صفحات ثقافية

الكــذب العــادي

null
عباس بيضون
لا اعرف اذا كان الافتراء ايضا رأيا وينبغي الدفاع عنه باسم حرية الرأي. نفهم ان الرأي يمكن ان يكون صائباً او غير صائب ويكون صاحبه مثله مخطئا او مصيبا. لكن هذا بالطبع لا يكفي للمعركة. انك لا تستطيع ان تقتل رأياً. فالآراء الصائبة وغير الصائبة، تعيش اطول مما نتوقع. الآراء ايا كانت لا تنتهي بضربة قاضية. انها في الغالب مسألة وقت. تحتاج لاكثر من محاكمة محكمة. تحتاج لاكثر من دليل قاطع. تحتاج لاكثر من نتائج واضحة. تحتاج لاكثر من نزع قداسة ونزع حرمات لغوية. وغير لغوية. انها في الواقع مسألة مضنية ان تصارع بالرأي، فهذه اكثر الرياضات عقوقاً وقلة نتيجة، بانتظار ان يربح رأي او يخسر رأي عقيم بل لا يمكن أساساً الحلم بربح كامل وخسارة كاملة.
هناك دائما اطوار واحوال. بل نحن لا ندري بالتمام داعي الربح او الخسارة. أهو الحظ أم الوقت أم الفن أم قوة المثل أم النتيجة. في كل الاحوال ليست البلاغة وحسن التقديم سوى عنصر. ليس صاحب الرأي هو عيار الرأي بطبيعة الحال، لكن كثيرين لا يطيقون ان ليس للرأي جسد يصيبونه، ولا حظ في ان يروا الرأي صريعا. لنعد الى ما بدأنا به. هل الافتراء رأي وهل الكذب رأي وهل التقويل رأي، فندافع عنها باسم حرية الرأي. ليس للرأي جسد، لكنّ لحامل الرأي ولا نقول لصاحبه، جسدا. ليس الرأي اسما ولا كنية ولا لقبا، لكن لحامل الرأي اسما وكنية ولقبا. البعض يتصرف كما لو ان للرأي جسد حامله او اسم حامله. عبوة تحت مقعد السائق تحسم. لا ريب في ان جسداً صرع. لا ريب ان اسما دخل في عداد الاموات. يعرف الفاعل ان للرأي حاملين كثراً وان القتل لا يحسم شيئا. لكن القاتل او من كلفوه يريدون للرأي ان يخاف والرأي يخاف فعلاً انما لا يموت بموت احد. ما بيدو فوراً ان الخائف هو القاتل فالقتل يدل على عنف صاحبه او مقدرته لكنه لا يدل البتة على صواب رأيه. يمكننا ان نعتبر بالعكس ان الرأي الضعيف هو الذي يقتل. او نعتبر ان حامل الرأي الاضعف هو الذي يقتل. على المستوى الرمزي ليس هذا في صالح الرأي الثاني. اذا كنا لا نريد ان نتهمه مباشرة فإن الذين يقتلون باسمه يعرضونه تماما لما ظنوا انهم فعلوه بالرأي الآخر. يقتلون حامله على امل ان يكون للرأي جسد حامل او اسمه، لكن الامر لا يتم هكذا. يخاف الرأي الآخر وينجو لكن الذي يوقّع عن رأيه بالقتل يقع في الفخ. انه بدون اي علم يعطي لرأيه جسده واسمه. لن ينسى كثيرون ان الرأي الذي يقتل امتلك هكذا هوية خاصة. انها هوية العبوة وهوية حامل المسدس وهوية السكين. سنقول انه رأي ضعيف ذلك الذي يحتاج الى عبوة ومسدس. حين يتواتر القتل سنقول ان العلة قد لا تكون في الحامل فحسب. قد تكون في الرأي نفسه وسنفكر حينذاك ان بعض الآراء قد تتخذ أجساد حامليها واسماءهم. وانها، بإرادتهم وتوقيعهم، قد وُصمت بهم وبإرادتهم. ومن ذلك الحين، لن يستطيع كثيرون ان يميزوا بين الفكرة والقاتلين باسمها. لن يستطيع كثيرون ان يخلصوا الرأي من اصحابه وحامليه وان يعيدوه بلا جسد ولا اسم. في هذا يقع كثيرون في الفخ الذي ظنوا انهم دبروه لغيرهم، الا يقتلون رأيا بقتل حامليه لكنهم على، نحو ما، يصيبون الرأي المضاد. اننا نجد قتيلا في السيارة لكن الرأي المصاب لن يكون رأيه، هذه مقدمة صعبة، تتحد في الانظمة الايديولوجية الافكار بالاجهزة والاعتداء والجناية وفرق الموت فلا يعود للفكرة، ايا كانت، اي حياة كفكرة. سيكون لها، جسد واسم. هذه الاجهزة وذلك الاعتداء. ان لعبة »تجسيد الافكار« وربطها بحامليها تبدأ من هنا، وهي بداية خطرة. لا تموت فكرة سمير قصير وجورج حاوي ووليد عيدو بموتهم، لكن الفكرة الاخرى هي المتضررة، ان عليها، هي، ان تتنصل من القتلة وان تفضحهم اذ لن تنسى، ايا كان الامر، انهم فعلوا ذلك باسمها.
هل الافتراء رأي، للافتراء طريق معاكس رغم انه يبدو لاول وهلة قتلا رمزيا. إذا كانت العبوة فعلا رمزيا للفكرة فإن الافتراء يعيرها حياة ثانية، العبوة تمزيقا وتبديدا جسدين يشعران باستئصال مادي للفكرة فإن الافتراء يصون حياة حاملها بل ويمد فيها ابتغاء لوصمها وقتلها هذه المرة حية، لكن مرجع الامرين الفاعل نفسه. انه يظن ان القتل المتواتر المتسلسل بات عاديا ويمكن الانتقال منه الى امر اكثر عادية. النميمة والشائعة والاختلاق والافتراء امور يقبلها من امكن جعله يقبل القتل، من وافق على القتل لن يحتجّ على الافتراء. سيقبله بدون تردد وبدون اعتراض، سيقبله كما لو كان يصنعه هو. ان هذا بالطبع اسهل عليه من القتل، انه يعطي نتيجة مماثلة لكن بدون مفاجآت وبدون صدمات وانفجار. الافتراء الآن يمكن ان يكون بانعكاس قتلا مخففاً، بعبارة اخرى تخفيفا للاعدام او اعداماً مخففاً. انه عقوبة اسهل واقل كلفة واقل تبعات. يمكن بعد تمارين القتل المتواترة الانتقال الى هذا التمرين. يمكن بعد ان روضنا بعض الجمهور على القتل وجعلنا منه وحشاً، ان نقدم له الآن هذه الوجبة السهلة. انه يحتاج لها، لقد اقتات بدم حقيقي، بجناية فعلية، وينبغي ان تقدم له باستمرار ما يعوض ذلك، هذا الدم الاسمي، هذا القتل المستعار. الافتراء، لا يقتل، انه بالعكس، حياة اضافية موصومة بالتجسس والخيانة والقتل وكل القذرات، اي حياة مطلقة قابلة لكل شيء لكنه يحتاج الى القتل، الى جريمة اصلية، الى اعتياد على الجريمة ليغدو عادياً وسهلاً وإنعاماً وربما تساهلا. الافتراء يقول بعبارة واحدة هذا الرجل مجرم لكننا لم نقتله، اننا نكتفي بوصمه. الكذابون بالطبع يعرفون انهم يكذبون. اذا كان القتل يحتاج الى تدبير فإن الافتراء لا يحتاج الى اكثر من شائعة. من سطور على موقع انترنيت، انك تقتل كثيرين بكلفة اقل وتقريباً بدون كلفة. الكذابون يعرفون انهم يكذبون. لكن ماذا لو صدقوا أنفسهم. ماذا لو صدقهم هذا »الوحش« الذي تربى من قبل على الدم الطازج. لن تكون النتيجة مفاجئة، التطهير، التطهير وحده.
درجت »مواقع انترنيت منذ بدأ الاشتباك اللبناني على توزيع اقاصيص فجور وتجسس وجرائم شتى ضد سياسيين من الموالاة غالبا، هذه الاكاذيب لم تكن للجميع سوى درك سفلي من التقويل يوازي البذاءة، بل يمكن اعتباره نوعاً من البذاءة السياسية. لم يكن هذا ليستوقف احداً لولا ان اصحابه عمدوا الى تعميمه على الجميع، فغدا كل من قال رأياً مخالفاً موصوما، وآخر ما خطر لهم وصم صحافيين بعضهم قضى سنين وأياماً في سجون اسرائيلية بالتهمة ذاتها. كما نحلوا واحداً مقالا لم يكتبه. فيما لم يطق واحد التهمة فخرج من البلاد، الفاعل شبح لاول وهلة لكن موقع انترنيت قرنية مادية. انه هذه المرة موجود ولا يستحيل الوصول إليه ولا اظن ان اصحابه يبالون بذلك والارجح انه يستهويهم ان يظهروا بوجوههم الحقيقية. أيا كان الأمر فإن ثمة فاعلاً موجوداً. هذا الفاعل الذي يخترع اقاصيص ومعلومات ووثائق ويدخلنا في نفق آخر. هو تسفيه المعلومات والوثائق كما تم من قبل تسفيه الافكار والآراء. لم يعد هناك سوى الجسد والاسم عاريين. الاسم والجسد اللذان يُزالان بعبوة او يزالان بشائعة. مهما يكن الامر فإن الامر لا يزال في أوله. اول خطوة هي الاصعب ويغدو الامر بعد ذلك عاديا. لا شك في ان القتل يغدو اكثر عادية. لا نعرف الصلة بين صاحب العبوة وصاحب الانترنيت لكننا نعرف ان العقل ذاته قد يكون انتج الاثنين. نعرف ان ثمة عقلاً يمكن ان ينتج اكثر من ذلك. عندما يباح الكذب فلأن القتل أبيح قبله، القتل أقسى لكن الكذب لا يصنع أبطالاً. عندما يباح الكذب ستكون الحفر ابتلعت كل التماثيل ولم يبق سوى التراب.
السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى