الدور الإيراني والعلاقة الإيرانية ـ السّوريةصفحات العالم

شكوك في الذاكرة

ساطع نور الدين
كان الاحتفال حاشدا في الضاحية، مهيبا في كربلاء، مضطربا في طهران. لم يكن ثمة رابط فعلي بين المشاهد الثلاثة، وبين الحشود الثلاثة، سوى المناسبة التي تجمع الشيعة في كل مكان في العالم، وترفع ذكرى عاشوراء الى مقام الايديولوجيا الرسمية، ومرتبة الرافعة التاريخية للعقيدة والمذهب. كان كل حشد مشغولا بنفسه، مهجوسا بأولوياته الخاصة، التي لا تفسح المجال لمخاطبة الشيعي الآخر الذي كان يشاطره الحزن والعزاء.
في الضاحية كان الحشد يعلن ان النظام من الايمان، وأن الدولة هي الامان، وفي كربلاء كان الحشد يعلن ان النظام هو الايمان، وأن الدولة هي العقيدة، فيما كان الحشد في طهران يشتبك في ما بينه على شرعية النظام وهوية الدولة.. ويمثل تحديا خطيرا لشيعة العالم كله الذين طالما نظروا الى ايران باعتبارها القدوة والمثال.
لم تكن المناسبة فرصة للبرهان على صحة تلك النظرية الخرقاء التي اطلقت قبل اعوام قليلة عن هلال شيعي يظهر في السماء الممتدة من طهران الى الضاحية. لعلها قدمت الدليل على ان العكس تماما هو الصحيح، اذ ليس هناك لغة مشتركة بين شيعة لبنان وشيعة العراق، كما ليس بينهم قاسم مشترك مع شيعة إيران.. برغم الكثير من الادعاءات التي راجت عن ان الدول الثلاث تشكل قاعدة لجبهة عالمية موحدة ضد الاستكبار العالمي، رفض العراقيون الالتحاق بها، وابتعد الايرانيون عنها، وبقي اللبنانيون وحدهم فيها.
لم يكن هناك خطاب واحد للحشود الثلاثة، ولم يكن هناك بند واحد في اي خطاب ألقي في الضاحية او كربلاء او طهران، يشير الى ما يحدث في ما وراء الحدود، ويتضمن على الاقل رسالة تضامن او اهتمام من الشيعي اللبناني بأخيه العراقي او الايراني، او العكس ايضا.. مع ان اللبناني لم يكن ليمانع ابدا ان يأتيه من العراق او من ايران ما يشد ازره في مواجهة تهديد اسرائيلي جدي جدا وخطير جدا.
لعل الشقيق العراقي المحتشد في ارض الطف في كربلاء هو الحاجز المانع دون المزيد من التواصل، ودون المزيد من التعاون. صار غريبا بعض الشيء، منذ ان حول المناسبة الى وسيلة للثأر من عقود القمع والاضطهاد، والبعض في العراق يعود بالزمن قرونا الى الوراء، ومنذ ان جعل ذكرى عاشوراء بالتحديد البيان الرقم واحد الذي يعلن نجاح الانقلاب ويحدد هوية الدولة وعقيدتها وطبيعة مؤسساتها ويسمي ايام العطل الرسمية.
لم يكن بإمكان الخطاب اللبناني ان يتحدث عن الشقيق العراقي الذي يمكن ان يحرج اشقاءه في الضاحية الذين لا يودون الاستفزاز ولا المخاطرة بمحاولة الانقلاب على معادلة دقيقة، برغم المغريات العديدة. كما لم يكن بإمكان ذلك الخطاب ان يحكي عن الاخ الايراني الذي كان الحليف الاقوى، فصار اليوم غارقا في الصراع على ولاية فقيهه، وعلى وجهة ثورته، وعلى خطة دولته.. التي نفخها اعداؤها وخصومها حتى كادت تبدو مثل امبراطورية عظمى!
لم تسقط قطرة دم واحدة في الضاحية، ولم ترتكب مذبحة في كربلاء. لكن دماء كثيرة سالت في طهران، وأثارت شكوكا عميقة في الذكرى وموقعها في الذاكرة الشيعية.
السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى