صفحات سوريةياسين الحاج صالح

في شأن الثورات العربية والاحتمالات السورية

null
ياسين الحاج صالح
يمتنع أن تبقّى سورية غير متأثّرة بالتفجّرات الاجتماعية الجارية في عددٍ من البلدان العربية، وبالتحوّلات السياسيّة والنفسية المترتّبة عليها. فقد أثبت الطابع المتنقّل والمتّسع للاحتجاجات أنّ هناك مجالاً عربياً متفاعلاً، لا يسع بعض عناصره أن تبقى بمعزلٍ عن تغيّرات عناصر مهمّة أخرى فيه، أو عن تحوّلاته الإجمالية. ويفترض أن ترفدنا إيديولوجية الحكم السوري، القوميّة العربية، بأقوى البراهين على صدق هذا الكلام. وترفد السلطات السورية قبل الجميع.
غير أن أرجحية التأثّر لا تقول شيئاً عن صيغ التأثر المحتملة. والحال أن هذه يمكن أن تكون واحدة من ثلاث احتمالات أو أربعة.
أولاها، تفجّر احتجاجات اجتماعية مماثل لما جرى في تونس ومصر وثلاثة أو أربعة بلدانٍ عربية أخرى. ليس ما قد يحول دون ذلك هو اختلافات محتملة بين سورية وتونس ومصر وغيرهما. فسورية ليست مختلفة من حيث مستوى الحريّات والعدالة المتدنّي، ومستوى الفساد المرتفع، ونوعيّة العلاقات بين السلطة والثروة، والوضع الاجتماعي البائس؛ ولا من حيث تطلّب عموم السوريين للكرامة والاحترام، التطلّب الذي يصطدم ببنية النظام السياسي والتباعد النفسي بين نخب السلطة والثروة وبين عموم السكّان.
قبل حين، وقبيل سقوط مبارك في مصر، وضعت “الإيكونوميست” البريطانية سورية في المرتبة الرابعة بين قائمة الدول العربية المرشّحة للتغيير، بعد اليمن وليبيا ومصر، وذلك استناداً إلى “مجموعة مؤشرات، منها نسبة عمر السكان دون الـ25 عاماً (وأعطته وزناً يبلغ 35 في المائة)، وعُمر السلطة (15 في المائة)، والفساد (15 في المائة)، وغياب الديمقراطية (15 في المائة)، وحصّة الفرد من الناتج المحلّي الإجمالي (10 في المائة)، وحريّة الإعلام (5 في المائة)، ومجمل عدد السكان تحت 25 سنة (5 في المائة)” [1]. ليس لهذا التقدير أي قيمة تنبؤية [2]، لكنّه مؤشر مفيد وأداة شرح قيمة.
في 17 شباط/فبراير الماضي جرى مشهدٌ احتجاجيّ محدود، ولكن مفاجئ، شارك فيه ما يقدر بنحو 1500 من الدمشقيين، إثر إهانة شرطي مرور لمواطن. وكان أبرز هتافٍ صدر عن المحتجين هو: “الشعب السوري ما بينذل!” ما يؤشر على عوزٍ في الكرامة. وهتف الناس أيضا: “حرامية! حرامية!” في صرخة احتجاجٍ معبرة على ما يقدر أنّه اختلاط واسع للسلطة العمومية بالفساد المنتشر. وبينما ليس هناك مؤشّرات اليوم على احتمال انتفاضة شعبيّة واسعة، إلاّ أنّه لم يكن أيضاً هناك ثمّة مؤشرات دالّة في تونس ومصر على تفجر الاحتجاجات، وعلى شمولها المستوى الوطني بسرعة. والانطباع العام اليوم أن الثورتين المصرية والتونسية قد شجعتا سوريين كثيرين ورفعتا معنوياتهم.
الاحتمال الثاني هو مبادرة السلطات إلى إصلاحات اجتماعية وسياسيّة من نوعٍ ما، بهدف ملاقاة المطالب الشعبية المحتملة. لكن لا يبدو أنّ هناك مؤشرات من أيّ نوع على عزمٍ كهذا، خلافا لما رأيناه في بلدان مثل الجزائر والعراق والكويت، وحتّى السعودية، فضلاً طبعاً عن اليمن والبحرين. ولا ينبغي حسبان إلغاء الحجب عن الفيسبوك ومواقع إنترنت محجوبة أخرى خطوةً في هذا الاتجاه. فهذا لا شيء.
على أنّ الأكيد هو أنّ السلطات السورية تراقب جيداً ما يجري، وهي تحاول إقناع شعبها بأنّ ما جرى في مصر وتونس قد استهدف نظماً تابعة للغرب. لكن الحجّة تبدو اليوم ضعيفة الإقناع، بخاصّة مع تفجر الاحتجاجات الشعبية في اليمن وليبيا.
وعلى كل حال نرجح أنّ السلطات لن تبادر، الآن، إلى أيّة إصلاحات. وستنتظر انجلاء المشهد السياسي العربي، إن كان سينجلي قريباً. وحينها لكلّ حادثٍ حديث. والسؤال الذي يمكن أن يثار هنا يتصل بمدى قدرة السلطات أصلاً على إجراء إصلاحات دالّة أو ذات صدقية. فهل يمكنها مثلا المساس بنوعيّة علاقة السلطة بالمال؟ أو بالأوضاع الامتيازية وشبه الاحتكارية لنافذين من نوع ما عرف في مصر وتونس؟ وهل يمكن جديا أن تلغي حالة الطوارئ والقضاء الاستثنائي، وتعترف بتعدديّة سياسية حقيقية في البلد، بما في ذلك للانتخابات الرئاسيّة؟ لا يبدو هذا في واردها.
الاحتمال الثالث هو مزيدٌ من التشدّد الأمني والسياسي والإيديولوجي، بهدف عزل سورية عن مخاطر العدوى من المحيط العربي. وفقاً لهذا الاحتمال ستتحجّر سورية على وضعها الحالي، مع قسوة أكبر في ضرب أيّة مبادرات أو أفكار مستقلّة، ومع المثابرة على استعراض القوّة في المجال العام، والتركيز بدرجة أكبر على المخاطر الخارجية، والخطر الإسرائيلي خاصّة، ومع تغذية ذهنية القلعة المحاصرة. يمرّ هذا الاحتمال عبر رفع نبرة الخطاب الممانع وتوثيق الروابط مع الحلفاء الإقليميين، إيران وحزب الله بشكلٍ خاصّ.
لا يتعارض هذا الاحتمال مع مقتضيات النمو الاقتصادي وجذب الاستثمارات إلاّ جزئياً. فليس ممّا يتعارض مع طبائع الأمور أن يسير الانغلاق السياسي مع فاعليّة اقتصادية معقولة. فقد تفضِّل دول خليجية مقتدرة ماديّاً، السعودية خصوصاً، أوضاعاً سورية مستقرّة، من باب تعزيز وزن قوى الثبات والمحافظة ضد قوى التغير في المجال العربي ككلّ، وفي سبيل المنافع الاقتصادية-العقاريّة التي يمكن أن تجنيها بصورة أسهل. ومدخلها إلى ذلك يمكن أن يكون الدعم المادي، وربما الرعاية السياسية. وقد يزداد هذا الاحتمال رجحاناً إذا ظهرت علائم قريبة لاستعادة مصر دوراً إقليميّاً مستقلاً متناسباً مع وزنها. ومعلومٌ أن مصر الكبيرة كانت مصدر غيظٍ للسعودية، خلافا لمصر الصغيرة في العقود الثلاثة الماضية.
من المبكر الحسم لصالح أيّ من هذه الاحتمالات الثلاث.
في منتصف شباط/فبراير 2011 جرى الحكم على المدوّنة السورية الشابّة طل الملوحي، 19 عاماً، بالسجن خمس سنوات بتهمة التخابر مع جهات خارجية. والروايات المشكوك فيها كثيراً التي ساقتها جهات رسمية عن الفتاة وعن مبرّرات الحكم عليها أسوأ في دلالاتها من الحكم ذاته. وفي العشرين من الشهر ذاته تمّ اعتقال المدوّن الشاب أحمد أبو الخير لأمر ربّما يتصل بتدويناته المتحمّسة لمصر وتونس. ويبدو أن شاباً ثالثاً، هو غسان ياسين من حلب، قد اعتقل بعد منتصف شباط/ فبراير بسبب كلامٍ قاله على قناة فضائيّة سورية، أورينت تي في، تبثّ من أبو ظبي. هذه كلها مؤشرات تشدّد أكيدة، وتدلّ أيضاً على مستوى بالغ التدنّي من الحصانة ومن الكرامة لعموم السوريين.
على أن هذه الإجراءات المتجبّرة ليست الكلمة الأخيرة على الأرجح في استراتيجية السلطات السورية للتعامل مع الظاهرة الثورية الجديدة في العالم العربي. ولا يبعد التراجع عنها أو عن بعضها إذا وجدت السلطات في ذلك ما يناسبها.
أمّا احتمال التفجّر الاجتماعي فصعب التقدير من جهة، ويسوّق سوريون كثيرون حجّة الخوف لاستبعاده. الخوف من السلطات، وخوف السوريين من بعضهم أومن مخاطر النزاع الأهلي على شاكلة ما حصل في العراق المجاور، ومعلوم أن عدداً ملحوظاً من سكّانه قد لجأ إلى سورية. لكن يبدو أن انعكاسات الثورتين المصرية والتونسية والانتفاضات المتفجّرة في ليبيا واليمن والبحرين، تخفض عتبة التململ الاجتماعي والسياسي وتمنح بعض السوريين قدراً أكبر من الشجاعة والثقة.
أمّا الإصلاحات فيصعب أن تكون ذات صدقية دون المساس بأسس النظام السياسي.
وفق المعطيات الراهنة، المرشّحة بقوة للتغير إن نجح الليبيون في التخلّص من القذافي، يمكن ترجيح تنويعة من الاحتمال الثالث: أن تستمر السلطات بالمراقبة، ولا تفعل شيئاً، تاركة الأشياء لسيرها الحالي. أي مزيج من الرقابة الأمنية ومن تقديمات اجتماعية محدودة ومن الإيديولوجية الوطنية، ومن سياسية الإنكار. ومن كسب الوقت أيضاً. وهذا قد يدوم طويلاً جداً، إن لم يقطعه قاطع.
والواقع أن أشدّ ما يقلق في الأوضاع السورية هو ما يبدو من عدم قدرة السلطات بالذات على القيام بأيّة مبادرات مهمّة، أو على فتح نوافذ أمل حقيقية للسوريين. فهي نفسها أسيرة ماضيها ومصالحها المفرطة وهياكلها السياسية والفكريّة الثقيلة ومستوى دراية محدود بما يجري حولها وفي العالم. لكن هذا بالذات ما يحمل خطر التفجرات الاجتماعية، ومنها ما قد يكون مؤلماً إلى أقصى الحدود.
لا يُواجَه احتمال كهذا بسياسة الإنكار: نحن لسنا مثل مصر وتونس…! كان يمكن لذلك أن يكون صحيحاً بالفعل لو كانت البلاد تواجه بعزم تحديات بناء حياةٍ سياسية واجتماعية جديدة، وتحاول تطوير إحاطة دقيقة بما يواجهها من مشكلات. أمّا وأننا نعيش الأوضاع نفسها منذ أزيد من أربعة عقود، أو قريباً من خمسة، عدا بعض الانفتاح الاقتصادي على احتكارات خاصّة، فإنّ الإنكار يرتدّ إلى موقفٍ سلبيّ محض. إلى التهرّب والمرواغة. وهذه المواقف السلبية عموماً، لا تصلح أساساً فعّالاً لمواجهة التحديات الداخلية والتغيّرات الهائلة في البيئة العربية. بل إنّها، على العكس، تدل على انفصالٍ عن الواقع، وعلى فشلٍ أكيد في التفاعل الجدّي مع الأوضاع المتغيرة.
لقد أنكر نظاما مصر وتونس من قبل سورية، وتثابر على الإنكار نظم ليبيا والبحرين واليمن..
لوموند العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى