اسرائيلصبحي حديديصفحات العالم

سقط النقاب!

صبحي حديدي
تعرّضت الدولة العبرية، خلال الأسابيع الأخيرة إلى سلسلة نكسات على مستوى العلاقات العامة، في الميادين الثقافية والفكرية والفنية بصفة خاصة، على نحو يؤكد مجدداً أن إسرائيل ـ التي أتقنت ألاعيب كسب الرأي العام الدولي، بأساليب شتى ـ بلغت سقفاً لم يعد يسمح للسحر إلا بالإنقلاب على الساحر. في عبارة أخرى، وكما يستقرىء المرء من الصحافة الإسرائيلية أو من تصريحات بعض المسؤولين، لا تبدو الجهات الحكومية سعيدة بانحطاط صورة إسرائيل، واقعة تلو أخرى، وهبوطها إلى نقيض المثال الذي جرى الترويج له طيلة عقود: أنها واحة الديمقراطية في الشرق الأوسط، ودولة القانون والمؤسسات، حيث حرّية التعبير مصانة، مثل حرّية الرأي المخالف.
الواقعة الأحدث كانت، بالطبع، منع المفكّر السياسي والألسني الكبير نوام شومسكي من دخول الأراضي الفلسطينية المحتلة، وسط حال فاضحة من التلعثم في تفسير القرار، والتأتأة في تحديد الجهة التي أصدرته. ‘إنه إعلان حرب على المثقفين’، قالت افتتاحية صحيفة ‘هآرتس’، وبه بدت إسرائيل مثل ‘بلطجي أصابته إهانة من عقل أعلى تفوّقاً، فتعيّن أن يحاربه، ويعتقله، ويطرده’. وإذْ تُذكّر الإفتتاحية بأنّ شومسكي ليس يهودياً فحسب، بل أقام في إسرائيل بعض الوقت خلال الخمسينيات، ويتقن اللغة العبرية؛ فإنها تعيد التشديد على تفصيل بديهي بسيط: رغم مواقفه الناقدة لتسعة أعشار أنظمة العالم، شرقاً وغرباً، فإنّ إسرائيل هي وحدها الدولة التي لا تتشرّف بزيارته لها!
قبل شومسكي كان إلفيس كوستيللو، المغنّي والملحّن وكاتب الكلمات البريطاني الشهير، نجم الـ’روك’ في السبعينيات وموسوعة الـ ‘بوب’ كما يُلقّب، قد ألغى حفلَيْن مقرّرين في إسرائيل، وأعلن في موقعه الشخصي على الإنترنت أنّ ‘الواحد منّا يحيا آملاً في أن تكون الموسيقى أكثر من مجرّد ضجيج، يملأ وقت الفراغ، سواء بقصد الأفراح أو الأتراح. ثمّ تأتي مناسبات يكون فيها مجرّد اقتران اسم المرء ببرنامج موسيقي قابلاً للتفسير كفعل سياسي تتردّد أصداؤه أكثر بكثير من كلّ ما يمكن أن يُغنّى، فيسود عند ذاك افتراض بأنّ المرء غير مكترث بعذابات الأبرياء’. ولقد أوضح كوستيللو أنه مؤمن بأنّ بعض الذين كانوا سيتواجدون في حفلاته يخالفون حكومتهم الرأي حول الإستيطان وإذلال الفلسطينيين وإهانتهم، إلا أنّ القاعدة الأولى في هذا هي الإمتناع عن إقامة الحفل أصلاً.
القرار ذاته اتخذه جيل سكوت هيرون، الفنان الجامايكي الكبير، والصوت الصارخ ضدّ سياسات أمريكا، خاصة في حقبة ريتشارد نيكسون، والضمير الذي أقضّ مضجع نظام الأبارتايد العنصري في جنوب أفريقيا. إنه أيضاً الأب المؤسس لغناء الـ’راب’، ونجم الجاز، الذي عكست أعماله هموم الآدمي الفقير والشريد والمغترب، ضحية البؤس والعنف والمخدرات، المتطلع مع ذلك كله إلى أفق إنساني أرحب. كان سكوت هيرون على خشبة الـ’رويال فستيفال هول’ في لندن، حين ألقى مداخلة مسهبة، أوجز خلالها تاريخ مواقفه في كراهية الحرب، والإنحياز إلى الضحية، الأمر الذي يُلزمه أخلاقياً بالإمتناع عن الذهاب إلى إسرائيل، فقابلته القاعة بالهتاف والتصفيق الشديد.
لائحة الأسماء الأخرى المقاطِعة صارت تضمّ أمثال الروائي والناقد البريطاني جون بيرغر، والروائية الأمريكية أليس ووكر، والأسقف دزموند توتو من جنوب أفريقيا، والروائية والناشطة الهندية أرونداتي روي، والشاعرة الأمريكية إدريان ريش، والصحافية والكاتبة الكندية نايومي كلاين، والكاتب الأمريكي راسل بانكس، والسينمائي الفرنسي جان ـ لوك غودار، وزميله البريطاني كين لوش، والمغني البريطاني ستينغ، والمغني وعازف الغيتار الأيرلندي بونو، والممثل ومغني الـ’راب’ الأمريكي سنوب دوغ، والمغني الأمريكي ـ المكسيكي كارلوس سانتانا، ومغنية الـ’بوب’ الآيسلندية بيورك…
وينبغي التشديد، هنا، على حقيقة أنّ سلسلة المواقف هذه لم تأتِ نتيجة وقفة هؤلاء الكتّاب والفنانين مع ضمائرهم، فحسب؛ بل كانت أيضاً نتيجة جهود شاقة مضنية بذلها عشرات النشطاء المؤمنين بالحقّ الفلسطيني، هنا وهناك على امتداد العالم، وضمن صفوف ‘الحملة الفلسطينية للمقاطعة الأكاديمية والثقافية لإسرائيل’، بصفة خاصة. وهذه الحملة انطلقت سنة 2004 في رام الله، بمبادرة من مثقفين وأكاديميين فلسطينيين، وتستوحي عملها من ‘الدور التاريخي الذي أداه مثقفو المجتمع الدولي وأكاديميوه لنصرة الحقوق العادلة’، وفي طليعتها النضال ضدّ نظام التمييز العنصري في جنوب أفريقيا.
وفي مختلف البيانات التي تصدرها، كما في رسائل المناشدة التي تبعث بها إلى مثقفي العالم، تشدّد الحملة على أنّ ‘الإضطهاد الكولونيالي الإسرائيلي للشعب العربي ـ الفلسطيني يستند بالأساس على الفكر الصهيوني العنصري’، ويتخذ ثلاثة أشكال رئيسية: (1)، رفض إسرائيل الاعتراف بمسؤوليتها عن النكبة وما شملته من تطهير عرقي أدى إلى خلق قضية اللاجئين الفلسطينيين وإنكار حقوقهم المكفولة في القانون الدولي، وأهمها حق العودة والتعويض؛ و(2)، الإحتلال العسكري الإستيطاني للضفة الغربية (بما فيها القدس الشرقية) وقطاع غزة، خلافاً للقانون الدولي؛ و(3)، التمييز العنصري الشامل ضدّ فلسطينيي مناطق 48 (حاملي الجنسية الإسرائيلية) والتفرقة العنصرية الناجمة عنه، بما يشبه نظام الأبارتايد في جنوب أفريقيا.
والمفارقة أنّ هذه الجهود تجد بعض العون من البلطجي الإسرائيلي نفسه، كما في قرار منع شومسكي من عبور الجسر، فيسقط كلّ يوم نقاب جديد كان يجمّل أو يستدرّ العطف أو يخدع أو يزيّف، وصار لزاماً أن يتكشف عن حقائق الوجه القبيح.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى