صفحات سورية

لعبة الثورة

null
سعاد جروس
«الشعب يريد إسقاط النظام» شعار كان يردده مجموعة من الأطفال بصوت مرتفع مشوب بالفرح وهم يلعبون في زقاق جانبي. جملة جديدة أضيفت إلى قاموس الشعوب العربية التي طالما قهرها الصمت؛ جملة كنا حتى الأمس القريب جداً نخشى سماعها في التلفزيونات، وبين ليلة وضحاها صارت الجملة أثيرة تتردد على ألسنة أطفالنا ضمن ألعابهم المعتادة في الشارع والمنزل. كنا عند أحد الأصدقاء نشرب القهوة في بيته ونتناقش في ما يجري من أحداث على الساحة العربية، إذ سمعنا طفله الذي لم يتجاوز الست سنوات في الغرفة المجاورة يردد بإصرار وبأعلى صوت «الشعب يريد إسقاط النظام» فيما يتبعه أخوته الأصغر ويرددون الجملة ذاتها.. للحظة سكتنا عن الكلام لنصغي جيداً ونحن نتبادل نظرات الدهشة، ما هذا الذي نسمعه!!… سارع الأب يسكت الأطفال فلم يستجيبوا له وكأنه غير موجود، تابعوا لعبتهم ومروا من أمامنا يلوحون بمناشف صغيرة، وكأنها أعلام ولافتات وأصواتهم تعلو بالهتاف، ولدى سؤالهم ماذا تلعبون فقالوا «عاملين ثورة»!!
بعد قليل من الصمت، أحدنا تكلم، فضّل ألا نقف في وجه ثورتهم البريئة، وقال للأب الذي حاول التظاهر بأن ما أزعجه هو الضجيج لا خوفه مما يقولون، ضحكنا من أعماقنا لا على تصرف الأطفال وإنما على أنفسنا، ربما لمدارة الخجل من الذعر الساكن فينا. ذعر ورثناه من جيل الآباء ولم يعرفه أطفالنا بعد، ويبدو أنهم عازمون على عدم الاعتراف به.
حينها وتلطيفاً للجو تذكرت ما رواه زميل صحفي بعد نجاح الشباب المصري في إسقاط الرئيس حسني مبارك، أن أولاده احتجاجاً على قراره بحرمانهم الكومبيوتر والتلفزيون والنزول إلى الحديقة، وذلك على خلفية نيلهم درجات غير مرضية في الامتحانات النصفية، قاموا بالتظاهر عند مدخل البناء ورددوا هتاف: «الشعب يريد إسقاط البابا»، كانت دهشته بقدر فرحته الكبيرة، وتساءل ترى هل ينجح أبناؤنا في ما عجزنا عنه وهو الوصول إلى تحقيق الديمقراطية؟… بدءاً من المنزل.
زوجة صديقنا المضيف، علقت بأننا لا نعرف شيئاً عن الجيل الجديد، ليس الشباب الذي خرج إلى الشوارع، وإنما الأطفال مشيرة إلى معاناتها اليومية مع طفلها الأصغر الذي لم يتجاوز عمره السنتين ونصف السنة. وقالت إنه يعبر عما يريد بالإشارة إذ لم يتعلم الكلام بعد وبالكاد يلفظ كلمة كاملة، ورغم صغره لا يقبل أن يرتدي ما لا يروقه من ملابس تختارها له، ومهما حاولت إرغامه، يصر على الرفض والصراخ بغضب، وتؤكد أن أحداً لا يصدق بأن طفلاً في هذا العمر يفرض رأيه ويختار ما يريده. وتحلف أن هذا لا يقتصر على الملابس، بل حتى على الأدوات التي تستخدمها، بدءا من الملعقة وصحن الطعام وليس انتهاء بالموبايل الذي يعتبره لعبته المفضلة ويتعامل معه كجهاز لسماع الأغاني!! الحديث طال وتشعب كثيراً لنصل إلى استنتاج أن الآباء يجهلون أبناءهم، ولا يمكن توقع نوع الثمر الذي ستحمله الغراس التي تزرع في نفوسهم.
مثلاً، من كان يتوقع أن جيل الآباء الذي انكفأ لأكثر من عقدين غارقاً في الإحباط واليأس، أن ينجب جيلاً ثورياً يشق الأرض ويحطم جدران الخوف، معلناً الحرب على الفساد والتخاذل معيداً كتابة التاريخ العربي المعاصر؟! إذا تأملنا ملياً سنجد أن الآباء الذين خاضوا معارك شرسة وثورات تحررية تقاعدوا بعد تجربة مُرة لم تثمر إلا عن ما هو أشد مرارة، فكان سلامة الرأس شعاراً لحماية أبنائهم وتجنيبهم خوض التجارب المخفقة ذاتها، دون أن ينتبهوا إلى أن الأبناء يأخذون منهم مشاعر السخط والقهر معزولة عن ظروف نشأتها القاهرة، وبالتالي لا يجدون أي مسوغ لكبتها، إذ إن الخنوع يتناقض مع عناية ودلال يتربى عليه الأولاد داخل البيت تنمي إحساسهم بالكرامة والاعتزاز بالنفس ولو تحت خيمة الحماية الأسرية بغية تجنيبهم السقوط في التجربة خشية الفشل. فالمشكلة الأزلية بين الآباء والأبناء كانت ولا تزال فرض الوصاية من منطلق الخبرة الحياتية، لكن الجيل الناشئ ومع ثورة المعلومات تجاوز في معارفه ومداركه ما حوله، ولم يعد بالإمكان مصادرة نتائج تجارب الماضي لحساب تجارب الشباب في الحاضر والمستقبل. هذا جيل يأتي في زمن آخر لم تتكشف ملامحه بعد، وما نراه اليوم على الساحة العربية من أحداث قد يكشف بعضاً منها ويسجل زمناً آخر عنوانه: ضد الصمت والخوف وكل ما بني من قناعات كاذبة وأوهام كبرى. وكي لا نسقط الآن في المبالغة نقول، لا يمكن التكهن إلى أين تتجه عقارب الساعة، وإنما يجب التسليم بحق الأجيال الجديدة الناشئة والقادمة في تقرير مصيرها واختيار ما يناسبها. فهي التي تعيش الحاضر وستعيش المستقبل. إن الطفل ابن السنتين عندما يرفض ارتداء ما لا يعجبه فهذا يعني أن ثمة ما يضايقه ولا شيء يجبره على قبول ذلك.
لذا اطمئنوا، لا داعي للتخوف مما سيتمخض عنه حراك حر على جغرافيا، طالما أنبتت عوامل تساعد في استقرارها وحملت وما تزال في بطنها بذور رفض الانصياع والاستكانة. فأن يكون جيل الأبناء متحرراً من عقد خوف الآباء أمر يدعو للفخر لا للرعب. إن أمتنا مازالت تنجب بشراً من دم وكرامة، لا قطعان مواش تساق إلى حتفها بفم ساكت.
الكفاح العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى