ثورة مصر

مهاجرو مصر… من لوحة التحكّم عن بعد إلى المتاريس الأمامية للثورة

هاني درويش
ملحمة شباب ساحة التحرير، بقلم أحد الذين عاشوها. عاد الذين هاجروا وخاضوا مع رفاقهم ليلة أربعاء البغال والقنّاصة، تاركين وراءهم كلّ التشنّجات القديمة. كيف استعادت شرايين مصر دفق الهواء المحبوس.
سافر أصدقائي منذ منتصف التسعينيات. ثم عادوا في أيام الثورة المباركة. عادوا فرادى ليولدوا من جديد. ليطردوا أشباح طاردتهم في المنفي، شبح أن لا أمل في هذا الوطن، شبح أنّ المصير الشخصي وقد أصبح قارب نجاةٍ وحيد يمكن تحقيقه “هناك” مثلما فشلوا في تحقيقه “هنا”. معظمهم عبروا منتصف الثلاثينيّات بذاكرة مشوّشة عن الرئيس الأسبق (السادات)؛ وبكلّ رسوخ التشرب البطئ لحكمة الرئيس المتخلي عن حكمه (مبارك)، كانوا كلّما جاءوا إلى مصر تأكّدوا من حكمة مايعتبرونه هروباً. الشوارع تزداد إتساخاً، عنف المواطنين الجانبيّ يتصاعد، بؤس السياسة يتواصل، تجريف المواهب وصل القاع. لذا كانت مصر 25 يناير المتتابعة أمامهم على الشاشات حلماً عصياً يتحوّل إلى كابوس، أن تكون الثورة “هنا” فيما لايملكون “هناك” إلاّ “الريموت كنترول” (لوحة التحكّم عن بعد).
كلّم باسل رمسيس (مخرج مصريّ مقيم في أسبانيا) صديق نضاله المتشائم نهاية ليلة 25 يناير محفزاً أياه على النزول. حملت المكالمة تهديداً على مايبدو، تذكيراً بالأيام الخوالي في جامعة عين شمس حين كانوا ثواراً ملء العين والنظر. كلّمه كأنّه يضع عليه “مسؤلية الجيل” كلّه. من في الشارع لم يعتقلوا من قبل، نحن أعتقلنا ولدينا خبرة التعامل مع تحقيقات أمن الدولة. هدّده – على ما يبدو – بالصداقة التي هي على المحكّ، وضعه أمام تحدّي حسم مصير “البرجوازي الصغير”، الذي يخاف على ولديه وسيارته وعمله. تحرّك الأخير لا تحت حمى “الثائر الأسباني” وحده، بل تحت الإحساس المتعاظم بأنّ “المشهد” لا يحتاج إلى “المفاصلة”.
عمرو عبد الرحمن صديقٌ آخر من عاصمة الضباب، خلع ملابسه وأعمل الجنون المطبق في صالة مطار هيثرو عندما حاولت السلطات تعطيله. دفع هيثم الورداني أضعاف ثمن الرحلة وأنتقل نصف ألمانيا كي يلحق بالفصل الأخير من الثورة. حتى فرح وائل ابنة السابعة عشر المقيمة في باريس لم تستمع لمخاوف أبيها، وجمعت أصدقاءها من باريس ليتمترسوا في ميدان التحرير. الكلّ عادوا، كما تململت أجزاء الجسد الأوزوريسي في الأصقاع وأنتفضت مع نداء إيزيس.
بالعودة إلى باسل المحتفي لسنوات بأسود الكأبة. دخل الميدان في الثاني من فبراير حين هلّت أوّل مليونية، وخرج منه بعد جمعة الإنتصار. وضع “الآيس كاب” [1] منذ اليوم الأول، ونسي كاميرا التوثيق التي حضّرها في مدريد. وفي ليلة أربعاء البغال والقنّاصة، كان متمترساً عند كوبري قصر النيل. الظلام كان دامساً في السادسة مساءاً وهو يجري في الصفوف الأولى ليطرد “بلطجيّة الحزب الحاكم” حتى حدود الأوبرا. خلع “البلوفر” [2] وأمرني بحسمٍ عسكري أن ننضمّ إلى “جبهة المتحف المصري”. أستعاد ألق “حرب العصابات” لجيفارا، وهو ينصح أهل الجبهة بألاّ يتقدموا في “أراضي العدو” دون تأمين الخلفية. كان يهذي بصوته المبحوح، فيما حجره لايتجاوز العشر أمتار. تجاوز على الفور حساسيّة الأقباط من وجود كمّ هذه الذقون، وتعمّدت ماركسيته المتطرّفة النافرة من “الإسلام السياسي” بدماء من كانوا على المتاريس من الإخوان المسلمين، فتطهّرت من “الطفولة اليسارية”.
كانت الأناشيد الحماسية المتقطّعة يقطعها طلب المزيد من المتطوّعين في الجبهة الأمامية، إنّها “إلياذة الأربعاء”. الأرصفة تحوّلت إلى محجر للنساء لتكسير الصخور. السياجات المعدنية للميدان تحوّلت إلى “آلات ماريمبا” [3] يعزف عليها الجرحى صوتاً معدنياً لتحميس المقاتلين وإخافة الأعداء خلف الخطوط المظلمة. فيما الزوايا الجانبية معامل لصناعة مولوتوف بدائيّ من فوارغ زجاجات البيبسي كولا. أشولة [4] تحوي أهراماً من الطوب تخترق الصفوف لتأمين “السلاح” للصفّ الأول. كيف تقسام المئات هذه الميكانيكية المنضبطة دون سابق معرفة ودون عقلٍ جمعيّ منظّم… في لحظات؟ الشباب الصغار حركّتهم خبرة “ألعاب الكومبوتر” [5] في سدّ الثغرات وتطوير الهجوم. الشيوخ استعادوا خبرة حرب أكتوبر وقتال الشوارع. النساء بين منقّبة تدقّ عمود الإضاءة بحجر وصاحبة شعر “ألا جارسون” [6] تحمل كاميرا فيديو. “صوفيّة وطنية” تحتفي بالعتيق من الموروث، ذلك المتكلّس، العبء، المعطّل؛ وتسخّنه وتليّن قوامه في مصهر الشباب المتّقد المعولم.
محمد الصاوي المهاجر إلى أمريكا منذ 15 عاماً عاد هو الآخر، وفي الأحوال العادية لم يكن ليسلِّم أصلاً على باسل رمسيس. بينهما خبرة قديمة في نضالات الفلاحين زمن التسعينات، إنتهت بقطيعة كما تفعل السياسة الماركسيّة غالباً في العلاقات الشخصية. هو الآن في مصهر الثورة، يقلب مع باسل تلك الذكريات الممرورة ويعيدون بلورتها لمصلحة اللحظة الثورية. هكذا تعيد الثورة نصف الكرة الأرضية لنصفها الآخر. تعيد لحمة ما قطعه اليأس من مصر القديمة. فالميدان كان شاهداً على ألف عناقٍ بين متخاصمين، على فتيات هجروا شباباً منذ سنوات في قصص حبٍ مُجهَضة، ها هنّ يعانقنَ محبيهنّ المغدورين بأريحية الليالي الخوالي. وتحت الإضاءة الكابية في ليل الميدان الطويل، تتعمّد قصص الحب الجديدة، فابتسامة الصباح تتحوّل إلى نقاشٍ ليليّ وتبادل لأرقام الهواتف، ثم إطمئنان في الصباح التالي ولقاء، ثم استراحة جانبيّة على أحد المقاهي لإلتقاط الأنفاس، ثم “لقمة” مرتجلة عند بائعي الفول في وسط العاصمة. هكذا ينهض الجسد المعطّل للإنتشاء بالحياة من غفوته. لقد باتوا يعرفون بعضهم بتلامس الكتف بالكتف، وبطمأنينة العين الخائفة التي تبحث في عينٍ ساهرة على الأمان.
كنّا إذا نحقد عليهم، هؤلاء من استطاعوا ثقب جدار الوطن فانفلتوا إلى المهجر. كنّا حين نقابل برودتهم وعمليتهم المكتسبة من أصقاع الغرب في زياراتهم الموسمية، كنّا نقول لهم: “آه، من يده في الماء ليس كمن يده في النار”، أنتم تتحدثون من على مؤخّرات أدمنت الإطمئنان علينا عبر الفايسبوك، أنتم نسيتم معنى الإنتظار في طوابير الوطن الطويلة، نسيتم زجرة تهديد ضابط الأمن في الشارع، احتميتم بجواز السفر الأجنبي من مهانة أن تكون مصرياً فقط، وكان ضميرنا المأفون، حقد اليائسين تحت حكم مبارك، يدفعنا إلى التفكير في الهجرة إلى “بوروندي ورواوندا”، بدت بلادنا في عهده أقرب إلى حديقة حيوان مسيجة، يقطع السياح تذاكرهم إليها لمشاهدة حفريات أركيولوجية لشعبٍ طيّب تحوّل إلى مجموعة من سماسرة صغار، ويقطع أبناؤه المغتربون تذاكرهم إليه للتأكّد سنوياً من رجوح خيارات الهروب.
لقد عادوا إلينا، وعاد رشدنا إلى مصر، عادوا وسيعودون للبناء، دون كلل أو تباطؤ، فقد أنكشف وللأبد “المعدن” النفيس لهذا الوطن، وانكشف للجميع زيف ثلاثين عاماً من التصحّر والتجريف، فبزفرة واحدة استعادت شرايين مصر دفقة الهواء المحبوس، داخلها وخارجها.
* صحافي مصري
[1] قبّعة رجال الجليد
[2] الكنزة الصوفية
[3] آلة موسيقيّة إيقاعية
[4] جمع شوال
[5] ألعاب الحاسوب
[6] المقصوص على طريقة الصبيان à la garçon

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى