المسألة الكرديةصفحات العالمهوشنك بروكا

“قدس” كردستان، أو قميص الكردي عثمان

هوشنك بروكا
لم يعد خافياً على أحد، بأنّ “فايروس” التغيير قد انتقل إلى العراق وكردستانه أيضاً. فأول العراق المنتفض ضد فساد فوقه، قد انطلق من أقصى شماله، وتحديداً في كردستان السليمانية، وذلك في السابع عشر من الشهر الجاري. أول الإنتفاضة في السليمانية، كما شاهدناها، لم تمرّ على فوق كردستان وأحزابه الحاكمة مرور الكرام. الشارع الكردي الغاضب هناك، كان قد انتهى إلى سقوط قتيلين وجرح عشرات آخرين، والغضب لا يزال مستمراً، في أكثر من مكان كردي بكردستان.
راهن الغضب الآن، امتد واتسع إلى العواصم الأوروبية، مثل لندن وستوكهولم وأوسلو وبرلين وعواصم أخرى. المكان المتظاهر، ما بين كردستان وخارجها، متعدد ومختلف، ولكن المطلب واحد:
كردستان فوق الجميع..كردستان وطن للجميع”.
المتظاهرون الكرد، سواء في الداخل الكردستاني أو في الخارج، يطالبون ب”إصلاح شامل”، أو “الرحيل”؛ رحيل الفوق الكردي الغائص في وحل الفساد من رأسه إلى أخمص قدميه، والذي حوّل كردستان إلى “مملكة” أو “مزرعة خاصة”، مسجلة بإسم المتنفذين من الحزبين الكرديّين الحاكمين، الديمقراطي الكردستاني بقيادة مسعود بارزاني، والإتحاد الوطني بقيادة جلال طالباني.
حتى الآن، لا توجد استجابة فعلية حقيقية، من الفوق الحاكم، لمطلب الشارع الكردي المنتفض، داخلاً وخارجاً.
رئيس الإقليم مسعود بارزاني، ردّ على المتظاهرين، بأكثر من رسالة، وأكثر من مؤتمر صحفي ومقابلة. ولكن ما جاء من كلامٍ كثير، في هذه المناسبات، لم يرضِ أكراد الشوارع الغاضبة، ولم يعبر عن نية حقيقية للإصلاح أو التغيير، تلبيةً لحقيقة مطالبهم، حتى الآن. كلّ ما جاء فيه، بحسب آراء الكثيرين، هو “كلام قديم”، تعرفه الجماهير الكردية، في تحت كردستان، وحفظته عن ظهر قلب، منذ زمانٍ كثيرٍ مضى. فالجمهور الكردي الغاضب، كما يقول أهل الشوارع، يريد أفعالاً لا أقوالاً، انتهت صلاحيتها، ولم تعد تشبع الناس خبزاً وحرية.
المطلب الجماهيري، عنوانه الآن هولير..هولير فقط لا غير.
فهولير بقيادة الحزبين الحاكمين، هي التي تستلم حصة كردستان التي تساوي 17% من ميزانية العراق الإجمالية،؛ وهي التي توقع على عقود النفط في كردستان مع الشركات الأجنبية؛ وهي التي تتحكم بمفاصل الدولة ومؤسساتها، من حكومة وبرلمان وقضاء وجيش وأمن ومخابرات وإعلام وشركات ومقاولات؛ وهي التي تفك وتربط كل ما يخص الأكراد، من أقصى العراق إلى أقصاه؛ وهي التي ترعى الفساد والفاسدين والمفسدين، وتعشعشهم من كردستان إلى كردستان؛ وهي التي تسجل كردستان بإسم المتنفذين، في الحزبين الحاكمين، وعلى رأسهم آل وأقرباء رئيسيهما؛ وهي التي تشيل هذا من كردستان وتحط ذاك…هي إذن الكلّ في الكلّ، ولاتتحرك نملة بدون إذنها.
ولكن، الذي حصل ويحصل الآن، بعد صعود الشوارع في كردستان، هو محاولة الفوق الكردي، متمثلاً بحزبيه الحاكمَين، خطف الأنظار من المظاهرات، ودفع المتظاهرين إلى اللعب “الضروري” في شوارع أخرى، “خارجية”، هي(وفقاً لزعم الفوق) أهم وأكثر استراتجيةً وضرورية. أنها شوارع “كردستان المؤجلة”، أو “كردستان المستقطعة”، المختزلة في “قدس”(ها) أي كركوك القلب، والتي يصطلح عليها في أدبيات العراقَين(بغداد + هولير)، ودستورهما ب”المناطق المتنازع عليها”، مثل كركوك وخانقين ومندلي وسنجار ومخمور والزرباطية والشيخان وغيرها.
أكراد الحكم، بدلاً من الإستماع إلى مطالب أكرادهم المشتعلين هذه الأيام في الشوارع، والدخول معهم في صلب حقوق وواجبات كردستان موجودة، تكون فوق الجميع، وللجميع، نراهم يهربون بخطابهم، إلى “كردستان متنازع عليها”، لم تتحقق بعد، وذلك بإعطائها “الأولوية”، على كلّ مطلب كردي آخر.
الكلّ في فوق كردستان، من رئيس إلى الإقليم، إلى نائبيه في الحزب والدولة، ورئيس حكومته، ورئيس أمنه، وبيشمركته، ورؤساء فروع حزبه، ومحافظيه..الكل بات يتحدث هذه الأيام، حيث الشوارع تقوم ولا تقعد، عن قضية “كردستان المستقطعة”، كقضية مركزية، يجب ألا تفوقها قضية أخرى، وألا تفارق الأكراد، وألا تغيب عن بالهم، كونها “القضية الأقدس”، لكل الأكراد في السلطة وخارجها على حدٍّ سواء.
فلا أمن ولا أمان، ولا استقرار، ولاحقوق حقيقية في كردستان حقيقية، بحسبهم، من دون تحقيق واستعادة “كردستان المستقطعة”، بعاصمتها “كركوك القدس”.
الملاحظ في هذا الخطاب التصعيدي، الآن، من جهة أكراد السلطة، هو أنهم ينوون به، توجيه أنظار الأكراد من “الداخل الكردي الفاسد”، إلى ماحوله من “كردستان مستقطعة”، لا تزال مؤجلة إلى أجل غير مسمى.
هذا الخطاب يشبه في مسعاه ومحاججاته، الخطاب القومي العربي الجار، الذي طالما شحّن الداخل العربي وأشعله، للتصدي لمخططات “الخارج العدو”.
بحسب دعاة هذا الخطاب “الضروري”، لا قضية كبيرة ولا صغيرة في الداخل، بوجود “عدو كبير”، خارجي في مواجهة آمال وطموحات الأمة. كل شيء في هذا الخطاب، يجب أن يسخّر لأجل معركة الأمة المصيرية، التي لا معركة قبلها ولا بعدها. فهي كلّ المعركة الواجبة على كلّ الأمة خوضها.
لا بل والأنكى، أنّ تصريحات الفوق الكردي المسؤول، تذهب في توصيف ما يجري في كردستان الشارع الآن، ب”أحداث مشاغبة”، و”أحداث عنف”، و”محاولات لضرب الأمن”، و”الخروج على القانون”، و”الدوس على مكتسبات كردستان”، و”معاداة الديمقراطية الكردية الفتية”، وسوى ذلك من التهم الجاهزة.
في آخر تصريحٍ له، يقول رئيس الإقليم مسعود بارزاني، لهذه الشوارع وقادماتها، حرفياً: “هؤلاء الذين يريدون الدوس على أمن كردستان وحقوق مواطنيها، لا مكان لهم في كردستان”!
التصريح، يحتمل بدون شك، الكثير من التأويل والتفسير السياسيّين. فهو تصرحٌ “حمّال أوجه”.
كان من الممكن بالطبع، أن يتفق كلّ نصيرٍ للأمن والهدوء والحقوق، في كردستان وسواها من الجهات الآمنة، مع هذا التصريح، لو كان الكلام موجهاً بالفعل ل”مخربين” في الداخل أو الخارج، يريدون الدوس على كردستان، وحقوقها في الأمان والإستقرار، عباداً وبلاداً.
ولكن هؤلاء المشمولين بكلام بارزاني، هم حصراً ركاب شوارع كردستان(ه)، الذين يرفعون العلم الكردي، ويريدون الإصلاح السياسي والإقتصادي، والحرية والعدالة والمساواة، في ظل العلم نفسه.
هؤلاء، هم أكراده، الذين شاركوه أيام كردستان الجبل، في السراء والضراء، وفي حلو الجبل ومرّه.
هؤلاء، هم أكراده، ممن يريدون لكردستان، وطناً يتساوى فيه الكلّ مع الكل، بدلاً من كردستان فساد الآن، وحزب العشيرة والعائلة الآن، وكردستان الكعكة الآن.
“قدس كردستان”، و ما حواليها من “كردستانات مؤجلة أو متنازع عليها”، بات ك”قميص عثمان كردي”، تحت الطلب، لتعلّق عليه الأحزاب الحاكمة ظروف كرستانهم “الإستثنائية”، وفشلهم في القضاء على “الفساد الإستثنائي”، أو تحقيق ما يريده الشارع الكردي، من مواطنةٍ، يتساوى فيها الكلّ في كردستانٍ، تضمن حقوق الكلّ.
لا شكّ أن قضية “المناطق المتنازع عليها”، هي قضيةٌ مهمة، من مجمل القضايا الكردية العالقة في بغداد، والتي تحتاج إلى حلول دستورية، حسبما تنص عليه المادة 140 من الدستور العراقي الدائم. ولكن أن تصبح هذه القضية، ك”قميص عثمان” جاهز، لتبرير كلّ فشل كردي في “كردستان اللامتنازع عليها”، أو بمثابة “قانون طوارئ كردي”، لرفعه عند الحاجة ضد كل داخلٍ يهتف لحقوقه في العدالة والحرية والمساواة، كما هو الحال في الدول العربية الطارئة، التي ترزح تحت حكم هذا القانون، منذ عقودٍ طويلة من الديكتاتورية الطارئة، فهذه سياسة لم تعد لها محلٌّ من الإعراب في زمن الشوارع الغاضبة.
الشارع الكردي، إذ ينتفض لحريته، لا يعني بأي حالٍ من الأحوال، التنازل عن حقوقه المشروعة في “المناطق المتنازع عليها” لبغداد، وإنما ما يعنيه هو: أنّ العبور إلى الحرية والعدالة والمساواة في كردستان الآن(كردستان المتفق عليها)، هو عبور حقٌ ومشروع، يمرّ ب”هولير” أولاً وآخراً، قبل مروره ببغداد وأخواتها.
فالحاكم القابض على كردستان الآن، فعلياً، هو كردي من هولير، على هولير، وفي هولير، وليس في مكانٍ آخر، أو عاصمةٍ أخرى، تنام في أدراجها، بنات “كردستان المستقطعة”، من كركوك إلى شنكال.
الديكتاتوريات العربية، وحكوماتها العاملة ب”قانون الطوارئ”، سقطت بعضها، ولا يزال حبل بعضها الآخر على الجرار، لأنها فشلت في إقناع شعوبها، طيلة عقودٍ عجاف من “الملك الطارئ”، بخطر “البعبع الخارجي”، الذي قالوا أنه يحول دون نجاح أيّ إصلاحٍ أو تغييرٍ في الداخل.
فهل سيفهم أولوا الحكم في هولير الآن، هذا الفشل العربي، ويحفظون دروس السقوط من حولهم، لأجل بناء داخل كردي جديد آنَ أوانه، وضروري لا بدّ منه، بدلاً من الداخل الراهن، الغائص في أكثر من فسادٍ رجيم، أم أنهم سيرتكبون الدرس ذاته، والفشل ذاته، والسقوط ذاته؟
ايلاف

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى