صبحي حديديصفحات مختارة

في ذكراه الثمانين: جمال حمدان ومصر المعبر والوصل والتأصيل

null


صبحي حديدي

حلّت يوم 4 شباط (فبراير) الماضي الذكري الثمانون لولادة المفكر المصري الراحل الدكتور جمال حمدان (1928 ـ 1993)، ليس دون تذكرة جديدة دراماتيكية بموقع مصر الجغرافي الفريد، سواء في مناطقها ومحيطها وجوارها الإقليمي؛ أو في قلب الجغرافيا الملحمية ، كما سيقول الراحل، التي كانت وتظلّ امتياز عبقرية المكان المصري.

ذلك لأنّ انهيار الحدود، المفاجئ والصاعق، بين مصر وغزّة المحاصرة صنع واقعة من الطراز الذي كان حمدان سيتوقف عنده مطوّلاً، ليس في قراءاته المباشرة (سواء اتخذت عند بعض المعلّقين المصريين منحي نظريات المؤامرة ضدّ مصر من خلال إحياء مشروع قيل إنه قديم لتوطين فلسطينيي غزّة في سيناء، أو دغدغت أحلام بعض قياديي حماس في صناعة أوراق القوّة عبر الذهاب إلي الحدود القصوي)، بل في دلالاته الجيو ـ سياسية والتاريخية والرمزية… القصوي بدورها!

ذلك لأنه ما من باحث في الجغرافيا الاستراتيجية نذر نفسه لكشف الغطاء عن الوجه العبقري لهذا المكان، مصر، مثل حمدان، سيّما في عمله الفريد شخصية مصر: دراسة في عبقرية المكان ، السفر الواقع في 4000 صفحة من استقصاء علاقات الجغرافيا والتاريخ والإنتخاب الطبيعي والجيو ـ سياسي، وثقل المحيط والموضع والموقع، وفلسفة المكان والكائن، في الزمان الفعلي الجارح والواضح. وكان حمدان قد وضع أكثر من ثلاثين مؤلفاً في الجغرافيا التاريخية والسياسية والقومية والإقتصادية والمدينية والتخطيطية والسكانية، وفي الفكر الجغرافي كما يتقاطع ويتلازم مع العلوم الأخري. ولكنّ شخصية مصر انفرد، كما يليق بعمل فذّ استثنائي، بحمل الرسالة المعقدة التي نشأ حمدان وعاش ومات (وحيداً منعزلاً في بيته الوحيد المنعزل) لتعميقها وإيصالها علي النحو الذي يتوجب أن تصل فيه.

يقول في الجزء الأوّل: الشخصية الإقليمية أكبر من مجرّد المحصلة الرياضية لخصائص وتوزيعات الإقليم. تبدأ بالتساؤل عما يعطي منطقة ما تفردها وتميّزها بين سائر المناطق، محاولة أن تنفذ إلي روح المكان لتستشف عبقريته الذاتية التي تحدد شخصيته الكامنة، وهو ما يعرف كاصطلاح عام بعبقرية المكان Geniusloci، فيها يتمّ تشريح كائن عضوي ضخم إلي أعضائه الدقيقة، كما لا بدّ من إعادة تركيبه، وهي بهذا تحاول أن تصنع عالماً صغيراً نسبياً في مكانه الدقيق والصحيح من عالم أعظم، ومن ثمّ تقع في دائرة ما سُمّي بالجغرافية الملحمية . ولكنّ الشخصية الإقليمية هي، أيضاً، فلسفة المكان وفلسفة الكائن في المكان والجغرافية الفلسفية التي تخلق بقدر ما تحدّق حسب تعابير حمدان: وهكذا فإنّ المطلوب جغرافية حية، بمعني جغرافية الحياة اليومية، تلك التي إذا عرفتها عرفت كل شيء عن نمط وطبيعة وظروف وقوانين الحياة، والتي وإن بدأت من أعلي آفاق الفكر الجغرافية في التاريخ والسياسة، فإنها لا تتقاعس عن أو تستنكف من أن تنفذ أو تنزل إلي أدقّ دقائق حياة الناس العادية في الإقليم. إنها باختصار جغرافيا تنسج الحياة اليومية ودورة حياة الناس الجارية في نمط الإقليم ومورفولوجية الأرض .

والخطّ الناظم الذي يهدي حمدان في استقرائه لشخصية مصر هو خطّ التفاعل المتبادل العميق بين بُعدين أساسيين مكوّنين: الموضع والموقع. أما الأوّل فهو البيئة بخصائصها وحجمها ومواردها في ذاتها، وهي بمعني آخر البيئة النهرية الفيضية بطبيعتها الخاصة، وجسم الوادي بشكله وتركيبه. وأما الثاني فهو حالة نسبية تتحدد وفق توزيعات الأرض والناس والإنتاج من حول مصر، والعلاقات المكانية التي ترتبط بها، الأمر الذي يجعل الموقع خاصية محلية داخلية ملموسة، وفكرة هندسية غير منظورة . ولا يكتفي حمدان بإزالة الإلتباس حول التجانس الطبيعي بوصفه صفة جوهرية في البيئة المصرية، بل يعمّق تحليل الركائز الجدلية التي تجعل هذه الصفة مظهراً عابراً للحضارات: ليس سهلاً أن نركز الشخصية الإقليمية في معادلة موجزة، لا سيما إذا كانت خصبة كشخصية مصر. فمصر، وإن كانت جزيرة صحراوية بالموضع، فإنها بالموقع إقليم مرور وعبور، في قلب الدنيا وعلي ناصية كل التيارات الحضارية والثقافية. إنها برج أومرصد، يغطي العالم القديم برمّته، ولهذا فلم تملك مصر أن تنعزل قط عن تيارات التاريخ وحركات الحضارة. ونحن نستطيع أن نري التناسق الدقيق بين أثر الموقع والموضع في مصر، بما جعل منها منطقة اتصال ومنطقة انفصال في الوقت نفسه، وبالتالي منطقة توصيل وتأصيل معاً. ومن هنا حيويتها وبقاؤها .

ولكي لا يقع كتاب شخصية مصر في أحادية الدراسات المماثلة التي كتبها أستاذه سليمان حزين حول البيئة والموقع في مصر، وفي مآزق كتب تأسيسية أخري تتلمذ عليها مثل تكوين مصر لشفيق غربال، و أصول المسألة المصرية لصبحي وحيدة، و مصر ورسالتها لحسين مؤنس، و سندباد مصري لحسين فوزي، أوضح جمال حمدان أصول مصر علي النحو الجلي التالي: فرعونية هي بالجدّ، لكنها عربية بالأب. غير أن كلا الأب والجدّ من أصل مشترك ومن جدّ أعلي واحد، فعلاقات القرابة والنسب متبادلة، وما كان الإسلام والتعريب إلا إعادة توكيد وتكثيف وتقريب. ولهذا فإن التعريب، وإن كان أهم وأخطر انقطاع في الاستمرارية المصرية، إلا أنه لا يمثّل ازدواجية بل ثنائية. فلا تعارض ولا استقطاب بين المصرية والعربية، وإنما هما اللحمة والسداة في نسيج قومي واحد .

ولأنّ التاريخ هو معمل الجغرافي ومخزن الإستراتيجي علي حدّ تعبيره، وهومحرّك الجغرافيا والدارة السياسية والاجتماعية والإقتصادية العريضة التي تتمحور حولها وتنطلق منها جغرافية الأرض والمجتمعات، فقد كرّس حمدان القسط الثاني من جهده الفكري لدراسة الظاهرة الأبرز في الجغرافيا الملحمية العظمي لمنطقة الشرق الأوسط وأفريقيا: ظاهرة الإستعمار. ولقد كان بذلك يستكمل الجهد الرفيع الآخر الذي بدأه فرانز فانون في دراسة سيكولوجية القهر والتحرير، ويتابع في الآن ذاته رسالة الإستنهاض البانورامية الشاملة التي قام عليها مشروعه في شخصية مصر .

وحمدان يستعرض شجرة نسب الإستعمار منذ الأصول الأنثروبولوجية الأولي لصراع أبناء الطبيعة وعناصرها، من الأسر والقبائل إلي الرعاة والمزارعين، ومن الطين والرمل إلي السهل والجبل، ومن البرّ والبحر إلي الواحة والصحراء. ولقد انقلبت مقولات الجغرافيا إلي مقولات سياسية حين خلق اليونان وحدة البحر الأبيض المتوسط، وانتقلوا من طور غزو الغرب للشرق (علي يد الإسكندر أوّلاً) إلي طور الزحف الثقافي الغربي علي آسيا ثمّ العالم. وهو يري أن الاستعمار الحديث ظاهرة قديمة لها أصول تاريخية بعيدة بدرجة أو بأخري. والاستعمار الحديث الذي يحتضر اليوم إنما استوي علي سوقه في القرن التاسع عشر فقط. أما جذوره فتضرب في أعماق عصر الكشوف الجغرافية منذ القرن السادس عشر وما بعده. بل لعلك واجد بذوره الأولي قبل ذلك جميعاً .

موقف حمدان من علاقة الدين بالسياسة يحتاج إلي وقفة مطوّلة مفصّلة، بالطبع، ولكنّ المرء لا يعدم بعض الدهشة إزاء الوضوح القاطع الذي حمله تقديره (الذي كان مبكّراً بعض الشيء) لطبيعة الصحوة الإسلامية وأدوارها. إنه، علي سبيل المثال يقول: الصحوة الإسلامية التي تتحدث عنها الجماعات المتطرفة ماهي إلا صحوة الموت أو رقصة الذبيح، بعد طول احتضار استمرّ قرناً أو قرنين. وهي صحوة نفطية مبعثها البترول المجنون ليس إلا . ويقول أيضاً: الحركات الإسلامية المتطرفة هي وباء دوري يصيب العالم الإسلامي في فترات الضعف السياسي أمام العدو الخارجي. وهي نوع من التشنج الطبيعي بسبب عجز الجسم عن المقاومة، ثم الآن تحوّلت إلي وباء شامل يتحوّل بدوره إلي وباء مزمن .

وعن العلاقة بين الدين والدولة يبدو موقف حمدان قاطعاً أكثر: نظرية أنّ الدين علاقة خاصة بين الله والإنسان نظرية غربية أوروبية، يرفضها ويهاجمها الإسلاميون ويعتبرونها كفراً. وأغرب ما في الأمر أنه ما من دين تصدق عليه هذه المقولة أكثر من الإسلام تحديداً! لأنّ الإسلام ينكر الكهنوت، وليس في الإسلام وسيط بين الله وعبده . بل نراه يذهب أبعد إلي التحليل الطبقي والمقولات السوسيو ـ ماركسية حين يقول: الجماعات الإسلامية هي بروليتاريا الإسلام الرثة، تريد الآن أن تقلب المجتمع باسم الإسلام لتحكمه كما فعلت بروليتاريا العمال في الأيديولوجية الشيوعية. هي شيوعية الإسلام ولكن بلا شيوعية وبلا إسلام… وهي في حقيقتها سفه طبقي باسم الإسلام، وطفح نفطي علي وجه مصر العربية .

ولكن حمدان لم يكن بعيداً كلّ البعد عن درجة ما (غائمة) من تسييس الاسلام، استكمالاً للأطروحات التي جاءت في كتابه العالم الاسلامي المعاصر . وهو هنا ينسجم مع القوام الفكري العام لكتابَيْه حول شخصية مصر واستراتيجية الإستعمار. وهو رأي أنه ليس جديداً أن يتخذ الدين قناعاً للسياسة وستاراً، ولا كان الإسلام يوماً ما استثناء لهذه القاعدة. فالتاريخ حافل سجله بالحركات والمناورات السياسية التي تقنعت بالدين، وتخفت تحت رايته وبنوده. ويكفي أن نذكر الصليبيات مثلاً، فما كانت إلا استعماراً مادياً اقتصادياً تنكّر تحت شعار الصليب. وقد لا يخلو الإستعمار الأوروبي الحديث من هذه الصبغة بدرجة أو أخري . وفي هذا الصدد، لا يري حمدان أن خفوت التنهيدة الدينية في عهد الثورة الفرنسية وانتشار العلمانية قد سحب الدين من سوق التداول السياسي المباشر، بل العكس هو الصحيح: مازال الدين رغم كل شيء بُعداً من أبعاد السياسة، وعنصراً في مركّب القومية، قد لا يكون البعد المحوري أو العنصر الجوهري الآن بعد أن تحركت بؤرة السياسة في العصر الحديث بعيداً عن الدين. ذلك دفعه، في السنوات الأخيرة من حياته، إلي القول: أسوأ دعاية وأكبر إساءة للاسلام هي الإسلام السياسي بالمعني الأصولي. الإسلام السياسي، بالتالي، نوعان كما يمكن تصنيفه: الإسلام السياسي الحميد ويساوي تحرير فلسطين أساساً، بالإضافة إلي تنمية وتطوير العالم الإسلامي. والإسلام السياسي الخبيث، ويساوي الثيوقراطية والدولة الدينية .

يساوي تحرير فلسطين؟ مَنْ يجرؤ علي استخدام هذاه المعادلة سوي مفكّر كان ـ وظلّ حتي النهاية ـ يؤمن بأن الصهيونية استعمار ديني طائفي بحت ، وأنها تفرض من جانب واحد حرباً دينية ليس الطرف الآخر مسؤولاً عنها أو عن إثارتها أو طبيعتها، وتبعث بذلك شبه صليبيات جديدة في العالم الاسلامي . فوق ذلك، الصهيونيات أسوأ من صليبيات جديدة، فما كانت الصليبيات في العصور الوسطي إلا استعماراً استغلالياً تخفّي وراء الصليب. أما الصهيونيات التي تتخفي وراء النجمة السداسية فاستعمار استيطاني استهدف اقتلاع وتصفية الشعب الأصلي تصفية جسدية، ويعمل علي تهديد الأرض وتغيير طبيعتها ومعالمها إلي الأبد. وبالمقارنة، فإنها تجمع بين أسوأ ما في الصليبيات وشرّ ما في المغوليات الوثنية من تخريب وبربرية، والتي كان طوفانها المدمر أكبر خطر تعرّض له العالم الاسلامي في العصور الوسطي .

كانت النار هي عمادته الأخيرة في ذلك اليوم من أيار (مايو) 3991 حين ودّع شريط الملحمة، ولابدّ أن صخب الحياة اليومية في الخارج كان يعيده إلي يحيي حقي (حامل قنديل أم هاشم ، الذي استحق أن يهديه حمدان كتابه حول استراتيجية الإستعمار)؛ وإلي حسن فتحي، الذي أكمل معه بعض فروض العزاء لعمارة فريدة إعجازية صنعتها مصر لتاريخها ولفقرائها ولوحداتها الحضارية المعيارية. ولا ريب في أنّ النيل، الشريان المائي الفذ الذي يضخّ الأرض بالطمي والغموض والرهبة والأعجوبة، كان يجري رخيّاً عبقرياً حين احترق جسد جمال حمدان.

ہ كاتب وباحث سوري يقيم في باريس

القدس العربي

08/02/2008


مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى