ثورة تونس

تونس: ثورة في طور الإنجاز

* طارق الكحلاوي
من الصعب الآن أن نملك المسافة الكافية ممّا يحصل في تونس لكي نتحدّث عنه من زاوية الاستخلاص النظريّ. لكنْ يمكن أن نبدأ، حتى بعد أقلّ من شهر من 14 يناير، في وضع مقدِّماتٍ للمسار العامّ للحدث. وأهمُّ مسائل هذه الورقة المحاججةُ بأنّنا إزاء ثورةٍ في طور التشكّل، على الرغم من الإطاحة برأس النظام، رفقةَ عائلته المتغوّلة، يوم 14 يناير. إنّنا نحتاج تحديدًا إلى تفكيك طبيعة النظام، حتى نخْلص إلى الشروط التي تصل بها الثورةُ إلى منتهاها. ونحتاج إلى قياس ذلك بما هو موجودٌ الآن لدى صانعي الثورة من طاقةٍ على تحقيق تلك الشروط.
طبيعة النظام
كانت مسألة تحليل طبيعة النظام معطّلة طوال أعوام حكم بن عليّ، إذ إنّ دهْسَه للحياة السياسيّة أتى كذلك على حياةٍ فكريّةٍ خصبة. لم تكن تلك المسألة تُطرح من الزاوية السياسيّة، بل من زاوية علاقات الإنتاج فقط، وتُرك تقييمُ طبيعة النظام السياسيّة لمصطلحاتٍ عامّةٍ، مثل “الدكتاتوريّة” و”الفاشيّة”… هذا في الوقت الذي تعقّدتْ فيه لاحقًا طبيعةُ النظام السياسيّة وأثّرتْ عميقًا في البنية الاقتصاديّة والاجتماعيّة للدولة والمجتمع.
يبدو توصيفُ طبيعة النظام بـ “التسلّطيّة” (authoritarianism) آكثرَ دقة، ليس في سياقه السياسيّ فحسب. وعندما نرى النظام شبه عارٍ الآن، فإنّه يمكن أن نصفه بثلاث خصائص: أنّه ذو طبيعة سياسيّة “تسلطيّة ـ زبونيّة،” وذو طبيعة ربحيّة “تسلطيّة ـ كليبتوقراطيّة”، وذو طبيعة أمنيّة “تسلطيّة ـ بوليسيّة.” إنّ محصّلة هذه الأبعاد الثلاثة هي ما يشكّل الهويّة السياسيّة لنظام بن عليّ، والشروطَ التي تهيكل كلَّ الأنشطة الاقتصاديّة والاجتماعيّة.
أهمّ تعقيدات طبيعة السلطة السياسيّة العربيّة، بما في ذلك التونسيّة، هو الطبقات الوهميّة التي تسيّجها. وعلى رأس هذه التعقيدات النزعةُ “التنافسيّةُ الزبونيّة،”i حيث المناسبة الانتخابيّة فرصةٌ لتجديد نظام الوساطات القائم. فالمجالس “المنتخبة” لا تمارِس دورَها الرقابيّ المفترض على السلطة التنفيذيّة، بل هي أحدُ ملحقات هذه السلطة، بوصفها مجالَ التقاء الوسطاء بين بعض ممثليهم والبيروقراطيّة التنفيذيّة. نحن هنا، إذن، بصدد وساطةٍ ريعيّة، لا خيريّة.
لا يمكن التوغّل في طبيعة السلطة السياسيّة لنظام بن عليّ من دون الانتباه إلى استعمالها الأدواتِ السياسيّةَ الحديثة: إذ إنّ “التعدديّة” و”التنافسيّة” و”الانتخابات،” وهي أدواتٌ تعوّدنا اعتبارها أدواتٍ للدمقرطة، ليست مجرّد صور بلا محتوى في تونس بن عليّ، بل تضطلع بدور يمكن أن يعرقل أيّ مسار ديمقراطيّ. والحقّ أنّ توسيع طبقة المنتفعين من هذه الدورة الزبونيّة، بإقحامَ “أحزابٍ” وفئاتٍ متنوّعة، يورِّطها جميعًا في خطيئة السلطة.
حجر الزاوية في هذا النمط هو الدور المركزيّ لوظيفة “الواسطة” (أو “الأكتاف” بالتعبير التونسيّ)، إذ إنّ دوافعَ الراغب في الترشّح ودوافعَ الناخب تتركّز تحديدًا في تأدية هذا الدور. ويبدو ذلك أكثر وضوحًا في الانتخابات البلديّة في المناطق الريفيّة أو البلدات الصغيرة (مثل سيدي بوزيد وتالة وفريانة والقصرين التي كانت من بؤر الحراك الشعبيّ الأخير) حيث يَعْرف الناخبون المرشّحين شخصيًا. في هذه الديناميّة، يمكن تفهّم “التنافس” ليس من زاوية توفيره امتيازاتٍ ونفوذًا شخصيًا (ماديًا وغير ماديّ) مباشرًا للنائب فحسب، بل أيضًا من حيث منحُه نوافذَ لاقتحام دوائر السلطة التنفيذيّة للعب دور الوساطة. بهذا المعنى تحديدًا يجب النظر إلى أرقام “مكافحة الفساد” و”الشفافيّة” التي تتناسب عمومًا مع مستويات النسق الديمقراطيّ: إذ ليس مصادفة أنّ الدول (بما في ذلك تونس) التي تتميّز بنمط سلطة “تنافسيّة زبونيّة” تشهد أيضًا النسبَ الأضعفَ في مستوى مكافحة الفساد والشفافيّة.ii
في النهاية، تستخدم هذه المنظومة أدوات الدمقرطة في اتجاه تدعيم أسس الوضع السياسيّ القائم. وبالتالي فإنّ المحصّلة هي عرقلة مبدإ التداول على السلطة، وعرقلةالمسار الديمقراطيّ ذاته. وهكذا فإنّ الأنظمة السياسيّة التسلطيّة التي تحكمها حكوماتٌ “مدنيّة،” وتؤثّث بنيتَها بجدارٍ من المؤسّسات التشريعيّة، ومن خلال أدوات “الانتخابات” و”التعدديّة” و”التنافسيّة،” تحقّق في نهاية الأمر عواملَ ثباتٍ أكثر صلابةً من أنظمةٍ عاريةٍ تمامًا من أيّ مؤسّساتٍ وسيطة. ذلك أنّ هذه المنظومة تخلق ديناميّة تجعل علاقة المستفيدين من وجود السلطة أكثر رسوخًا، ومن ثمّة تتيح لها توسيعَ قاعدتها.
غير أنّ هذه المنظومة لا تستطيع أن تكون مستديمة لأنها لا تتيح الاستفادةَ الريعيّة إلاّ لقلّةٍ قليلة؛ فكل من يطمع إلى المشاركة في التصويت، وفقًا لهذه المنظومة، ينتهي بإقصاءٍ مزدوج: إقصاء من التصويت الحقيقيّ، وإقصاء من الريع المفترض وراء التصويت. تطبيعُ حالة التعفّن هذه من القاعدة (في شخص عضو “المجلس البلديّ”) انتهى إلى اطمئنانٍ مزيّف، استفقنا عليه جميعًا لحظةَ إحراق البوعزيزي نفسَه. وامتدّ الحريق بشكلٍ هرميّ عبر صرخة الانتحار الاحتجاجيّ ، التي نقلها الناسُ مستهدفين البلديّة، فالمحافظة، صعودًا في سلّم السلطة، وصولاً إلى بن عليّ نفسه. لقد تجرّأ الجميعُ على رؤية عري النظام ككلّ، وبدت الصورةُ ساطعةً بلا مساحيق. وهكذا، وعلى الرغم من تهرّب التونسيّ عادةً من أيّة شبهةٍ للتعبير السياسيّ، فقد وجد نفسه في مأزق صارخ، إذ إنّ أصغر الموظّفين الذين يسرقونه هم في النهاية موظّفون سياسيّون.
وهكذا تأتي الخاصيّة الثانية للنظام التسلّطي، أي الكليبتوقراطيّة، تعبيرًا عن العلاقة الوطيدة بين حيازة السلطة وحيازة الثروة، من أصغر مهامّ الدولة إلى أكبرها. ولقد كان الشعارُ المركزيّ للانتفاضة عند انطلاقتها من سيدي بوزيد، وهو “التشغيل استحقاقْ يا عصابة السرّاقْ،” والذي سرى كالنار في الهشيم، وتحوّل في ظرف أيّام من استهداف مسؤولين بلديين وجهويين إلى استهداف بن عليّ نفسه، قد عبّر عن قناعة المقصيّين من الثروة بالعلاقة الوطيدة بين الشكل التسلّطيّ للنظام وكيفيّة تحصيل الثروة. الجدير ذكرُه أنّ التونسيين، في الأسابيع القليلة قبل لحظة الصفر (احتراق البوعزيزي)، عاشوا على وقع تداول وثائق ويكيليكس التي تسرّبتْ عبر موقع “نواة” التونسيّ وتركّزتْ في نسخها الأولى على السلوك الكليبتوقراطيّ المتضخّم للسلطة في عائلتها الحاكمة. وفي مجال الإعلام البديل، الذي أضحى عبر الفايسبوك مهيمنًا على مصادر معلومات الشباب المفقر، لم يكن صعبًا على ما يبدو أن يروْا في أصغر الموظّفين البلديين الذين يسرقونهم صورةً مصغّرةً عن نظامٍ سارقٍ كامل. تلك تبدو الخليّة الأولى للثورة: إنّها ذلك الوعيُ الحادّ للترابط الوثيق بين وضع الناس الاقتصاديّ البائس وطبيعته السياسيّة.
آخر خصائص نظام بن علي التسلّطيّ طابعُه البوليسيّ. وهذا لا يتعلّق بمهنة الشرطيّ تحديدًا بل يمتدّ إلى جميع المشتركين في السلطة. نحن الآن في الأسابيع الأولى بعد انكشاف بعض أرشيف مؤسّسات السلطة، ويمكن أن نرى عبر تقارير الأجهزة الأمنيّة، وعبر جهاز الحزب الملحق بالدولة (حزب التجمّع)، كيف كان الاستخبارُ قاطرةً لاشتغال الدولة، تقوم به شرائحُ مختلفة، بما في ذلك الشرائحُ “السياسيّة،” وتحديدًا “الزبونيّة،” وبشكل دقيق.iii ثمة قطاعاتٌ مؤثّرة من الأجهزة الأمنيّة نرى الآن بشكل رسميّ، خصوصًا بعد 14 يناير، وتحديدًا في سياق التصريحات المتلفزة لوزير الداخليّة الجديد يوم 1 فيفري، أنها كانت تتصرّف مثل العصابات، إذ يميل أعضاؤها بشكل روتينيّ إلى تخطّي الخطّ الرفيع الفاصل بين الشرعيّة والجريمة. في هذا الإطار فقط يمكن أن نفهم عدمَ قدرة عناصر هذه الأجهزة على رفض “التعليمات،” لكون المرجعيّة العليا بالنسبة إليهم هي السلطة لا القانون، ولكون التضامن يتمّ داخل المجموعات لا في إطار الدولة. وهنا تحديدًا، أيْ بين رؤساء هذه المجموعات، تحدث التقاطعاتُ مع بعدي التسلّطيّة الآخريْن، الزبونيّة والكليبتقوراطيّة، لأنّ حمل السلاح مَنْفذٌ آخر للنفوذ السياسيّ و للثروة. وهنا أيضًا يمكن أن نفهم الانزلاق السريع نحو قتل المتظاهرين بشكلٍ نادرٍ في السياق التونسيّ (219 شهيدًا حتى 14 يناير فقط حسب تقرير الأمم المتحدة الصادر في 1/2/2011)؛ كما يمكن أن نتصوّر طبيعة المعركة الغامضة التي حدثتْ (ولا يبدو أنها استُكملتْ بعد) بين الأجهزة الأمنيّة المختلفة بعيْد رحيل بن عليّ. لقد كان الرصاص الحيّ الذي أُطلق بنيّة القتل هو إعلان كلّ أبعاد النظام التسلطيّ عن احتقاره الكامل للعقد الظاهر بين الدولة والمجتمع. وكانت تلك هي النقطة التي قرّر فيها معظمُ الفئات المستبعدة من معادلة النظام الخروج إلى الشارع مهما كانت التبعات.
هذه الخصائص الثلاث للنظام التسلّطيّ لم تكن تتغذّى من سياقٍ محلّيٍّ فحسب، بل كانت منسجمة تمامًا مع السياق الإقليميّ، وكذلك مع النظام الدوليّ الذي ضخّم تلك الخصائص عبر قروض الاتحاد الأوروبيّ والبنك الدوليّ. لقد كانت اتفاقيّة الشراكة الأوروبيّة، ومساراتُ الخوصصة المرتبطة بها، أهمَّ فرص توسيع دائرة الربح الكليبتوقراطيّ (وتباعًا تفقير البقيّة) ومن ثمة ترسيخ النظام في تونس. ولم تكن هذه السيولُ الماليّة تترافق مع أيّة مراقبةٍ جديّة، في حين كان اللوم الدوليّ المحتشم على الوضع السياسيّ التونسيّ يتراجع بسرعة أمام ظاهرة “الاستقرار” ونموذج “دحر الإرهاب.”
طبيعة الثورة وآفاقها
بالنظر إلى طبيعة النظام إذن، فإنّه لا يمكن الحديثُ عن إنجاز ثورة في السياق التونسيّ، إذا لم يتحقّق إنهاءُ التسلطيّة في أبعادها الثلاثة: التنافسيّة-الزبونيّة التي تعطّل أيَّ معنًى جدّيّ للانتخابات، والكليبتوقراطيّة التي تجعل السلطة مطيّةً للثروة، والبوليسيّة التي تجعل احتكارَ الدولة للسلاح فرصةً لترسيخ البعدين الأولين عبر أجهزةٍ متغوّلة. تفكيك هذه المعضلات الثلاث، وقطعُ الروابط بينها: هذا هو المسار الوحيد الذي يمْكن أن ينجز مهامّ الثورة. وفي الأثناء، من الضروريّ مراجعةُ طبيعة العلاقة مع القوى الدوليّة المهيمنة، بغية الانتقال من وضع سلطةٍ مستأمنةٍ على “الاستقرار” وتستقوي نخبتُها بالدعم الماليّ والمعنويّ الخارجيّ إلى سلطةٍ مستأمَنةٍ من قِبل شعبها على مصالحه وتتكلّم وتستقوي به.
إنّ أكبر الأسئلة هو، بالتأكيد، سؤالُ خريطة الطريق الانتقاليّة نحو تفكيك العقبات الثلاث أعلاه. ولقد كان ضغطُ الشارع المتواصل واليقظ بعد 14 يناير قادرًا على إحباط كلّ محاولة من داخل النظام للحفاظ على وجوده. ولم تَقْسم هذه المعركةُ البلادَ دائمًا إلى أبيض وأسود بل كان بعضُ القوى (خصوصًا المنظّمة سياسيًا ونقابيًا) زئبقيًا من حيث وجودُه في صفّ النظام أو خارجه.iv وحكومة “الوحدة الوطنيّة” الأولى (17/1)، التي أَلحقتْ بالسلطة أحزابًا من المعارضة “الجدّيّة،” كانت على الأرجح هي الحكومة التي هيّأها الرئيس يوم 13 يناير لتكون آخرَ ورقةٍ يلعبها.v وكان التراجع عنها وإعلانُ حكومة “وحدة وطنيّة” ثانية يوم 27 يناير بعد اعتصام تاريخيّ في “قصبة” الحكم تراجعًا كبيرًا عن هيمنة رموز النظام، واستيعابًا لوجوه “مستقلّة” تغْلب عليها ظاهرة التكنوقراط… و لو أنّ المؤشِّرات تتلاحق على وجود مجموعةٍ من الوجوه الشابّة الفرنكوـ تونسيّة القادمة من باريس، وتحديدًا من أوساطٍ مقرّبةٍ من اليمين الفرنسيّ، ومرتبطةٍ بنخبة الحكم التونسيّة عمومًا،vi مع تواصل وجود ثلاثة تشكيلاتٍ سياسيّة (هي “التجمّع” والحزبان الملحقان بالسلطة) وبعض الوجوه المحسوبة بهذا الشكل أو ذاك على المنظمة النقابيّة. وفي المحطتين، وعلى مرحلتين، تمّ تقليصُ الهوّة، التي بلغتْ مداها في 14 يناير، بين بقايا السلطة القديمة ومكوّنات سلطةٍ جديدة. غير أنّ التجدّد الجزئيّ في شخوص السلطة الجديدة وآليّاتها لا يضْمن إنهاءَ خاصيّات النظام القديم الثلاث، ولاسيّما أنّ أهمّ جهازين من أجهزته لا يزالان إمّا في مواقع السلطة المركزيّة وإمّا في مواقع النفوذ عبر مفاصل الإدارات الجهويّة والبيروقراطيّة. وذلك يعني تواصلَ حالة الغليان، والإسقاط اليوميّ للرموز الصغيرة لهذه الأجهزة.
أما الأجهزة التي تملك السلاح فيبدو وضعُها معقدًا. ذلك أنّ إقالة أكثر من أربعين مسؤولاً كبيرًا بداية شهر فبراير لا يمكن أن يكون نهايةَ القصة بعد الإعلان الواضح عن تورّط بعض الأجهزة ومسؤوليها في حالات الترهيب والفوضى حتى اللحظة. هذا ناهيك بالجيش، أكبرِ اللاعبين خلف الستار، ويحظى رغم حجمه الصغير بالثقة الشعبيّة الكبرى، ولو أننا لا نعرف تحديدًا كيف يقوم بصناعة السياسة والتأثير في الحكومة.
المسكوت عنه الآخر، والأكبر، هو وضعُ “التجمّع،” حزبِ السلطة القديمة (يصعب وصفُه بالحزب)، الذي له علاقاتٌ قويّةٌ بمختلف أجهزة السلطة، ويتقاسم بعضُ عناصره المسؤوليّات الحزبيّة مع مسؤوليّاتٍ أخرى. هذا الحزب لن يسلّم بسهولة، وقد أعلن قادتُه تبنّي “الثورة” بكلّ صفاقة، وسيقومون بـ “تجديد” جلده وسط معارك زعاماتٍ مرتقبة. في المقابل، فإنّ تشتّتَ القوى المقصيّة من توافق السلطة الحاليّة من جهة، وتشتّتَ قوى الشارع التي طالبتْ بالإسقاط الكامل لحكومة 13/17 يناير وبحلّ “التجمّع” من جهةٍ ثانية، وانفلاتَ طاقات الكثير من الشباب المفقرين الذين كانوا حطبَ الثورة خارج أيّ تنظيم رافضين الأطر الإيديولوجيّة المتخشّبة للمشهد السياسيّ القديم؛ كلّ ذلك يجعل أهمّ فرص هذه الثورة في تجديد السياسة في البلاد في مهبّ الريح. بمعنًى آخر، فإنّ استكمال الثورة وأهدافِها الثلاثة لايزال في حاجةٍ إلى أداةٍ سياسيّةٍ تترجم مصالحَ ومطامحَ قطاعاتٍ واسعة، سواءٌ في فرض وجودها في الحكم الانتقاليّ (وهو أمرٌ صعبٌ الآن) أو في التأثير بقوةٍ لضمان انتخاباتٍ حرّةٍ حقيقيّةٍ بعد ستة أشهر تستطيع ترسيخ مشهدٍ سياسيٍّ تشاركيٍّ جديدٍ يؤدّي إلى اضمحلال “الزبونيّة السياسية” ويقدّم السندَ الشعبيَّ لإنهاء مفاصل كليبتوقراطيّة النظام التسلّطيّ وبوليسيّته. أما القوالب الإيديولوجيّة لمشاريع مجتمعيّةٍ شموليّةٍ تضع “الشعارَ” قبل المهامّ الظرفيّة الملحّة ولا تأخذ بتفاصيل هذه المرحلة الانتقاليّة، فستهمّشها القوى المؤثِّرةُ في الشارع.
نحن، إذًا، إزاء مسارٍ لولبيٍّ ومعقّد، لا يسير في خطّ واحد، ولن يتمّ حسمُه من خلال تطوّراتٍ سريعة، وسيكون الصراعُ فيه بين مدٍّ وجزر. البعض يمكن أن يكون في صف مشروع الثورة الآن ثم ينتقل إلى الصف الآخر في الغد، مع بقاء قوى اجتماعيّة (الشباب المفقر، بعض الطبقة الوسطى..) دائمًا في صفّ الثورة. وهكذا لا يمكن النظرُ حتى إلى الانتخابات الحرّة بعد ستة أشهر، على الأرجح، كمحطةٍ نهائيّةٍ في هذا المسار.
نيو جيرزي، 2/2/2011
*أستاذ جامعيّ تونسيّ، يدرّس في قسمَي التاريخ وتاريخ الفن في جامعة روتغرز.
1- أنظر مثلا: Lust, Ellen. “Competitive Clientelism in the Middle East,” Journal of Democracy, Vol. 20, No. 3, July 2009, pp. 122-135
2- أنظر في هذا السياق التقارير السنويّة الأخيرة لمنظمة Global Integrity
3- بعض هذه الوثائق المنشورة على صفحات فايسبوك، وتمّ الحصول عليها إثر اقتحام مراكز الشرطة ومقرّات حزب السلطة، تتضمّن جداول لأسماء المخبرين وتخصّصاتهم (سياسة، اقتصاد…) وتتضمّن كل شرائح المجتمع من أفقرها إلى أقلها فقرًا، ولكنْ يتقاضى الجميع مرتّبات متواضعة لا تزيد عن المائة والخمسين دولارًا في سياق تورّط الجميع في عفن التعيّش من السلطة. من جهةٍ أخرى، تمّ نشر وثائق لقادة جهويين كبار لحزب التجمّع تتمثّل في تقارير أمنيّة لا تختلف في شيء عن تقارير البوليس إلى رؤسائهم السياسيين حول الوضع الأمنيّ وخاصة في جانبه السياسيّ.
4- حول تفاصل موازين القوى والصراع بين مختلف الأطراف في الأسبوع الأول إثر تشكل حكومة الوحدة الوطنيّة الأولى، أنظر: طارق الكحلاوي، “ملاحظات سريعة حول وضع متسارع،” الجزيرة نت، 23/1/2011. وحول التطورات اللاحقة، خصوصًا تواصل ضغط الشارع ومتغيرات موازين القوى في السلطة والشارع عشيّة تشكيل حكومة الوحدة الوطنيّة الثانية، أنظر: “حوار مع طارق الكحلاوي على موقع إيلاف بتاريخ 27/1/2011.
5- للاطلاع على تفاصيل أكثر، أنظرْ مثلاً النقطة الخامسة من: طارق الكحلاوي، “تونس: تشخيص للوضع الراهن و آفاقه،” ميدل إيست أونلاين، 24/1/2011. وكذلك تقرير نشرة جون أفريك الناطقة بالفرنسيّة (31/1/2011) لعبد العزيز بروحي حول أنّ مضمون خطاب بن علي ليلة 13 يناير كان مكتوبًا بناءً على ملاحظات قدّمها في اليوم ذاته قادةُ أحزاب المعارضة “الجدّيّة” الثلاثة إلى محمد الغنوشي الذي أرسلها عبر الفاكس الى بن علي في قصره في الحمّامات.
6- برز في الأسابيع الأخيرة شخصُ حكيم القروي، وهو فرنسيّ ـ تونسيّ مقرّب من أوساط الايليزيه وكان كاتب خُطب رئيس الوزراء الفرنسيّ اليمينيّ جان بيار رافاران، وهو أيضًا ابن أخي حامد القروي نائبِ الرئيس الأسبق لحزب “التجمّع” (حتى سنة 2008)، وأحد أقرب المقرّبين إلى بن عليّ. إذ تبيّن أنّ القروي ساهم في الأيّام الأخيرة لبن عليّ في محاولة إصلاح صورة النظام عبر توصيات أرسلها إلى بن عليّ وتفاعل معها الأخيرُ وتجسّمتْ في خطابه الأخير ليلة 13 يناير. القروي أكّد هذا الموضوع مشيرًا إلى أنّ صديقه مروان المبروك، أحد أصهار بن عليّ، هو الذي دعاه إلى القيام بذلك. يشغل القروي الآن خطة مستشار للوزير الأول محمد الغنوشي، وتم إقحام أربعة من أكثر المقرّبين إليه في الحكومة الثانية للغنوشي (إلياس الجويني، سامي الزاوي، ياسين براهيم، مهدي حواص)، وجميعهم أعضاء في “الأتوج” أو “جمعية التونسيين المتخرّجين من المدارس الكبرى” الفرنسيّة، والأهم أنّ أغلبهم أعضاء ناشطون في منظمة “قادة شبّان للمتوسط” القريبة في رؤاها من طروحات ساركوزي حول “الاتحاد المتوسطيّ.”
المقالة منشورة في مجلة الآداب, ١-٣ /٢٠١١

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى