الدور التركي في المنطقةصفحات العالم

سياسة الأذرع الطويلة ودور تركيا المستجدّ في المنطقة

محمد مشموشي *
تبدو تركيا «حزب العدالة والتنمية»، في حركتها الواسعة على امتداد حدودها الجيوسياسية والجيواستراتيجية والاقتصادية والأمنية، في موقع من يؤسس لمستقبل تركي وازن في القرن الحادي والعشرين من جهة، ولكن في صورة من يحاول بالقدر ذاته أيضاً أن يثأر لماضي الأمبراطورية التركية «رجل العالم المريض» مطلع القرن العشرين. وعملياً، ففي الصورة الثانية هذه، يأتي الموقع العربي الذي يصح فيه وصف «رجل المنطقة المريض» الآن بعد أن لعب دوراً في انهاء السلطة العثمانية، كما يأتي موقع أوروبا التي أقفلت الباب تماماً في وجه تركيا الآن بعد أن كانت لها اليد الطولى في اسقاط السلطنة في السابق.
لكن الموقع والصورة هذين ليسا كل شيء. فمنطقة الشرق الأوسط التي تمسك تركيا بضفتها مع القارة الأوروبية، تعاني في وضعها الراهن، ومنذ سنوات طويلة، من «فراغ قوة» بقدر ما تعاني من «غزوات بالقوة»، من داخلها ومن خارجها، لملء هذا الفراغ. ومن شأن دولة مثل تركيا، والحال هذه، أن تقف على الأقل لتقول: أنا هنا!.
بل وأكثر، فإذا كان صحيحاً أن تركيا هذه قد تحولت في السنوات الأخيرة الى قوة اقتصادية وسياسية (وعسكرية طبعاً، كونها عضواً فاعلاً في حلف الأطلسي) على مساحة المنطقة كلها، بما يؤهلها لمثل هذا الموقع، فالصحيح أيضاً أن الظروف الدولية بدورها – فضلاً عن الإقليمية – تفسح لها في المجال للعب دور استراتيجي، في السياسة والأقتصاد كما في الأمن، يتناسب مع هذا الموقع.
من هذه الزاوية، يجب النظر ليس فقط الى ما يوصف «مصالحة تاريخية» بين تركيا وكل من أرمينيا وسورية، وإنما كذلك الى «حضورها» المتصاعد في قضايا المنطقة وأزماتها كلها، من فلسطين، والصراع العربي – الإسرائيلي عموماً، الى العراق ومشكلاته الطائفية والمذهبية والأثنية، الى حال العلاقات بين العراق وكل من سورية وإيران، الى ملف ايران النووي وتمددها خارج حدودها في الخليج وفي غيره من دول المنطقة، الى خطوط النفط والغاز من ضفاف وأعماق بحر قزوين الى أوروبا، وأخيراً لا آخراً الى قبرص وعلاقاتها مع اليونان من جهة والاتحاد الأوروبي من جهة ثانية.
لكن ما ينبغي عدم تجاهله، في الوقت ذاته، هو عدد من الحقائق التركية المحلية كقوة اعتدال اسلامية في الداخل والخارج، وكذلك الحقائق الإقليمية والدولية المتغيرة، وكلها تتحدث عن نفسها في العلن مرة وفي الخفاء مرات، كما يأتي:
أولاً – ترتبط تركيا، منذ التسعينات من القرن الماضي، بتحالف عسكري وأمني واقتصادي مع اسرائيل، لكن ذلك لم يمنعها من طلب «تأجيل» – بحسب التعبير الرسمي – التدريبات التي كانت ستقوم بها طائرات حلف شمالي الأطلسي وإسرائيل في سمائها في الفترة الأخيرة احتجاجاً على الممارسات القمعية الإسرائيلية ضد الفلسطينيين في غزة. والأمران معاً، أي المحافظة على التحالف الاستراتيجي مع اسرائيل وتأجيل التدريبات الجوية معها، لم يمنعا الأسطول التركي من الدخول في الفترة الزمنية نفسها تقريباً في مناورات لسفن الأطلسي في مياه البحر المتوسط بالاشتراك مع السفن الحربية الإسرائيلية.
ليس مهماً هنا اذاً الغاء الأطلسي للتدريبات الجوية كلها رداً على طلب التأجيل التركي، ولا حملة اسرائيل على الطلب والتأجيل، لأن شيئاً لم يتغير ( ولن يتغير غداً، كما تقول أنقرة ) في طبيعة التحالف التركي – الإسرائيلي. كما ليس مهماً بالقدر ذاته اعلان تركيا وسورية اقامة مجلس للتعاون الاستراتيجي وفتح الحدود في ما بينهما ولا التوجه الى اجراء مناورات عسكرية مشتركة في المستقبل، ما دام الهدف في النهاية هو موقع تركيا ودورها في المنطقة قبل أي شيء آخر.
فتركيا تقيم في صلب المفاوضات غير المباشرة، والتي كادت تتحول مباشرة لولا الاعتداء الإسرائيلي على قطاع غزة مطلع العام، بين دمشق وتل أبيب حول التسوية في الجولان وإذاً في المنطقة، كما أنها – وللمرة الأولى في تاريخها وتاريخ الصراع مع اسرائيل – متواجدة عبر جنودها في قوات «اليونيفيل» في جنوب لبنان، فضلاً عن كونها – ولأول مرة أيضاً – أكثر من ضيف شرف في مؤتمر الدول المانحة في شرم الشيخ لإعادة اعمار غزة.
المهم فقط هو تقرير ما اذا كان دورها يتوافق، في جانبه الإسرائيلي، مع سياسة ادارة باراك أوباما الداعية لـ «الضغط» في موضوع الاستيطان وحل الدولتين، وفي جانبه السوري مع سياستها الراغبة في «الحوار» حول مواضيع متعددة ان في فلسطين والعراق وإيران أو في غيرها من القضايا والدول.
ثانياً – اذا كان لتركيا، العضو الفاعل في حلف شمالي الأطلسي، أن تميز نفسها عن الحلف، وعن الولايات المتحدة بخاصة، في موضوع غزو العراق فتحول دون استخدام قواعد الحلف العسكرية على أراضيها في الغزو، وأن تتفرد في موقفها من مشاركة اسرائيل في التدريبات الجوية أخيراً، فلا يعني ذلك اطلاقاً أن لها سياسة عسكرية أو أمنية في المنطقة (وطبعاً، في العالم) مستقلة عن سياسات الحلف وخططه الجيواستراتيجية والسياسية لها.
من هذه الزاوية، اضافة الى زوايا أخرى تركية خاصة، ينبغي النظر حتى الى «المصالحة التاريخية» بين تركيا وكل من أرمينيا وسورية. فقد شكل هذان البلدان، بخاصة في الأعوام الأخيرة، نقطة ضعف في خطط الحلف الاستراتيجية لمرحلة ما بعد الحرب الباردة من ناحية، ومركز وثب لقوى مناهضة لهذه الخطط من ناحية ثانية. لا يقف الأمر هنا عند دور ايران وحضورها السياسي والأمني والاقتصادي في البلدين، بل يتعداه عملياً الى الاتحاد الروسي والجمهوريات السوفياتية السابقة في القوقاز وحوض بحر قزوين بما فيه من ثروات نفطية وغازية وخطوط أنابيب لمد العالم الصناعي بحاجاته من مولدات الطاقة.
وصحيح أن لتركيا مصلحة مباشرة في كسر أقفال بواباتها مع أرمينيا وسورية واليونان، كما في الانفتاح من خلالها على فضاء الجمهوريات السوفياتية السابقة والعالم العربي، لكن ذلك لا يمنع من أن لحلف الأطلسي، وربما للولايات المتحدة تحديداً أكثر مما للاتحاد الأوروبي، مصلحة استراتيجية موضوعية في ذلك أيضاً. أما لماذا لا مصلحة مباشرة لأوروبا، فلذلك أسباب أخرى قد يكون في مقدمتها اهتمام بعض الدول الأوروبية – كما كانت الحال بعد انتهاء الحرب الباردة – بمنطقة حوض البحر المتوسط التي سيكون عليها أن تحفظ مصالحها فيها على حساب أية مصالح تركية اقليمية… أو حتى أميركية استراتيجية.
* * *
في كل حال، لا يبدو أن عوائق كبيرة ستقف في وجه أذرع تركيا الطويلة وامتداداتها الحالية في المنطقة على طريق التأسيس لدور اقليمي، سياسي وأمني واقتصادي، وازن فيها.
أكثر من ذلك، فهذه الدولة الديموقراطية والتي يحكمها حزب يرفع شعار الاعتدال الإسلامي، انما تتعامل مع محيطها القريب ومع العالمين العربي والإسلامي بسياسات تتناقض تماماً مع سياسات الدولتين الأخريين المنافستين لها على النفوذ الإقليمي (ايران وإسرائيل)… هي، عبر التصالح مع المنطقة، وهما من خلال العصا الغليظة وافتعال الحروب الأهلية بين كتلها البشرية وجموع أنظمتها السياسية.

* كاتب لبناني.
الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى