ثورة تونس

حقائقُ الزلزال التونسيّ

* زياد حافظ
لم تنجلِ الأمورُ بشكلٍ نهائيٍّ في تونس عند كتابة هذه السطور (أواخر كانون الثاني/يناير 2011). إلاّ إنّ ما حدث هناك زلزالٌ سياسيٌّ من درجة 7 أو ما فوق على سلّم ريختر السياسيّ العربيّ. فلقد أصبحت الانتفاضةُ الشعبيّةُ في تونس تأكيدًا لتحوّلٍ سياسيٍّ كان قد بدأ بالمقاومة في لبنان، وفي فلسطين، وبدحر المشروع الأميركيّ في العراق، وانتهى ذلك إلى واقعٍ يعْكس الموازينَ الجديدةَ في المنطقة العربيّة والشرق أوسطيّة: فالأردن يتحرّك، ومصر تثور، وهناك مساءلةٌ متزايدةٌ للسلطة الفلسطينيّة عن سلوكها المشين مع الكيان الصهيونيّ بعد تسريب قناة الجزيرة بعضَ وثائق المفاوضات الفلسطينيّة ـ الإسرائيليّة. تونس والوطن العربيّ اليوم، غيرُ تونس والوطن العربيّ ما قبل الحدث. وإذا ما زال الأمرُ مبكّرًا لقراءةٍ نهائيّةٍ لما حدث في يناير 2011، فإنّ هناك حقائقَ عدّةً لا يمْكن إخفاؤها مهما كانت التطوّراتُ التي يمكن أن تحصل في المدى المنظور.
الحقيقة الأولى هي أنّ ما يجري الآن في تونس يتناسق مع التحوّلات التي تشْهدها المنطقةُ العربيّةُ من رفضٍ لسياسات أنظمتها، سواءٌ كانت على الصعيد الداخليّ أو على صعيد الصراع العربيّ ـ الصهيونيّ أو على صعيد مقاومة المشروع الأميركيّ في المنطقة. صحيح أنّ الدافع الأوّل لانتفاضة الشعب التونسيّ هي القضيّة الداخليّة الحياتيّة وضرورةُ تغيير النهج السياسيّ والاقتصاديّ، إلاّ أنّ الاحتقان الذي أدّى إلى تلك الانتفاضة لم يكن ليحصل لولا تراكمُ وتفاعلُ الإحباط القوميّ والإحباط الوطنيّ. وينطبق هذا الأمرُ على ما يجري، عند كتابة هذه السطور، في الأردن ومصر ولبنان.
الحقيقة الثانية هي أنّ إرادةَ الشعوب أقوى من الدبّابات والطائرات وأنواع القمع كافّةً؛ كما أنّها أقوى من جحافل قوى الاحتلال بشتّى أشكاله. القوى المستكبرة تستهتر بالشعوب ولا تكترث لطموحاتها. والنخبُ الحاكمة لا تفهم أنّ المعلومة في عصر التواصل والتضامن تصل إلى مختلف شرائح المجتمع، وأنّ المعلومة أساسُ المعرفة، والمعرفة أساسُ القوة. فلا القمعُ، ولا الرقابةُ، ولا المحاولاتُ البائسةُ لغسل الدماغ، تستطيع تقويضَ إرادة الشعب. إنّ الشعب بإحساسه أولاً، وبوعيه ثانيًا، وبمعرفته ثالثًا، يكوِّن إرادتَه التي لا يمْكن تجاهلُها. وإذا كانت حركةُ الشعوب بطيئةً وقد تأخذ عقودًا من الزمن في بعض الأحيان، فإنّ الشعوب تُمْهِل ولا تُهْمِل.
الحقيقة الثالثة هي أنّ نجاح الثورة في تونس جاء في معزلٍ عن التشكيلات السياسيّة التقليديّة. فلقد استطاعت الجماهيرُ التونسيّةُ، عبر العلاقات الشبكيّة التي نسجتْها في الفترات الأخيرة، القيامَ بعمليّة التعبئة والحشد والثباتِ على الموقف. وبات واضحًا أنّ الأحزاب التونسيّة (ويمْكن تعميمُ القول على الأحزاب العربيّة) مدعوّةٌ إلى التكيّف مع عصر العلاقات الشبكيّة من أجل قيادة الجماهير في نضالاتها. لقد أَوصلتْ وسائلُ التواصل الحديثة وقائع ما يجري في العالم إلى داخل المنازل وغرفِ النوم. والعملُ السياسيُّ الجادّ يقتضي حشد كلّ الطاقات الممكنة في المعركة السياسيّة والتحرّرية ـ والعلاقاتُ الشبكيّةُ مولجةٌ بالقيام بتلك المهمّة.
الحقيقة الرابعة هو إخفاقُ الدولة القطْريّة، بعد أكثر من خمسة عقودٍ على وجودها، في تحقيق مجتمع الكفاية والعدل وتكافؤ الفرص لمواطنيها. ناهيك بأنّ هذه الدولة، في العديد من الأقطار العربيّة، لم تستطع تأمينَ حماية الوطن والمواطن: فلا الدولةُ القطْريّة العراقيّة منعت الاحتلالَ، ولا الدولةُ القطْريّة في السودان منعت انفصالَ جنوبها، ولا الدولةُ القطْريّة في لبنان منعت الاعتداءاتِ االصهيونيّة، ولا الدولةُ القطْريّة في مصر منعت الفتنةَ المذهبيّة، ولا الدولةُ القطْريّة في المغرب استطاعت منعَ النزعات الانفصاليّة في أطرافها الصحراويّة، ولا الدولةُ القطْريّة في اليمن أَخمدتْ بشكلٍ نهائيٍّ النزعات الانفصاليّة في جنوبه، ولا الدولةُ القطْريّة في الصومال منعت انهيارها الكامل. هذه محصلّةٌ أوّليّةٌ لإخفاق الدولة القطريّة في تأمين ديمومتها، ناهيك بالتهديدات الماثلة في تفتيتِ ما تبقّى من الدول إلى كياناتٍ صغيرةٍ عرقيّةٍ مذهبيّةٍ طائفيّة قبليّة عشائريّة وما إليه من أشكال التفتيت. أمّا ديمومة الدول الأخرى فتعود إلى “الحماية” أو الوصاية المباشرة لقوى الاستعمار القديم الجديد؛ بل إنّ هذه الدول نفسها تعيش تحت وطأة التهديد بالتفتيت في حال “تمرّد” النخب الحاكمة على سيطرة دول “الحماية” والوصاية. أفلم يأن الأوانُ، إذنْ، لقيام الدولة القوميّة؟
الحقيقة الخامسة هي أنّ “التلميذ النجيب” في تونس لدى المؤسّسات الدوليّة، كمجموعة البنك الدوليّ وصندوق النقد الدوليّ، قد رسب في الامتحان النهائيّ، وأنّ السياسات التي اتُّبعتْ في هذا البلد بناءً على توصيات تلك المؤسّسات لم تؤتِ ثمارها من رخاءٍ وازدهارٍ للشعب التونسيّ. بل العكس هو الصحيح: وهو أنّ أزمة تونس الاقتصاديّة والاجتماعيّة هي نتيجةٌ لتلك السياسات المنحرفة التي رعتْها المؤسّساتُ الدوليّةُ ومعها ما يُسمّى “المجتمع الدوليّ.” هذه السياسات المستوردة من الخارج، وبإيعازٍ من الخارج، لم تكن يومًا في صالح الشعوب، وإنّما في صالح النخب الحاكمة العاملة والعميلة لمصالح الخارج.
الحقيقة السادسة هي أنّ الدولة القمعيّة لا تعني أنّ النظام القائم فيها قويّ. فقوّة أيّ نظام مستمدّةٌ من شرعيّته، وشرعيّتُه مبنيّةٌ على التوافق بين كافّة أفراد المجتمع والسلطةِ المنبثقةِ عنه. المجتمع هو الذي يحدّد هويّتَه وانتماءه الوطنيّ والقوميّ وتوجّهاتِه السياسيّةَ والاقتصاديّةَ والاجتماعيّة. أمّا النخب الحاكمة بواسطة أجهزة الدولة القمعيّة فلا شرعيّة لها، وتسقط دائمًا وإنْ طال الزمن.
الحقيقة السابعة هي أنّ التنمية السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة لا يمكن أن تتمّ ضمن حدود الدولة القطْرية، من دون التفاعل مع المجتمعات المجاورة. فكما كان اللبنانيّون يعتقدون قبل الحرب الأهليّة أنّ لبنان واحةٌ في “صحراءَ” سياسيّة من دول الجوار، اعتقدت النخبُ الحاكمةُ في تونس أنّ بإمكانها القيامَ بمسيرةٍ تنمويّةٍ في معزلٍ عن التفاعل مع محيطها العربيّ. إنّ التجارة البيْنيّة بين تونس وأوروبا أكثرُ بأضعافٍ من تجارتها مع الأقطار العربيّة. وبالتالي لا جدوى من التكلّم عن تنميةٍ وطنيّةٍ في معزلٍ عن المحيط المباشر بالقطْر، وفي معزلٍ عن المصلحة القوميّة. فالسوق القوميّة تفتح المجالَ للإنتاج القطْريّ، وحريّةُ حركة العمل ورأسِ المال تمكِّّن من التوظيف في القطاعات التي تتمتّع بحدٍّ أدنى من التفوّق النسبيّ في كلّ قطر. ولنا، ولغيرنا، كلامٌ كثيرٌ في هذا المجال نستعرضُه في فرصةٍ لاحقة.
الحقيقة الثامنة تأكيدٌ لنظريّتنا عن ترابط النظام الفئويّ والاقتصاد الريعيّ وعدم التنمية والفساد. فللفئويّة أشكالٌ عديدة، منها الطائفيّة، والمذهبيّة، والقبليّة، والعشائريّة، والمناطقيّة، والقطاعيّة، مجتمعةً أو منفردةً. في تونس، الفئويّة قطاعيّة (الجيش وقوى الأمن) وعائليّة. والثقافة الفئويّة تلغي المساءلة والمحاسبة، وتعتبر أنّ النموّ الداخليّ لعبةٌ صفْريّةٌ حيث ربحُ فئةٍ خسارةٌ للآخرين. والفئويّة تستدعي القوى الخارجيّة للاستقواء على الآخرين، ومن ثمّ تنعدم قوى الممانعة وثقافةُ مقاومة الإملاءات الخارجيّة. أضفْ إلى ذلك الطبيعةَ الريْعيّةَ للاقتصاد، حيث النخبُ الحاكمةُ تضع يدَها على مصادر الثروة وتوزِّعها وفقًا لمقاييس الولاء والمحسوبيّة؛ وحيث الفسادَ المتفشّيَ في كلّ مكانٍ في تونس كما في معظم الأقطار العربيّة. فالمعلومات المتداولة تفيد بأنّ أكثر من 25 بالمائة من الناتج الداخليّ التونسيّ في يد العائلة الحاكمة، وأنّ سياسة التسلّط والنهب الممنهج أدّت إلى تفاقم الأوضاع الاقتصاديّة وتردّي الأوضاع الاجتماعيّة. فكانت الانتفاضة من أجل لقمة العيش والكرامة. هذا السيناريو يمكن أن يتكرّر في الأقطار كافّة؛ فالأردن ومصر والجزائر ولبنان بعض الأمثلة المشابهة لما يحصل في تونس.
الحقيقة التاسعة هي الرهانات الخاطئة للرئيس المخلوع حول صدقيّة تحالفاته مع الغرب ومتانتها. فإذا كانت المجابهةُ مع الغرب، وخصوصًا الولايات المتحدة، أمرًا مكلفًا ومحفوفًا بالمخاطر، فإنّ التحالف معها أمرٌ قاتل! إنّ الغرب بشكل عامّ (والولايات المتحدة بشكل خاصّ) لا ينظر إلى الدول النامية إلاّ من منظار مصالحه، ولاعتباراتٍ لا تخلو من التعالي والعنصريّة. لم نر في التاريخ القريب أيّة محاولةٍ من قبل الولايات المتحدة للتدخّل المباشر من أجل حماية رموز أنظمةٍ خدمتْ مصالحَها بكلّ “صدقيّة” وعلى حساب مصالح شعوبها: فمن شاه إيران إلى فردينان مركوس، ومن أغوستو بينوشيه إلى مانويل نورييغا وانتهاءً بزين العابدين بن علي، نرى الخطّ البيانيّ الواضح، وهو التخلّي عن “أصدقاءَ موثوقين” في وقت الحشرة. كما أنّ الوعود الكاذبة بالحماية تختفي عند أوّل امتحان جدّيّ:
فها هي “الثورة البرتقاليّة” في أوكرانيا تخْذلها الولاياتُ المتحدة. وها هي جورجيا تواجه منفردةً الدبَّ الروسيَّ بعد التحريض عليه. وها هي المحاولة الانقلابيّة في كرغستان الموالية للولايات المتحدة تُترك لمصيرها. وها هي الولايات المتحدة تتراجع عن نشر شبكةٍ صاروخيّةٍ في بولونيا بوجه روسيا. وليست الأزمة اللبنانيّة إلاّ خيرُ دليل على ما نقوله، إذ إنّ الولايات المتحدة وفرنسا وكلَّ ما يُسمّى “المجتمع الدوليّ” والأمم المتّحدة دفعتْ فئةً من اللبنانيين إلى اتخاذ مواقفَ مضرّةٍ بمصالح الشعب اللبنانيّ ومصيره، بل دفعتْه إلى شفير الحرب الأهليّة المدمّرة مرّةً أخرى، وتخلّت عن رموز تلك الفئة ورمتْهم كورقة الكلينكس المستعملة عندما وجدتْهم عاجزين عن مواجهة رافضي تلك السياسات. والغباء في هذه النخب الحاكمة هو اعتقادُها بإمكان تسخير علاقاتها الدوليّة للاستقواء على منافسيهم وأخصامهم المحلّيين من دون دفع أيّة فاتورةٍ في المقابل. لكن الحقّ أنّ “الدعم الغربيّ” مكلف، بل مدمّر وقاتل ، ولا حماية لتلك النخب المخذولة. فالولايات المتحدة لم تستقبل الشاه المخلوع، ولم تستقبل فرنسا والولايات المتحدة بن علي المخلوع!
الحقيقة العاشرة هي أنّ النخب الحاكمة، في تونس والوطن العربيّ، وخصوصًا في ما يُسمّى “دول الاعتدال،” تسعى يائسةً إلى إرضاء الرجل الأبيض. بل إنّ بعض النخب المثقّفة تسعى هي نفسها، من خلال “نضالاتها” في المقاهي والثرثرة في الصحف والمحطّات الفضائيّة، إلى كسب ودّ النخب المثقّفة في الغرب، وتتبنّى قضاياها التي لا تعني الشعوبَ العربيّة؛ فضلاً عن أنّ مرجعيّاتها الثقافيّة غربيّة بامتياز ولا تمتّ لا من قريبٍ أو بعيد إلى قضايا الأمّة وتراثها الفكريّ، ولذلك يأتي خطابُها السياسيّ بعيدًا عن اهتمامات المجتمعات العربيّة. وفي المقابل، لا نرى في الغرب أيَّ اهتمامٍ بالمحافظة على تلك النخب رغم ادّعائه الرغبة في نشر قيمه.
وأخيرًا، يمكن القول إنّ “المفاجأة” التونسيّة لم تكن مفاجئةً لمن يتابع بدقّة، وعن كثب، أوضاعَ الأمّة. أمّا مخابراتُ الدول فهي، كالعادة، لا تحسن قراءة الأمور، ولا تنظر إليها إلاّ من الزاوية الآنيّة والضيّقة التي تصبّ في مصالح النخب المتسلّطة وحلفائها الخارجيين.
***
هذه قراءةٌ أوّليةُ لما يحصل في تونس. إنّ الدرس التونسيّ قابلٌ للتعميم في الأقطار كافّةً، والأسابيعُ القادمةُ حبلى بـ “المفاجأات” السارّة.
*أمين عامّ المنتدى القوميّ العربيّ.
المقالة منشورة في مجلة الآداب, ١-٣ /٢٠١١

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى