صفحات العالم

لم يعد هناك ما نتحدث بشأنه

حسين آغا, روبرت مالي
وسط التكهنات في كيفية استئناف الإسرائيليين والفلسطينيين محادثاتهم، هناك واقع يفرض نفسه: يقترب الوقت الذي ستنتهي فيه المفاوضات ـــــ عملياً وفي المستقبل المنظور ـــــ بين الطرفين. قد يُرسل المبعوثون وتُستكشف الأفكار، وقد تستمر النقاشات. لكن ستفقد هذه النقاشات كلّ حيويتها وزخمها، ومعناها.
ربما لم يكن التزام رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بالتوصل إلى صفقة سلام مع الفلسطينيين نابعاً من صميم قلبه، لكنّه حين تسلّم منصبه، جرّته عوامل عدّة في هذا الاتجاه. كان قلقاً من الضغط الأميركي والإقليمي، وكانت لديه هواجس تتعلق بالرأي العام الإسرائيلي تجاهه، كذلك لم يكن واثقاً من ردّة فعل الفلسطينيين حيال فشلٍ طويل في تحقيق أي تقدم.
اعتقد أنّه إذا قدّم أفكاراً جديدة فقد يدفع محمود عباس للتحرك في اتجاهات لم يتوقعها الأخير من قبل. بالإضافة إلى ذلك، أغرت فكرة دخوله التاريخ نتنياهو، الذي رأى نفسه الرجل الذي سيحقق، بعد انتظار، الاعتراف بإسرائيل والأمن لها.
خلال السنتين الماضيتين، تراجعت مخاوف نتنياهو وتلاشى وعد التاريخ له. تفاجأ نتنياهو نفسه حين استطاع مقاومة المطالب الأميركية، وحين نجح في تحدي أوباما، وحين لم يخرج من المواجهة مع الأميركيين ضعيفاً.
أما بالنسبة إلى استياء الأنظمة العربية من إسرائيل، فبالرغم من أنّه قد يكون حقيقياً، يبقى هذا الاستياء واهياً. انشغالات هذه الأنظمة مركزة أكثر على ضمان استمرارية حكمهم والتصدي لإيران.
بالإضافة إلى ذلك، تضافرت توغلات إسرائيل العسكرية وتدابيرها الأمنية، مع تعاون متزايد مع القوات الأمنية الفلسطينية ومع تعبٍ شديد في الضفة الغربية، ما خفض بنحو دراماتيكي خطر انتفاضة جديدة أو أي أعمال عنف ذات أهمية. الطريق المسدود في محادثات السلام لم يحث الفلسطينيين المنقسمين على أن يتّحدوا، ما يُظهر أنّهم مهتمون بمحاربة بعضهم لبعض أكثر من اهتمامهم بمحاربة إسرائيل.
واجه نتنياهو ضغطاً قليلاً، إن لم يكن معدوماً، من الرأي العام الإسرائيلي الذي فقد توقعاته من عملية السلام وأصبح غير مكترث بها. وبالطبع، الضغط من نواة مؤيديه الصلبة هو أقل. بعض مخاوفه الرئيسية لم تتحقق. أما بالنسبة إلى البعض الآخر من هذه المخاوف، فقد تغلب نتنياهو عليها أو تحدّاها وسيطر عليها. ولقد تعلم التعايش مع بعض مخاوفه الأخرى.
في بعض الأوقات، قد يستمر نتنياهو في النظر إلى نفسه كقائد تاريخي. لكن احتمالات أن يصنع التاريخ قد أصبحت أقل تأكيداً. وفي الوقت نفسه، أصبحت مخاطر سياسته الحالية أكثر احتمالاً.
كان للقاءاته مع عباس نتيجة غريبة بعض الشيء، أبعدت أحد الرجلين عن الآخر. الآن يشعر نتنياهو بأنّ الأفكار الجديدة ستكون ذات تأثير محدود على رجل ذي اقتناعات راسخة كعباس، وأنّ الفجوات الكبيرة بين الطرفين أكبر مما توقعه أو أمله.
في هذا الوقت، استفاق شركاء نتنياهو في الائتلاف اليميني، وأخذوا يهددون بمعاقبته إن قام بأي تحركات دبلوماسية تدفع بالعملية السلمية إلى الأمام. لكن لكي يصبح الإغراء النظري للتاريخ أكثر إقناعاً لنتنياهو من قيود الحاضر الملموسة، كان على فرص توصله إلى اتفاق مع الفلسطينيين أن تبدو أكثر احتمالاً من حصول أزمة سياسية داخلية في إسرائيل. قد تكون فرص التوصل إلى اتفاق كهذا قد بدت أقوى في بعض الأحيان في السابق. لكنّها، بالتأكيد، لا تبدو كذلك اليوم.
قبل عامين، كان لعباس نوع من الإيمان بالتسوية. جزء من إيمانه هذا كان متأصلاً في شخصيته، يغذيه اعتقاده طوال حياته بأنّه يمكن إقناع الإسرائيليين بواسطة قوة العقل والمنطق المحض بالحاجة إلى تسوية. استثمر أيضاً آمالاً كبرى في الرئيس أوباما. واعتماداً على سوابق في التفاوض مع إسرائيل، لم يكن لديه الكثير من الاسباب ليعتقد أنّ رئيس وزراء إسرائيلي يميني سيكون بالضرورة أسوأ من رئيس وزراء وسطي أو يساري.
لم يستمر ذاك القدر من التفاؤل طويلاً. حلّ محلّه شعور متزايد من الاكتئاب. كان على عباس القيام بمهمة صعبة للغاية، وكان يحتاج للنجاح فيها إلى المساعدة من الجميع. لكنّه لم يحصل على تلك المساعدة من أحد. بدأ إيمانه بالولايات المتحدة يتلاشى بسرعة، ووقع هذا الإيمان ضحية سوء التقديرات التكتيكية المتسلسلة من واشنطن وعدم قدرتها على الالتزام بوعودها.
أحس عباس بالخيبة أيضاً من الأنظمة العربية التي كانت قد تعهدت بمساندته، لكنّها تخلّت عنه عند أول تحدي. داخلياً، لا يجد عباس وزناً أو زخماً سياسياً مؤيداً للمفاوضات. في أفضل الأحوال هنالك عدم مبالاة، وفي أسوأها شك واضح في جدواها.
كما نتنياهو، خرج الرئيس الفلسطيني من لقاءاتهما بإحباط عميق، مهتزاً من طلبات نظيره، ومذهولاً من حجم الشرخ الذي يفصل بين مواقفهما.
بالنسبة إلى عباس الذي راهن بكل شيء على المفاوضات، كان إدراك ذلك شديد الإحباط له. رفضه للعنف كان صادقاً ولم يكن العنف شيئاً ينوي العودة إليه. لكنّه الآن فقط بدأ يتقبّل النتائج العملية لذلك بعدما تبيّن من فشل استراتيجيته الدبلوماسية غياب أي بدائل معقولة.
النتيجة هي أنّ الفلسطينيين يشعرون بضعفٍ أكبر. يضاف إلى ذلك اعتمادهم الكلي على المتبرعين الأجانب للمساندة الاقتصادية والسياسية. وهذا الاعتماد يضيّق أكثر النطاق أمام أي عمل مستقل محتمل.
لن تكون هذه المرة الأولى التي تصل فيها المفاوضات الإسرائيلية ـــــ الفلسطينية إلى طريق مسدود. لكن سيكون الوضع مختلفاً هذه المرة. إذا فشل نتنياهو في التوصل إلى اتفاق، فسيمضي وقت طويل قبل أن ينجح قائد إسرائيلي آخر في ذلك. سيُقنع ذلك بنحو قاطع معظم الإسرائيليين بأنّه لا مجال للوصول إلى السلام الآن. ستواجه حكومة إسرائيلية أكثر وسطية بيئة أكثر عدائية؛ إذ ستدفع صفقة يوقعها اليمين أطياف اليسار إلى مساندتها، لكن في المقابل ستعبأ صفقة وراءها اليسار كلّ اليمين لمعارضتها.
من المرجح أنّ عباس الآن يكتب الفصل الأخير من سيرته السياسية. ليس في الكواليس أي خليفة يملك الشرعية أو التاريخ المطلوبين. بعده، ستمزق الحركة الفلسطينية نفسها أكثر، وهي الممزقة أصلاً والمجردة من قضية مشتركة. ستبدأ عملية طويلة وشاقة لإعادة تعريف القضية. لن نكون أمام تسوية تاريخية.
خيبة نتنياهو وعباس ليست مجرد أزمة. في غياب تحوّل غير متوقع ومزلزل، ستمثل هذه الخيبة بأكثر من شكل نهاية طريق.
*
الأخبار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى