬
لقد لوّح العديدُ وجاهر بأنّ الاستغلال الاقتصاديّ والاستغلال الاجتماعيّ ليسا محفزيّن يدفعان بالجماهير نحو الانخراط في حركةٍ من أجل تغييرٍ فعليّ. ولكننا رأينا كيف أنّ الثورة في تونس انطلقتْ من منطق الصراع الطبقيّ، أي المطالب الاقتصاديّة المباشرة: فبدأتْ ثورةَ رغيفٍ، ومن أجل الشغل، ورفضًا لارتفاع الاسعار، لكنها سرعان ما دمجتْ بين المطالب الاقتصاديّة والسياسيّة، فانتشرت المطالبة بالحريّة وبإنهاء الديكتاتوريّة. ومن هنا، فإنّ الشارع نفسه هو الذي أنتج هذا الربطَ المباشرَ بين المطالب الاقتصاديّة والسياسيّة. وقد ظهر إلى السطح، وبشكل صارخ، الصراعُ الطبقيّ الحيّ جدًا في الشارع العربيّ، ولكنِ المغطّى بغبار الفكر الطائفيّ والانهزاميّ والترويعيّ الذي تنتجه تلك الأنظمةُ التي تريد المحافظة على سلطتها.‬
إنّ نفض هذا الغبار يتطلّب وقفةً شجاعةً من الشعب، لأنه هو وحده القادر على التغيير. فما أثبتتْه تونس لكثيرين في لبنان والمنطقة العربيّة هو أنّ المستقبل لا يُبنى بالتمنّي، بل بالتحدّي المباشر للنظام. لقد أعطتنا الثورة الجرأةَ على تحدّي الواقع من دون الغرق في براثن البروباغندا المسيطرة، لأنّ تاريخًا آخر قد بدأ بالتمظهر، وهو يُبنى اليوم في تونس.‬
بيروت
* طالبة ماجيستير في الأدب العربيّ من الجامعة الأميركيّة في بيروت.
المقالة منشورة في مجلة الآداب, ١-٣ /٢٠١١

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى