صفحات سورية

كلُّ شيء هادىء على الجبهة السورية!

null
أمجد ناصر
رياح التغيير العربية القويّة التي تهبُّ مغرباً ومشرقاً مُقتلعةً أنظمة معمِّرةً في طريقها ومُخلْخةً أخرى لم تصل إلى سورية. توقفت عند أبواب دمشق المنيعة. يوم الجمعة المرصود للغضب العربي ليس موجوداً، على ما يبدو، في الرزنامة السورية. ليست هناك أيام جمعة في سورية. لا قصبة. لا ميدان تحرير. لا ساحة خضراء. لا جموع شبابية تموج، لا شعارات تطالب بإسقاط النظام أو إصلاحه. لا شيء من ذلك.. ولكن حتى الآن فقط.
يقول معلقون سوريون رسميون على ما يجري، في وقتٍ واحدٍ، ببلدان عربية عدة: سورية ليست تونس. ليست مصر. ليست ليبيا. ليست اليمن. ليست البحرين. ليست الأردن. ليست العراق. من قبلُ قال النظام المصري لسنا تونس، فصارت مصر تونس. من بعده قالت ليبيا واليمن والبحرين والأردن والعراق، بلسانٍ واحدٍ ونبراتٍ مختلفة، لسنا تونس، لسنا مصر، فسار بعضها على طرق أخطر من تونس ومصر (ليبيا مثلا) فيما يواصل بعضها الآخر طريق تونس ومصر.
مع المعلقين السوريين الرسميين حق! سورية، حتى الآن، ليست مصر ولا تونس ولا ليبيا، وربما ليست الأردن أو البحرين، ولكن عليهم أن لا يغالوا في هذا الرهان كثيراً. فعندما هبَّت رياح تونس لم يتوقع كثيرون، بمن فيهم المصريون، أن تكون مصر هي المحطة التالية لرياح التغيير العاتية. لكن ما هو غير متوقعٍ حدثَ. بل حدثَ بأسرع مما ظن الجميع. كلام المعلقين السوريين الرسميين يتجاهل هذه الحقيقة البسيطة: أن هناك قواسم عربية مشتركة لهبوب هذه الرياح، وسورية ليست استثناء. الاستثناء الوحيد الذي يتكىء عليه النظام السوري، باطمئنانٍ لا يحسد عليه، هو الموقف من الصراع العربي الإسرائيلي والتدخلات الأجنبية في المصائر العربية. أي ما يسمى ‘الممانعة’. لكنه ينسى حقيقة بسيطة أيضاً: أن المطالبة بالتغيير في البلدان العربية التي عصفت فيها رياح الثورة لم تنطلق مما هو ‘قومي’ بل مما هو محلي وداخلي صرف. لا أقول إن الثورات التي تتدحرج اليوم، ككرة ثلجٍ، على امتداد الخارطة العربية عدميةٌ على الصعيد القومي، كلا إنها ليست كذلك ولكنها تنطلق من أولويات حقيقية: الداخل، الذات، حياة الناس اليومية، وليس العكس. فالهروب إلى الخارج (اسرائيل، التدخلات الأجنبية) هو خلط مقصود للأولويات، وإرجاء، لن يطول كثيراً، للاستحقاق الداخليّ الحتميّ.
‘ ‘ ‘
بعد الثورتين التونسية والمصرية قال الرئيس الأسد لصحيفة ‘وول ستريت جورنال’: ‘نحن لسنا نسخاً عن بعضنا لكن لدينا الكثير من الأمور المشتركة’. ثم يضيف في موضع آخر من المقابلة: ‘إذا لم تكن قد رأيت حاجة للإصلاح قبل أن يحدث ما حدث في مصر وفي تونس فإن الوقت سيكون قد تأخر كثيراً للقيام بأي إصلاح.. هذا أولاً. ثانياً، إذا قمت بالإصلاح فقط بسبب ما حدث في مصر وتونس فسيكون مجرد رد فعل وليس فعلاً عن قناعة.. وهذا أمر نتحدث عنه في كل مقابلة وكل اجتماع.. نحن دائماً نقول إننا نحتاج إلى الإصلاح ولكن أي نوع من الإصلاح؟’.
كلام الأسد أكثر وضوحاً ودقةً من كلام معلقي إعلامه الرسمي أو حزبيي نظامه. صحيح أنه يقول لسنا تونس، لسنا مصر، غير أنه يقرُّ بما هو مشترك مع تونس ومصر. الاختلاف السوري عن تونس ومصر يكمن في ‘الممانعة’ حيال إسرائيل وأمريكا. لكن هذه ‘الممانعة’ السورية لا تتعدى، كما هو واضح، حدود الجانب اللفظي. إنها ممانعة في الكلام وليست في الفعل ولن أتوقف عندها طويلاً لأنها نقطة اختلاف لفظية على ما أظن. فالممانعة الحقيقية لا تتناقض، كما أحسب، مع الحريات. بل لا مواجهة جدّية مع المشروع الاسرائيلي ـ الامريكي في المنطقة العربية من دون تمكين المواطنين من حرياتهم على غير صعيد. الشعب الحرّ هو الذي بمقدوره أن يواجه ويتصدى وينتصر، وليس الشعب المكبل المشلول القوى والطاقات. وبما أن سورية البعثية تؤمن بـ ‘تحالف قوى الشعب’ وليس بالجيش والأمن فقط، فالأولى أن يتم اطلاق الحريات المعلَّقة على شماعة ‘الممانعة’، المرجأة، بسبب ‘التصدي’ للتهديدات الخارجية، إلى أجل غير مسمَّى. ولكن ذلك لم يحدث.
نأتي إلى المشترك بين تونس ومصر وسورية (ومعظم البلدان العربية) الأمر الذي لم يفصّل فيه الرئيس السوري في حديثه المسهب مع ‘وول ستريت جورنال’. المشترك هو الأعظم. المشترك هو مربط الفرس وليس الاختلاف الشكليّ حيال القضية القومية التي أشبعتها الأنظمة العربية كلاماً في الهواء. كلُّ الأسباب التي ثار من أجلها شعب تونس، وكلُّ الأسباب التي أثارت ثائرة المصريين موجودة في سورية. ليست كامنة. ليست تحت السطح، بل تطفو، كطفحٍ بشعٍ، على وجه الحياة السورية: الطوارىء، التغوّل الأمني، الفساد المالي والإداري، تجريف الحياة السياسية، الرقابة الغاشمة، الحزب الحاكم الأبدي، تسلط بعض أفراد العائلة على الاقتصاد، تغييب المجتمع المدني، انعدام الشفافية، السجون المترعة بمعتقلي الرأي، اتساع الهوة بين الأغنياء والفقراء، سعار الغلاء، جيوش العاطلين عن العمل إلخ إلخ..
أليست هذه قواسم مشتركة عظمى بين تونس ومصر وسورية؟
أظن ذلك.
‘ ‘ ‘
يتحدث الرئيس السوري عن الإصلاح. منذ وقت طويل وهو يتحدث عن الإصلاح. لكن الإصلاح لم يحدث إلاّ إذا اعتبرنا الانفتاحات الاقتصادية التي أفادت منها فئة مرتبطة بالنظام إصلاحاً. إلاّ إذا اعتبرنا الترخيص لقناة تلفزيونية لا تختلف عن التلفزيون السوري الرسمي في شيء إصلاحاً. إلاّ إذا اعتبرنا السماح لصحيفة منوعات إصلاحاً. أين هو الإصلاح الذي يتحدث عنه الرئيس الأسد؟ أهو إصلاح سريّ لم يره أحد ولم يلحظه السوريون؟
ليس هناك، في الواقع، إصلاح في سورية ولكن هناك الكثير من الكلام عن الإصلاح. فالقبضة الأمنية لا تزال على حالها، والوصاية على المجتمع لا تزال كما كانت عليه، والفساد لا يجد من يكبحه، والاعتقال عند أيّ مجاهرة بالرأي سيد الموقف. حتى بعد هبوب الرياح التونسية والمصرية وتردّد الأنظمة العربية في ممارسة رياضتها المفضلة في اعتقال المعارضين لم يتردّد النظام السوري عن اعتقال معارضين له. الأنكى أنه لفَّق تهماً قاتلة لفتاة دون العشرين من العمر اسمها طلّ الملوحي.
هناك دول عربية ربما يمكنها أن تصلح شأنها قبل أن تقتلعها عاصفة التغيير التي تتركز، الآن، فوق العالم العربي (غير قادمة من تل أبيب ولا من واشنطن كما قال الرئيس اليمني علي عبد الله صالح) ليس من بينها سورية. فالنظام السوري، كما يبدو سلوكه حتى اللحظة، غير قادر على إصلاح نفسه. فماذا سيصلح حتى يتمكن من تجنب الاستحقاق القادم لا محالة؟ هل يمكنه تفكيك بنيته الأمنية المعقدة؟ حل حزب البعث، أو تركه لمصيره الحقيقي الذي يختاره له الناس؟ منع أفراد العائلة من التسلط على الحياة الاقتصادية؟ سن دستور جديد يمنع التوريث على أي نحو كان؟ إطلاق حريات التعبير والتجمّع ورفع القيود عن تشكيل أحزاب سياسية؟ اطلاق سراح المعتقلين السياسيين والسماح بعودة المنفيين؟ الاحتكام الى انتخابات ديموقراطية؟
هذه هي لائحة المطالب التي رأيناها في تونس ومصر. هذا هو الكتالوغ الذي تتداوله شعوب عربية عدة اليوم، ولا أظن أن السوريين يشكلون استثناء على هذا الصعيد. فهل هذا ممكن الحدوث في سورية طوعاً؟ أشك في ذلك.
القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى