ثورة تونس

انتفاضة تونس: كيف نحافظ على مكاسبها؟ ومتى يتحقّق التحرّر الفعليّ؟

* شاهين الساقي
ثورة أم انتفاضة؟
ما الذي حصل في تونس بالضبط: ثورة أم انتفاضة؟
الإجابة عن هذا السؤال ليست ترفًا فكريًا أو انسياقًا وراء تهويماتٍ نظريّة، وإنّما هي الأساس النظريّ الذي على ضوئه نحدّد في أيّ واقعٍ نحن حتّى تكون ممارستنا خلوًا من الارتجال والاستسلام للعاطفة.
قد تتميّز بعض الثّورات في تفاصيل عدّة. ولكنْ إنْ تتبّعنا تاريخَ الثّورات فسنكتشف أنّها ارتكزتْ على الأسس ذاتها، محقّقةً منجزاتٍ جذريّة في لحظةٍ معيّنة. وهذه الأسس هي: 1) الواقع الثّوريّ متمثّلا في: أزمةٍ عارمة؛ أو ارتباكٍ حادٍّ في صفوف القوى الممسكة بزمام السلطة؛ أو حراكٍ متصاعدٍ للجماهير التي ليس لها ما تخسره إلاّ أغلالها. 2) الرأس الثّوريّ: ويمكن أن يكون حزبًا ثوريًا،أو جبهة تحريرٍ وطنيّ، إلخ. أمّا منجزات الثّورات فتتمثّل في: دحر النظام القائم وإرساء نظام جديد؛ تحقيق الانتقال من مرحلة إلى مرحلة،…
إنّ المتابع لما حصل في تونس يلحظ توفّر الواقع الثوريّ، وغياب الرّأس الثّوريّ. والحقّ أنّ إدراج الرّأس الثّوري ضمن العناصر التّي تشكّل الثورة ليس أمرًا اعتباطيًا مثلما يزعم بعضُ الطّروحات الشّعبويّة. فتوفّر الرّأس الثّوريّ الذي تلتفّ حوله الجماهيرُ يعني وجودَ درجةٍ عاليةٍ من التنظّم، قوامُها: وضوحٌ في الأهداف، وتوزيعٌ دقيقٌ ومدروسٌ للمهامّ، وتجذّرٌ في مختلف الميادين والقطاعات، واختراقٌ لكلّ مؤسّسات الدّولة وأجهزتها بما في ذلك الجهازُ الأمنيّ والعسكريّ. وهذا ما يؤدّي إلى دحر النظام القائم، وتحقيق الانتقال من مرحلة إلى مرحلة.
لو تأمّلنا جيّدًا ما حصل في تونس لتبيّن أنّ الجماهير المنتفضة البلارأس قد أسقطتْ رأسَ النظام ولم تسقط النظام، الذي ظلّ قائمًا، تجسّدُه المؤسّسةُ العسكريّة التي أعلنتْ حظر التّجوّل في كامل البلاد عشيّة 14 جانفي، تاريخ فرار الطاغية من تونس. ومن المؤكّد أنّ المؤسّسة العسكريّة لم تعلن حظر التّجوّل باسم الثورة، أو باسم التنظيم الذي قاد الثورة، وإنّما باسم النظام الذي يحدّد دستورُه لها مثلَ هذه الصلاحيّات. فلم تكن هذه المؤسّسة على الحياد مثلما اعتقد أغلبُ الناس، وإنّما كانت جزءًا من النظام القائم. وكانت كوادرُها العليا (ومازالت) تَرْقب ما يدور من أحداثٍ، منتظرةً أوّلَ بصيص لفراغٍ سياسيٍّ قد يحصل لتسطو على ثمار الانتفاضة وهي مطمئنّةُ البال، متيقّنةً من وجود مؤيّدين لها كثر في صفوف الجماهير، بعد أن رسمتْ لنفسها صورةً ملائكيّةً لحظة تمايزها من الجهاز البوليسيّ بامتناعها عن إطلاق النار على المتظاهرين. ويمكن القولُ إنّ أكثر حزبٍ يحظى باحترام الجماهير ـ إلى لحظة كتابة هذه الأسطر- هو “حزبُ الجيش”!
ماذا عن الانتقال من مرحلة إلى مرحلة؟
تعيش تونس منذ تاريخ 20/3/1956 (معاهدة الاستقلال) في سياقِ “الاستعمار الجديد (غير المباشر).” وقد اتّسم بـ : 1) الارتهان لقوى الهيمنة الاستعماريّة في الخيارات والسياسات الاقتصاديّة والاجتماعيّة والتربويّة والثّقافيّة، نتاجًا طبيعيًا لهيمنة الكمبرادور على أجهزة الدولة ومؤسّساتها. 2) الحكم المطلق، وقد دشّنه الرّاحل الحبيب بورقيبة في إطار ما يسمّى “الاستبداد المستنير،” ورسّخه الطّاغية بن علي في نظام استبداديّ بوليسيّ. وما الذي حصل الآن؟
لقد تمكّنتْ هذه الانتفاضة ـ وهذا من بين ما يُحسب لها ـ من الإطاحة بجزء مافيويّ من الكمبرادور، هو العائلة المالكة (الطرابلسيّة والماطريّة وعائلة بن عليّ إلخ..). ولكنْ لم يتمّ القضاءُ على هذه الطّبقة قضاءً مبرمًا، ومن المؤكّد أنّها ستستجمع شتاتها من جديدٍ لتتموقع في حزب أو أحزاب أو منظّمات تكوِّن تعبيراتها السياسيّة والمدنيّة، ولها من الإمكانيّات ما يؤهّلها لتكون من جديد لاعبًا بارزًا على الساحة السياسيّة، إنْ لم يكن عاجلاً فآجلاً. كما أنّ الأموال الطّائلة التي تضخّها بعضُ الجهات من الشرق والغرب للحكومة التونسيّة الموقّتة لا يمكن أن تكون من أجل سواد عيون التونسيّين و”ثورتهم المباركة،” وإنّما تعجيلاً في تحقيق “الاستقرار” حتّى لا تهتزّ مصالحُهم أكثرَ ممّا اهتزّت. ولعلّ هذا ما يفسّر سرعةَ الاستجابة لطلب الحكومة تجميدَ الأرصدة البنكيّة الخاصّة بالطاغية وزبانيته في الخارج.
أما في مسألة الحرّيّات والديمقراطيّة والمواطنة، فقد حقّقتْ هذه الانتفاضة نتائجَ فاقت كلّ التّوقّعات. وهذا، لعمري، ما أربك بعض المثقّفين والمفكّرين، فعالجوها كما لو كانت “ثورةً استثنائيّة” في حين أنّها لم تكن إلاّ انتفاضة استثنائيّة اعتبارًا لمنجزها الرائع في مجال الحرّيّات الذي جعلها تلامس “الثورات الكبرى” من دون أن تكون واحدةً منها.
إنّ الإطاحة بالمافيا الحاكمة، وانبلاجَ فجر الحرّيّات في تونس، على أهمّيّتهما العظمى، لا يمثّلان انتقالاً من مرحلةٍ إلى مرحلة، وإنّما انتقالاً من طور إلى طور في المرحلة نفسها. وبصورة أدقَّ وأوضح، فإنّهما يمثّلان انتقالاً من طور الحكم الفرديّ إلى طور الديمقراطيّة الليبيراليّة التي تقف حدودُها عند آخر خطّ أحمر يهدِّد الكمبرادورَ في وجوده، في ظلّ نظامٍ خاضعٍ لـ “الاستعمار الجديد.”
صوت الجماهير أمْ صوت عفويّة الجماهير؟
أثّر وصف ما حصل في تونس بأنّه “ثورةٌ” في أداء القوى السياسيّة التي تبنّت هذا التّصوّر، وجرّها إلى ارتكاب أخطاءٍ فادحة، بدءًا بالشعارات الخاطئة التي لا علاقة لها باللحظة ولا تترجِم طبيعةَ المرحلة، وانتهاءً بممارسةٍ عمليّةٍ قوامُها الارتجالُ والعفويّة. هكذا تعالت الأصواتُ مناديةً بإسقاط “فلول النّظام” و”بقايا العهد البائد” ظنًا منها أنّ ما يحصل ثورة، وأنّ هذه الثورة بصدد استكمال شروطها وملامحها. لقد انساقت تلك القوى السياسيّة وراء عفويّة الجماهير الغاضبة على النظام وأزلامه، فرفعتْ شعاراتها، متأثّرةً بها من دون أن تؤثّر فيها، فصارت هذه القوى السياسيّة جزءًا من عفويّة الجماهير، وصارت عفويّةُ الجماهير قاطرةُ لهذه القوى السّياسيّة.
إنّ أخذ الحالة الجماهريّة في الاعتبار أمرٌ جوهريٌّ بالنسبة إلى أيّ تنظيم ثوري، ولكنّ ذلك لا يعني الإذعانَ لعفويّتها! هنا نستحضر ما قاله الحكيم جورج حبش:” التنظيم الثّوريّ هو الذي يقود الجماهيرَ، ليس من فوق، وإنّما من خلال تجربته النضاليّة ضمنها، من خلال تعليمِها وتعلّمِه منها… فبدلاً من أن يلحق التّنظيمُ بتلك الحالات [حالاتِ الضّياع] تصبح مسؤوليّته أكبرَ في توضيح الصورة للجماهير والتقاطِ المصلحة الحقيقيّة لتلك الجماهير. وأيُّ تنظيم لا بدّ أن يكون قائدًا، لا ذيلاً لعفويّة الجماهير.” (النهج الثوريّ، ط 1، نيسان 1974، لجنة الإعلام المركزيّة في الجبهة الشعبيّة لتحرير فلسطين). إلاّ أنّ تلك القوى السياسيّة، نظرًا إلى عدم جاهزيّتها للتعامل مع مثل هذه الأحداث، وتبعًا لتوهّمها أنّ ما حصل ثورةٌ أطاحت بالنظام فلم يبق منه غيرُ “فلول،” رفعتْ المطلبين الآتيين: 1) إسقاط الحكومة الموقّتة باعتبارها امتدادًا للعهد البائد؛ و2) حلّ الحزب الدستوريّ باعتباره الأداة السياسيّة للاستبداد. واستندتْ هذه القوى، في رفعها لهذين المطلبين، إلى “نبض الشّارع” و”هدير الجماهير،” معتبرة أنّ من لا يتقيّدْ بمطالب الجماهير يخُنْها. لكنّي هنا أسأل: ماذا سيكون موقفُ هذه القوى (علمًا أنّ غالبيّتها من اليسار) من الجماهير لو خرجتْ مناديةً بدولة الخلافة؟ أتقول إنّ هذا مطلب الجماهير ومن لا يحملْه يخٌنْها؟!
إنّ المطلبين المذكورين أعلاه، في واقع الأمر، مطلبان شرعيّان. لكنّ شرعيّتهما لا تعني واقعيّتهما:
أ) فالمطالبة بإسقاط الحكومة الموقّتة، بدلاً من المطالبة بتعديلاتٍ وزاريّةٍ (وهذا ما حصل بالفعل)، كان يمكن أن يؤدّي إلى خلق فراغٍ سياسيّ هو بمثابة هديّةٍ لا نظنّ المؤسّسةَ العسكريّةَ رافضةً لها. كما أسهم هذا المطلبُ في إخماد الوعي النقديّ لدى الجماهير، التي بات تقييمُها للحكومة من خلال الأسماء لا الأداء.
ب) أما مطلب حلّ الحزب الدستوريّ ـ على نبله ـ فيَحْمل في طيّاته استدعاءً لقيمٍ ماقبل مدنيّة، إذ نخشى أن يكون التماهي مع هذا المطلب الجماهيريّ تكريسًا لعقليّة الاستئصال وامتثالاً لرغبةٍ في الانتقام. وفي المقابل، كان يمْكن أن يعقلَنَ هذا المطلبُ قليلا، فيتّجه إلى فكّ الارتباط بين هذا الحزب وأجهزة الدولة ـ وهو مطلبٌ رفعته القوى الديمقراطيّة في تونس طوال عقود، وهو ما تحقّق بالفعل.
إنّ درب توعية الجماهير لتخليصها من عفويّتها دربٌ طويلٌ وشائك. وإنّ التماهي مع عفويّة الجماهير جعل من هذه القوى السياسيّة فريسةً للشعبويّة. فلم تقف لترى إنْ كانت تونس تعيش ثورةً بأتمّ ما في الكلمة من معانٍ، أم انتفاضة لها حدودُها مهما اتّسعت مكاسبُها. فكانت صوتَ عفويّة الجماهير، لا صوتَ الجماهير.
ما العمل؟
إنّ إقرارنا بالانتقال من طور الاستبداد إلى طور الديمقراطيّة ضمن مرحلة الاستعمار الجديد لا يعني أنّنا بصدد تبخيسِ ما يحدث في تونس من تحوّلات. فالحقّ أنّ هذا الانتقال هو مربطُ الفرس بالنسبة إلى القوى الوطنيّة اليساريّة والتقدّميّة في مسار تحقيق تّحرّر البلاد الفعليّ. فكلّما وَسّعت الشعوبُ هامشَ الحرّيّات واتّجهت إلى الديمقراطيّة في أوطانها، ازدادت قوّةً وتقدّمتْ خطواتٍ نحو تحقيق التحرّر الفعليّ. ولكنّ ذلك يبقى منوطًا بدرجة نضجها، المرتبط عضويًا بقدرات النخب الفكريّة والسياسيّة التي ستضطلع بمهمّة إنضاجها: فإمّا أن توفَّقَ هذه النُّخب في فهم واقعها وتحديد تناقضاته واستنباط حلولٍ دقيقةٍ لهذه التناقضات، فتكونَ ممارستُها النضاليّة مع الجماهير في مسارٍ تراكميّ يختصر الزمن؛ وإمّا أن تكون متخبّطة يطغى عليها الارتجالُ والعفويّةُ، فلا يكون ذلك إلاّ في مصلحة قوى الهيمنة الاستعماريّة وزبانيتها من الكمبرادور.
إنّ أمام القوى الوطنيّة اليساريّة والتقدّميّة في تونس مهمّة تاريخيّة عظمى، هي تحقيق التحرّر الوطنيّ والاجتماعيّ. وهذا ما يجعلنا نقف مجدّدًا أمام السؤال اللينينيّ الحارق: ما العمل؟
أـ مأسسة المكاسب. إنّ ما حقّقته الانتفاضة التونسيّة من مكاسب يفوق كلّ وصف. إلاّ أنّ التحوّلات تظلّ مهدّدةً بأن تعود القهقرى إنْ لم تتمكّن الجماهير، وفي مقدّمتها نخبُها الواعيةُ، من المحافظة على تلك المكاسب، والدّفعِ بعجلة التّاريخ إلى الأمام. ولا يمكن أن يكون ذلك ناجزًا إلاّ بالتوجّه الفعليّ نحو التنظّم السياسيّ والمدنيّ ــ وهي مهمّة يشقّ على النّخب التونسيّة أن تضطلعَ بها بعيدًا عن منطق المزايدات والتخوين لأنّ سنواتٍ طوالاً من الاستبداد أنتجتْ شعبًا أغلبُه لا يعرف من الأحزاب إلاّ الحزبَ الدستوري، ومن المنظّمات إلاّ اتّحادَ الشغل.
ولئن كانت للتنظّم الحزبيّ أهمّيّتُه، فإنّ التنظّم المدنيّ أكثرُ أهمّيّةً في هذه المرحلة. فتأسيس المنظّمات والجمعيّات في مختلف المجالات هو من أوكد المهامّ المطروحة على هذه النّخب. ويمكن أن تكون لجانُ الدفاع المدنيّ، التي تشكّلتْ في الأحياء الشعبيّة بهدف التصدّي لعصابات الطاغية المخلوع، أنويةً صلبةً لهذا التنظّم المدنيّ الذي ننشده. كما أنّ طلائع الحركة الشبابيّة، التي كانت قاطرةَ هذه الانتفاضة وعمودَها الفقريّ، مطالبةٌ اليوم أن تخرج من قوقعة الارتجال، وأن تشرع في تأسيس التنظيمات الشبابيّة؛ إذ لا يعقل، في تونس الانتفاضة، أن يحجّ الشابُّ التونسيّ الراغب في الاحتجاج على أيّ أمرٍ كان إلى اتحاد الشغل (مع عميق احترامي لهذه المنظّمة الوطنيّة العريقة) مثلما كان يفعل في “العهد البائد”!
تتحدّث بعضُ القوى السياسيّة عن ضماناتٍ يجب أن تقدّمها الحكومةُ الموقّتة للشعب حتّى لا تلتفّ على مكاسبِ “الثّورة.” وهنا نقول، بأعلى أصواتنا، إنّنا لا ثقة لنا بأيّ حكومةٍ مهما كانت، وإنّ الضامن الحقيقيّ للحفاظ على مكاسب الانتفاضة هو الدرجة العالية من التنظّم التّي يجب أن ندفع بشعبنا إلى بلوغها في أقرب وقتٍ ممكنٍ كي تتحقّق الموازنة بينه وبين مَن سيَحكمه.
ب- النضال العربيّ التقدّميّ المشترك. هل في مقدور الجماهير في تونس أن تحقّق ذاتَ يومٍ تحرّرها الفعليّ إنْ كانت نضالاتُها معزولةً عن محيطها العربيّ؟
أوّلاً، إنّ ما قدّمه العديدُ من القوى التقدّميّة العربيّة للانتفاضة التونسيّة منذ اندلاعها لا ينْكره غيرُ المتقعّرين في النهج القطْريّ. فقد قامت هذه القوى بتنظيم مسيراتٍ أو وقفاتٍ احتجاجيّة أمام السفارات التونسيّة في عدّة عواصم عربيّة، وهي تحرّكات ميدانيّة لا نخالها إلاّ أسهمتْ من موقعها في إرباك نظام الطاغية.
ثانيًا، إنّ الانتفاضة التونسيّة لم تزلزلْ عرش الطاغية بن عليّ فحسب، بل تحوّلتْ أيضًا إلى ملهِمٍ يشحذ عزائمَ حركات التغيير العربيّة، فاستأنفتْ نشاطها النضاليّ بجرأة وحماسة أكبر، وتعالت الأصواتُ مناديةُ برحيل الطّغاة. وتبقى الحالة المصريّة أقربَ إلى الوصول إلى ما حقّقته الانتفاضة التونسيّة.
يحيلنا هذان المؤشِّران إلى الترابط الوثيق بين أبناء الشعب العربيّ: فكلّ خطوة يخطوها أحدُ الأقطار في مسار تحرّره الوطنيّ أو السياسيّ أو الاجتماعيّ تصل أصداؤها إلى باقي الأقطار. ويُعدّ ذلك استجابةً صريحةً لمنطق التاريخ والجغرافيا المشتركين.
إنّه لمن الخطإ ألاّ نستغلّ هذا المعطى الموضوعيّ، ولو من باب البراغماتيّة بالنسبة إلى النّخب التونسيّة التي لا تتبنّى مشروع الوحدة، من أجل التسريع في تحقيق التحرّر الوطنيّ والاجتماعيّ الذي قد يطول إنْ بقيت نضالاتُنا معزولةً عن محيطها العربيّ أو مرتبطةً به في شكل مناسباتيّ أو رهينةُ للمصادفات. إنّ مناخ الحرّيّات المتوفّر في تونس الانتفاضة يمكّن نُخبها ـ إنْ وُجدتِ الإرادةُ الصادقة ـ من الاضطلاع بدور طلائعيّ في تحقيق وحدة الصفّ النضاليّ التقدّميّ العربيّ باعتباره السبيل إلى الخروج بالجماهير العربيّة (بما فيها الجماهير التونسيّة) من واقع الاستعمار والاستبداد والحيف الاجتماعيّ.
نهاية البداية
إنّ الارتهان لقوى الاضطهاد الطبقيّ والقوميّ لم ينشأ في يومٍ وليلة، وإنّما هو نتاجُ تراكمات. وبالمثل، فإنّ التحرّر من هذه القوى يتطلّب مراكمات. وأجمل ما في هذه الانتفاضة أنّها خطوة متقدّمة في سياق المراكمة لتحقيق التحرّر الوطنيّ والطبقيّ. وإنّ الخطوة الفعليّة القادمة هي الانتخابات المبكّرة التي يجب أن تُعِدّ لها مختلفُ القوى الوطنيّة اليساريّة والتقدّميّة ما استطاعت من قوّة، لأنّها كلّما اقتربتْ من مواقع القرار هلّتْ بشائرُ الثورة الحقيقيّة. ولعلّنا نستحضر الآن النموذج الأمريكيّ اللاتينيّ الذي يسير رويدًا رويدًا نحو تحرّره الوطنيّ والطبقي عبر الاقتراع الحرّ، ولسانُ حاله يقول إنّ أمريكا اللاتينيّة لن تكون حديقةً خلفيّةً للولايات المتّحدة الأمريكيّة.

تونس
*شاعر يساريّ شابّ من تونس.
المقالة منشورة في مجلة الآداب, ١-٣ /٢٠١١

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى