صفحات مختارة

علمُ الكونيات الإسلاميّ والتَّأويلُ القرآنيّ

نصر حامد أبوزيد
ترجمة: عبدالله آل تويّه
{اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَىٰ نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ(1)}
نحن هنا أمام الأسلوب التَّعبيريِّ للـ”تَّشبيه”، حيث طبيعةُ الله مشبهةٌ بطبيعة النّور، لكنَّ نورَ اللهِ هذا ليس نورًا مألوفًا نعرفه أو نتمتَّع به في حياتنا اليوميَّةِ، بل إنَّه بالأحرى صنفٌ فوقَ المعتادِ من النُّورِ الذي لا يمكن إدراكُه إلاَّ من خلالِ “تشبيهٍ” آخرَ. يتمُّ التَّعبير عن التَّشبيهِ بطريقةٍ لُغويَّةٍ بارعةٍ من أجلِ أنْ يُعَبَّرَ عن طبيعة نورِ اللهِ الخارقة للعادة. النّورُ مُشبه مباشرةً بالمِشكاة، لكنْ لأنَّ تلك المِشكاة تحتوي على مصباح مُحْتَوًى بدورِه في زجاجةٍ- مضيئةٍ جدًّا من ذاتِها، كأنها كوكبٍ دُرِّيٍّ- فإنَه يُفهم أنَّ نورَ اللهِ مُقارَنٌ بشكلٍ غيرِ مباشرٍ بالنُّورِ الذي يأتي من مثلِ هذا المصباح.  وعِوَضًا عن التَّعبيرِ بشكلٍ مباشرٍ عن نقاءِ الزَّيتِ المستخدمِ في إنارةِ ذلك المصباح، يُصِرُّ القرآنُ على طريقته في الأسلوب التَّعبيريِّ غيرِ المباشر وغير الاعتياديِّ الذي يُحيل إنارةَ المصباحِ إلى شجرةِ الزَّيتون بدلاً من زيتِ الشَّجرة. إنَّها طريقةٌ لتعيين الشَّجرة، لأنَّها شجرةُ زيتونٍ غيرُ عاديَّة، وهي أيضًا شجرةٌ مباركةٌ لا تُوجد في أيِّ مكانٍ في الكون معروفٍ لدينا. إنَّ هذه الشَّجرة تُنتِجُ نوعًا غيرَ عاديٍّ من الزَّيت الذي يُضيءُ نَفْسَه بِنَفْسِهِ. وبالرَّغم من أنَّ هذا الأسلوبَ التَّعبيريَّ غيرَ المباشر يظهر وكأنَّ المقصود منه تعيينُ الشَّجرة؛ إلا أنَّه ينتهي بـ”النّور”، الموضوع المحوريِّ للآية.
لقد نشأتْ فكرةُ الكون كلِّه بوصفه نورًا منبثقًا من نور الله من هذه الآية. وبالرُّغم من أنَّ الطَّبيعة الشِّعريَّة للبنية اللُّغويَّة للآية واضحةٌ، إلاَّ أنَّ الفهم الحرفيَّ هو الذي يسود. ويمكن تفسيرُ سيادةِ المعنى الحرفيِّ في ضوء حقيقة أنَّ هذا النَّوعَ من التَّشبيه المعقَّد جدًّا- الذي يتضمَّن بدورِه عددًا من صور تشبيهِ التَّشبيه، يُضافُ إلى ذلك الأسلوب التَّعبيريِّ غيرِ المباشر- لم يكن معروفًا لدى العرب. لقد جَعَلَتِ الجملةُ الافتتاحيَّةُ للآية- “الله نور السَّموت والأرض”- من السُّهولةِ بمكانٍ تفسيرَ معظم المفردات الرَّئيسة للآية كلِّها بوصفِها تفسيراتٍ لبعض خصائص الوجود، فقدِ استُخدِمتْ مُفرداتٌ مثل: مصباح، ومشكاة، وكوكب دريّ، وشجرة مباركة، وزيت، ونار: لإبراز المراتب المختلفة والمتدرِّجة للتَّجلِّي الإلهيِّ لنور الله.
تختتم الجملةُ الأخيرةُ الآيةَ واصفةً طبيعة الله بأنَّها “نورٌ على نورٍ”، واعدةً المؤمنَ الصَّادقَ بالاهتداءِ إلى نور الله؛ لذلك كان من الطَّبيعيِّ ليس فقط الحديثُ عن الكون كلِّه بوصفه انعكاسًا لنور الله، لكنْ أيضًا الحديثُ عن معرفة المؤمن بالله بوصفها كشفًا أوحاه نورُ الله إلى قلبه. وهكذا تمَّ الشَّرح- لاهوتيًّا وفلسفيًّا- بأنَّ لنور الله خاصِّيتين متبادلتين؛ واحدةٌ أنطولوجيَّة وأخرى إپْسِيتْمولوجيَّة.  وإذا كان الوجودُ معرَّفا بوصفه نورَ الله فإنَّ من المفترض تعريفُ اللاوجود بوصفه غيابًا للنُّور، أوِ ظلاما. وقد تمَّ تطبيقُ التَّصنيف نفْسِه على الإپْسِيتْمولوجيا، أي المعرفةِ بوصفها نورًا واللامعرفة بوصفها ظلامًا.
لقد خصَّص أبو حامد الغزاليُّ (ت:505هـ/1111م)- المفكِّرُ المعروف والشَّهيرُ جدًّا في القرن الثَّاني عشر الميلاديِّ- رسالةً يشرح فيها بالتَّفصيل المفهومَ الكاملَ للنُّور الإلهيِّ في ضوء الآية القرآنيَّة المقتبَسة آنفًا. في كتابه المعنون بـ مشكاة الأنوار يشرح أبو حامد الغزاليّ المراتِبَ المختلفةَ للتجلِّي المنبثق من المصدر الأصليِّ للنّور، أي الله، بردِّها إلى مستويين: مستوًى أنطولوجيٍّ وآخرَ إپْسِيتْمولوجيّ. ويؤكد الغزاليّ مبتدئًا بسوق بعض التَّبريراتِ الدَّلالية- في ما يَخُصُّ المعنى “الواقعيَّ” و”الحقيقيَّ” للمفردة “نور”- أنَّ اللُّغةَ تُعبِّر “حقيقةً” عن العالم الميتافيزيقيِّ، بينما تُعبِّرُ “مجازيًّا” عن عالمِنا المحسوس. إنَّ هذه الفكرةَ من الأهميَّة بمكانٍ بالنِّسبة إلى الغزاليِّ؛ لأنَّها تجعلُه قادرًا على أنْ يقلِبَ التَّشبيهَ في الآية القرآنيَّة رأسًا على عقب (2).
ونظرًا لأنَّ نورَ الله هو الحقيقةُ الوحيدةُ، التي تتجلَّى من أعلى إلى أدنى في تصوُّر الغزاليِّ، فقد كان من السُّهولة بالنِّسبة إليه- في مُخْتَتَمِ رسالتِه مشكاة الأنوار- أنْ يُصنِّفَ الكون كلَّه باعتباره “عَدَمًا” بالمقارنة بالوجود الحقيقيِّ الوحيد لله (3). وقد مهَّدتْ نتيجةُ الغزالي هذه الطَّريقَ أمام المتصوِّف الأندلسيِّ العظيم مُحيي الدِّين بن عربي في القرن الثَّالث عشرَ الميلاديِّ (638هـ\1240م) ليُطوِّرَ نظامًا فكريًّا إسلاميًّا لوحدة الوجود يكون وجودُ العالم بموجبه مُتخيَّلاً. وبناءً على هذا التَّصوُّر يُميِّز ابنُ عربي بين ثلاثِ مراتبَ للتَّجلِّي الإلهيّ، وهي مرتبةُ الأَحَدِيَّةِ المُطلَقة، ومرتبةُ الأُلوهة- وهي مجموعُ الأسماءِ الإلهيَّةِ وصِفاتُها- ومرتبةُ العالمِ أو عالمِ الكثرة (4). لكنَّ مراتبَ التَّجلِّي هذه لا تعكس أيَّ نوعٍ مِنَ التَّعدُّديَّة في حالةِ مرتبة الأَحَدِيَّةِ المُطلَقة، كما أنَّها أيضًا مراتبُ غيرُ متَّصلةٍ ببعضها بعضًا وفق ترتيبٍ خطِّيٍّ هابط؛ بل هي مراتبُ متِّصلةٌ ببعضها بعضًا في شكل علاقةٍ من الثُّنائيَّات الباطنة والظَّاهرة. وأولى هذه الثُّنائيَّات الباطنةِ الذَّاتُ الإلهيَّةُ التي يكون ظاهِرُها الأُلوهة. وبالمقابل تكون الأُلوهة- مرتبةُ التَّجلِّي الثَّانية- الحقيقةَ الباطنةَ التي يكون ظاهِرَها عالمُ الكثرة.
إنَّ نظام وحدة الوجود هذا عند ابن عربي يتضمَّن تصوُّرًا جوهريًّا يتعلَّق بالحقيقة المُحمَّديَّة بالمقارنة بمحمَّدٍ التَّاريخيِّ الذي وُلِدَ بمكَّة حوالي سنة 570 ميلاديَّة. وبحسب مفهوم علاقة الظَّاهر والباطن بين المستويات البرزخيَّة للتَّجلِّي الإلهيِّ عند ابن عربي فإنَّ الحقيقة المُحمَّديَّة هي الحقيقةُ الباطنة التي تتجلَّى في كلِّ الأنبياء بدءًا من آدم حتَّى تَصِلَ إلى تجلِّيها النِّهائيِّ والكامل في مُحمَّد التَّاريخيِّ في مكَّة. ومن ناحية أخرى تُمثِّل الحقيقةُ المُحمَّديَّةُ الوسيطَ الإپْسِيتْمولوجيّ الموازيَ لمرتبة الأُلوهة التي تُمثِّلُ بدورِها الوسيطَ الأنطولوجيَّ بين المُطلَق الكُلِّيِّ وبين برزخ البرازخ(5). وبهذا الاقتراب المتكافئ جدًّا بين شخصيَّةِ مُحمَّدٍ التَّاريخيِّ وبين الله أخذتْ شخصيَّةُ مُحمَّدٍ التَّاريخيِّ تتمتَّع بكونها النّورَ الذي ينبثق منه كلُّ الخَلْق. وبذلك صار مُحمَّدٌ نورَ الله المتجلِّي في كلِّ الكائنات كما صار نورَ المعرفة الذي يُلهِمُ قلوبَ المؤمنين.
I.                        إنَّ كلاً من نظريَّتي الغزالي وابن عربي لم تكن نتيجةً لتفسيرٍ قرآنيٍّ خالصٍ تمامًا، بل كانتا، بالأحرى، نتيجتين تمَّ التَّوصُّل إليهما من خلال الجهود المضنية لإيجاد بعض الإجابات عن بعض الأسئلة الحرجة المطروحة من قبل علماء الكلام والفلاسفة. وأوَّلُ هذه الأسئلة هو كيف جاء هذا الكونُ المتغيِّرُ والمُتعدِّدُ والمُتباعِدُ والمُركَّبُ إلى الوجود بقدرة خالقٍ واحدٍ وأبديٍّ ومطلق؟. والسّؤال الثَّاني هو ما معنى “الخلق”؟ وهل خُلِقَ الكونُ من لا شيء؟ فكيف ذلك؟. والسّؤال الثَّالث: إذا كان الكونُ مخلوقًا من مادَّةٍ أوَّليَّةٍ ألا يعني ذلك أنَّ لهذه المادَّة الأوَّليَّة وجودًا أبديًّا إلى جانب وجود الله نفسِه؟ الأمرُ الذي- إنْ صَحَّ- سيُهدِّد بالقضاء على أَحَدِيَّةِ الله المُطلَقة وتفرُّدِه الوجوديّ.
لقد كان على علماء الكلام(6) أنْ يتعاملوا مع مثل هذه الأسئلة من أجل أنْ يُقدِّموا إجاباتٍ ملائمةً من المفترض أن تتفق مع الفرضيَّات القرآنيَّة المُسبَّقة حول نشأة الكون. ومن خلال تعاملهم مع هذه الأسئلة كان عليهم أنْ يدخلوا في نقاشٍ في بنية الكون. وبِخِلافِ الفلاسفة لم يكنْ علماءُ الكلام معنيِّين بشكلٍ أساسيٍّ بالميتافيزيقا، بل كان اهتمامُهم الرَّئيسُ منصبًّا على الله وعلى علاقته بالإنسان من جهة، وعلى الاستجابة التي يُقدِّمُها الإنسانُ إلى الله من جهةٍ أخرى. وبكلماتٍ أخرى فإنَّ علماءَ الكلام يستخدمون معطيات العالم المحسوس خطوةٍ من أجل الوصول إلى معرفة بالعالم الميتافيزيقيّ. ولذلك يكون العالمُ المحسوسُ عندهم مُقدَّمًا بوصفه نظامًا من العلامات التي تَدُلُّ على وجود الله وتُثبِتُ صفاتِه. وباتِّباعهم الطَّريقةَ القرآنيَّةَ في عرض عناصر الكون كلِّه بوصفها “علاماتٍ”/آياتٍ دالَّةً على وجود الله وصفاتِه؛ أسَّس علماءُ الكلام الأرضيَّةَ للتَّصوُّرات الفلسفيَّة اللاحقة لعلم الكونيات. إنَّ الكونَ مُقسَّمٌ إلى قسمين عندهم: عالمُ الشَّهادةِ المرئيُّ أو “الكون والفساد” وعالَمُ الغيب اللامرئيُّ، وهو العالم المتيافيزيقيّ. وعلى الرَّغم من ذلك فإنَّ عالمَ الشَّهادةِ المرئيَّ هو المجال الذي نجمع من خلاله الدَّلائل التي تقودنا- في حال تفكُّرنا فيها مليًّا- إلى معرفةٍ بالعالم الميتافيزيقيِّ اللامرئيِّ، وبالمثل تقودنا إلى معرفة الله. إنَّ إضاءةً حول بنية الكون تصبح ضروريَّةً جدًّا- من زاوية هذا التَّحليل- لأنَّ الكون يبسط لنا الدَّلائل التي نحتاج إليها في تأمُّلاتنا ]في الوجود[ على نحو دقيق- وهي دلائل تشير إلى الله- وأيضًا لأنَّ الإنسان يحتاج إلى توظيف قدراته العقليَّة للتَّوصُّل ولو إلى قَدْرٍ ضئيل من المعرفة بالله (7).
علم الكونيات-إذنْ- هو علم معرفة كيفيَّة مجيء الكائنات الموجودة في الطَّبيعة والتي تُكوِّن الكون. والكون بدوره يستدعي فكرة الإيجاد. وفي علم الكلام، مثلما في الفلسفة، الذَّرَّةُ هي أصغر وحدة موجودة في الكون، وهي تفترض جسمًا، وبالنَّتيجة اتِّجاهًا. وبذلك صارتْ مفردة كون تعني إيجاد الكائنات المحسوسة، بينما تشير مفردة وجود إلى كلِّ الوجود الذي يشتمل على ما فوق المُدْرَكات والمُدْرَكات. وبكلماتٍ أخرى فإنَّ وجود تشير إلى حالة الوجود ]أو الكينونة[ باعتبارها نقيضًا لحالة اللاوجود ]أو اللاكينونة[ أو العدم، بينما تكون كون مقصورةً لتشير إلى وجود الكائنات الحسِّيَّة فقط(8). وفي التَّقسيم الدَّاخليِّ للوجود فإنَّ الكائناتِ الموجودةَ إمَّا أنْ تكون لها بداية، وهذا ينطبق على كوننا كلِّه، وإمَّا أنْ لا تكون لها بداية، بل وُجِدتْ منذ الأزل، وهذا منسوبٌ إلى الله فقط. إنَّ عالمنا- المرئيَّ- مكوَّنٌ من ذرَّاتٍ منفصلة تُجْمَعُ إلى بعضها بعضًا في شكل مركَّباتٍ لتُشكِّلَ أجسامًا مادِّيَّة. وهذه المُركَّبات بدورها تتجمَّع من الكائنات المادِّيَّة المنفردة حيث يكون التَّغيُّر ممكنًا، بينما الكائناتُ- التي نحن بصددها هنا- تحتفظ بانفراديَّتها، الأمرُ الذي يُظهِرُ عنصرَي الدَّيمومة والتَّغيُّر معًا. وبلغة الميتافيزيقا فإنَّ العالم مكوَّنٌ من جواهر وأعراض. والجوهرُ -إلى حدٍّ بعيد- غير قابلٍ للتَّحديد، إلى درجة أنَّه يمكن تحويلُه وإنْ بشكلٍ جذريٍّ، كما يحدث عند حرق الحطب حيث يتغيَّر الحطبُ إلى نار. ومن ناحية أخرى فإنَّ الأعراض تُشكِّل العناصر المتغيِّرة وتُعطي الأشياء مظهرَها الخارجيَّ المتغيِّر(9)، فالأعراضُ لا تُوجَد من دون اتِّصالها بجوهر، ولهذا فإنَّه يستحيل وجودُها مستقلَّةً، لأنَّها عناصر التَّغيُّر في العالم الذي يبقى على حاله جوهريًّا. وبالمقابل فإنَّ الجوهر، الذي يشتمل على أعراض الدَّيمومة، يحتاج إلى الأعراض لكي يظهر(10).
إنَّ تحليلاً تفصيليًّا للأعراض يُظهِرُ فروقاتٍ محدَّدةً بين تصنيفاتها المختلفة؛ وأوَّلُ فرق هو الفرق بين الأعراض القابلة للإدراك- وبالتَّالي تكون معرفتُها بالمعرفة الضَّروريَّة- وبين الأعراض غير القابلة للإدراك التي يمكن معرفتُها فقط عن طريق الملاحظة والاستدلال، فالألوانُ والمتذَوَّقاتُ والرَّوائحُ والحرارة والبرودةُ والآلامُ والأصواتُ أعراضٌ قابلةٌ للإدراك، بينما الحياةُ والحركةُ، وخصوصًا حركةُ السَّماوات ]الأجرام والكواكب[، غيرُ قابلةٍ للإدراك، ويمكن أنْ يُستدلَّ عليها فقط باعتبارها المسبِّبَ لإمكانيَّات التَّغيُّر(11). والفرق الثَّاني بين الأعراض هو الذي يُميِّز بين الأعراض الباقية والأخرى الزَّائلة، فالأعراضُ الباقيةُ غيرُ دائمةٍ- فليستْ هناك ديمومةٌ لأيٍّ من الأعراض- ولكنَّها تظلُّ باقيةً ما دامتْ أضدادُها المعاكسةُ غيرَ مُحدَثةٍ في الجوهر نفسِه.  وتُمثِّل “الحركة” و”الثَّبات” خاصِّيَّتين لهذا الصَّنف من الأعراض الباقية.  ولأنَّ أيًّا من هذه الأعراض إمَّا أنْ يكون مُتحرِّكًا وإمَّا أنْ يكون ثابتًا فإنَّ الجوهر يبقى ثابتًا بسبب خاصِّيَّة “الثَّبات” إلى أنْ ينتج مُعاكِسُها من “التَّحريكيَّة” أو “الحركة”.  أمَّا بالنِّسبة إلى الأعراض الأخرى، التي ليس لها أضدادٌ والتي يمكن للجواهر أنْ تُوجَدَ من دونها، فإنَّها لا تبقى أبدًا بل تختفي بعد بعضِ الوقت من دون تدخُّلٍ خارجيٍّ، كما هو الحال مع “الأصوات” و”الكلام”.
والفرق الثَّالثُ بين الأعراض هو أنَّ بعضَها يحتاج فقط إلى جوهر ليُوجَدَ، وذلك كما في حالة الألوان والرَّوائح والمُتذوَّقات. وهذه الأنواعُ من الأعراض لا تحتاج إلى تركيبٍ خاصٍّ بل يمكنها أنْ تُوجَدَ “في كلِّ مكان”. لكنَّ هناك أعراضًا أخرى تحتاج إلى جوهر مُحْكَمِ التَّركيب والتَّجميع لتوجد. إنَّها أعراضٌ تحتاج إلى كائنٍ حيّ. وتنتمي إلى هذا الصَّنف- على سبيل المثال- القدرة والحياة والمعرفة. والفرق الرَّابعُ هو أنَّ بعضَ الأعراض عبارةٌ عن “مُسبِّباتٍ” لأخرى، بينما لا تكون أعراضٌ أخرى مُسبِّباتٍ لغيرها من الأعراض. والأعراضُ ذاتُ “المُسبِّبات” تطبع الأشياء بخصائصها وتمنحها خاصِّيَّةً معيَّنةً، بينما لا تفعل الأعراضُ الأخرى الشَّيءَ نفسَه. إنَّ كلَّ الأعراض غيرِ القابلة للإدراك هي مُسبِّبات للحالة التي يكون عليها الجوهر. والفرق الأخير بين الأعراض-الذي يتعيَّن ذكرُه- قائمٌ على أساس التَّمييز بين الفاعلات ]=مُسبِّبات الأعراض (مقولة الفعل في علم الكلام)[ التي لديها القدرة على صنع تلك الأعراض. وهنالك أحد عشر نوعًا من الأعراض التي لا تكون تحت مجال قدرتنا البشريَّة، أي لا يكون لنا عليها أيُّ تَحكُّمٍ بحال من الأحوال، وهي: اللون والطَعم والرَّائحة والحرارة والبرودة والرُّطوبة واليبوسة والحياة والقدرة والشهوة والكراهة. ويجب على هذه الأعراض ]في تصوُّر علماء الكلام[ أنْ تكون أفعالَ الله (12).
أمَّا بالنِّسبة إلى الجوهر ]والتَّصوُّرات المرتبطة به[ فإنَّ علماء الكلام- من غير ريب- تبنّوا التَّصوُّرَ القرآنيَّ لفكرة الخلق من العدم. لكنَّهم لم يستطيعوا تجاهل الإشكال المُضَمَّن في صُلْبِ هذه الفكرة بشكلٍ تامّ. ولكي يُثبتوا التَّصريحَ القرآنيَّ القائلَ بأنَّ الأشياء جاءت إلى الوجود مباشرةً بأمر الله “كُنْ” (13) اعتقدوا بوجود مرحلة هي مكان لوسيط وجوديٍّ يتوسَّط بين العدم وبين الوجود الحقيقيّ.  إنَّ هذا الوجود الوسيط هو الوجود في علم الله. ولذلك فإنَّ للأشياء وجودًا أوَّليًّا في العلم الإلهيِّ الذي يسمح بتسميتها “أشياء” وتبرِّرُ قدرتَها على إدراك أمر الله “كُنْ” من خلال خروجها إلى الوجود أو عن طريق ” إيجادها” (14).
من ناحية أخرى فإنَّ الفلاسفة يقيمون هم كذلك تمييزًا بين ثلاثة أنماط من الوجود من أجل أنْ يضعوا وجود الكون في حالة النَّمط البينيِّ الثَّاني (15) الذي يسمح لفكرة “الخلق” القرآنيَّة بأخذ مكانها ضمن هذا التَّصوُّر. والأنماط الثَّلاثة لهذا التَّصوُّر الوجوديِّ هي: “الواجب” و”المُمْكِنات” و”المستحيل”. أمَّا الوجودُ الواجب فهو الوجود الأبديُّ لله، خالقِ كلِّ شيءٍ الذي لا مُسبِّبَ لوجوده ولا بداية ولا نهاية. أمَّا “المستحيلُ” فيُحدِّد العدمَ المحضَ أو ]اللاشيئيَّةَ المُطلَقة[ التي لا مجال لخروجها إلى الوجود، ومثال ذلك وجودُ إلهٍ آخرَ إلى جانب الله. وبين وجود “اللاشيء” و”الواجب” يقع وجود “المُمْكِنات” الذي له بدايةٌ ويكون تحقيق وجودِه- إحضارِه من العدم إلى الوجود- معتمدًا على قرار الله. وإذا كان علم الكلام مقتنعًا بالأنطولوجيا الحسِّيَّة فإنَّ ذلك يعود إلى اكتفائه أولاً بتأسيس وجودِ الله وصفاته بالمقارنة بالإنسان، ويعود ثانيًا إلى بسطه عقلانيَّةً جدليَّةً قائمةً على أساس أنطولوجيا مادِّيَّة. إنَّها الأنطولوجيا المدفوعةُ عن طريق المعرفة العقليَّة والموجَّهةُ بها. ويكون “القياس” هو الطريقة التي تُوصِلُ إلى معرفةٍ بالعالم اللامرئيِّ أو الميتافيزيقيِّ، وذلك من خلال معرفة العالم المرئيِّ الحِسِّيِّ. ومن ناحيةٍ أخرى فقد كان على التَّفسير القرآنيِّ أنْ يعتمدَ بشكلٍ أساسيٍّ على الشُّروحات المجازيَّة من أجل تفسيرِ الصُّورِ التَّجسيديَّة لله في القرآن (16).
II.                        بالنِّسبة إلى الفلاسفة المسلمين فهم يتعاملون مع الميتافيزيقا على نحوٍ أكثرَ تفصيلاً، فالبنِّسبة إليهم، فإنَّ العالَمين المرئيَّ واللامرئيَّ- المتَّصلين فقط عن طريق “القياس”]قياس الغائب على الشَّاهد[كما في علم الكلام- ليسا منفصلين تمامًا، فالكون كلُّه- عندهم- عبارة عن وحدة واحدة متَّحدةٍ من أعلى إلى أدنى. وسواءٌ أخَلَقَ اللهُ الكونَ من لاشيءٍ أم خلقه من مادَّةٍ أوَّليَّة فإنَّ للكون تصميمًا بنائيًّا، وذلك لأنَّه جسم حيٌّ وليس تجميعًا لأجزاء. إنَّ الله، مُصمِّمَ الكونِ، هو العقلُ المحضُ وليس المحرِّكَ الأوَّلَ بحسب أرسطو.
وسواءٌ أكان الكون مخلوقًا- كما يؤكِّد علماءُ الكلام- أم كان نتيجةً لانبثاقٍ تدريجيٍّ- كما تؤكد الفلسفة الإشراقية- فإنَّ الحقيقة تبقى أنَّ الكونَ عبارةٌ عن جسمٍ حيّ (17). إنَّ نقطةَ الانطلاق لهذا التَّوكيد هي “الإنسان” الذي يُعتبَر “كونًا صغيرًا”، وبالتَّالي يكون الكونُ “إنسانًا كبيرًا”. ولأنَّ “الإنسان” أو الكون الصَّغير و”الكونَ” أو الإنسانَ الكبيرَ هما في الحقيقة ممثِّلان للحقيقة نفسِها المنبثقةِ من الله؛ فإنَّ الأنطولوجيا والإپْسِيتْمولوجيا وجهان لعملةٍ واحدة (18). وضمن هذا الإطار المفاهيميِّ فإنَّ النَّبيَّ والفيلسوف يصلان إلى المعرفة نفسها ويشتركان فيها حتَّى وإنْ كانتْ من خلال قنواتٍ مختلفة. وإذا كان “الخيال” هو قناةَ النَّبيِّ للمعرفة فإنَّ قناة الفيلسوف هي “العقل”، وذلك على الرَّغم من أنَّهما يحصلان على المعرفة من المصدرِ نفسِه، ألا وهو العقل الأوَّلُ المنبثقُ من الله. إنَّ لكلٍّ من هاتين القناتين أسلوبًا خاصًّا في التَّعبير اللُّغويِّ للوصول إلى المعرفةِ نفسِها. وبذلك فإنَّ الدِّين- أوِ الوحيَ- والفلسفةَ يبدوان متناقضين في المستوى الخارجيِّ؛ ولكنَّهما، في المستوى العميق، يُقدِّمان المعرفةَ نفسَها. ولذلك فإنَّ أيَّ شيءٍ يبدو متناقضًا في لغة الدِّين من المفترض شرحُه وتفسيرُه لمصلحة الانسجام مع العقل.
إذا كان علم الكلام مقصورًا على التَّفسير المجازيِّ فقد وسَّعتِ الفلسفة من أدواتها الهرمنيوطيقية لتشتمل على الأليغوريا والرَّمز. إنَّ الأليغوريا الفلسفيَّة الشَّهيرة جدًّا “حيُّ بن يقظان” التي كتبها أبو بكر بن طفيل (ت:581هـ\1185م) هي في حدِّ ذاتِها دليلٌ جيِّدٌ ]على التَّوسُّع الفلسفيِّ في أدواتِه لقراءةِ الوجود[. إنَّها قصَّةُ جزيرتين؛ واحدةٌ غير مأهولةٍ بالنَّاس قطّ وأخرى مأهولة، وفي الجزيرة غيرِ المأهولة بالنَّاس يظهر طفلٌ قد يكون وُلِدَ بشكلٍ عفويٍّ ]أي من الطبيعة بلا أمّ[، أو قد يكون جاء من بعيد طافيًا في صندوق. هذا الطِّفلُ هو حيُّ بن يقظانَ الذي يحصل على طعامه بالرِّضاع من الظَّبية. وبعد موت أُمِّه بالرِّضاع- الظَّبية- تُرِكَ وحيدًا يعيش على مصادره الذَّاتيَّة وحدَها، لكنَّ ذكاءه الفطريَّ- الذي كان واهنًا في البداية- أخذ يتطوَّر تدريجيًّا حتَّى مكَّنه من السَّيطرة على رفاقه من البهائم. وبوصوله إلى مرحلة الرُّجولة، ومن خلال ملاحظاته وتأمُّلاته المتواصلة، أخذ تدريجيًّا يكتسب معرفةً بالكون الحِسِّيّ. ثمَّ أخذ يتقدَّم ]بتأمُّلاته وملاحظاته[ في عالم المتيافيزيقا حتَّى صار وجودُ خالقِ الكونِ لديه جليًّا. ومن خلال تمرُّسِه على ضبط النَّفس في مجاهدة العقل والجسد للوصول إلى مرحلة التَّوحُّد مع روحِه الأبديَّة وصل أخيرًا إلى حالةٍ من الكشف ]الذي يتجلَّى في نشوة ووجد[.
وبانفلاته من الحاجز الميتافيزيقيِّ الأخير اتَّحد عقلُه بالعقل الخالص، واستطاع أنْ يُدرِكَ ما لا عينٌ رأتْ ولا أذنٌ سمعت. وفي نهاية الحِقبة السَّابعة- كلُّ حِقْبَةٍ تُساوي سبعَ سنوات- تمكَّن من أنْ يبلغ أقصى حدٍّ في اكتمال المعرفة، وبلغ سعادةً عظيمةً تفوق الوصفَ في معانقة المُطْلَق والاتِّحاد به. وفي هذه المرحلة، وبينما لا يزال حيٌّ غيرَ مدرِكٍ لوجود أيِّ بلدٍ آخرَ، أو جنسٍ بشريٍّ، ذَهِلَ في يوم من الأيام عندما اكتشف وجودَ مخلوقٍ يُشبِهُه في الهيئة يمشي في الجزيرة التي يقطُنُها.
لقد كان هذا المخلوقُ الذي صادفه حيٌّ في الجزيرة عابدًا متبتِّلاً اسمُه أسال وصل لتوِّهِ من جزيرةٍ مجاورةٍ ذاتِ حضارةٍ، حيث الملك الصَّالحُ سلامان يحكم، وحيث الحياةُ محكومةٌ بالدِّين التَّقليديِّ الذي يقوم على الثَّواب والعقاب. وكان أسال قد وصل إلى مستوًى عميقٍ من المجاهدة وضبط النَّفس بالمقارنة بأقرانه في الجزيرة. ولإيمانه بأنَّ التَّنسُّكَ والعزلة سيُمكِّنانه من إدراك أقصى المرامي الرُّوحيَّة اعتزل العالمَ وجاء ليعيشَ باقي أيَّام حياتِه في هذه الجزيرة الصَّغيرة- جزيرة حيّ- التي يعتقد أنَّها غيرُ مسكونة بالبشر. ثمَّ يقوم أسال بتعليم حيٍّ اللُّغة ليكتشف مذهولاً أنَّ الحقيقة الخالصة التي توصَّل إليها حيٌّ هي نفسُها الحقيقةُ التي يركن إليها الدِّين الذي يعتنقه. وبعد معرفة حيٍّ بأحوال النَّاس الذين يقطنون في جزيرة أسال بدأ الحنانُ والشَّغَفُ يُحرِّكانه نحوهم حتَّى عزم على الذَّهاب إليهم ليعرضَ عليهم فوائدَ المعرفة التي توصَّل إليها. وهكذا انطلق الاثنان، المُتقاربان في المعرفة الرُّوحانيَّة، إلى الجزيرة المأهولة، حيث لعب أسال دورَ المُعرِّفِ بصديقه المتميِّز. لكنَّ مهمَّتهما باءت بفشلٍ ذريع، فالحقيقةُ التي عرفَها حيٌّ أبعدُ بكثيرٍ من أنْ تُدرِكَها الأغلبيَّةُ السَّاحقة لسُكَّان جزيرةِ أسال الذين قابلوها بعدائيَّةٍ معتبرينها بِدَعًا خَطِرَة. ولأنَّهم مكبَّلون بقيود حواسِّهم التي تستجيب فقط للتَّصوُّرات التي يمكن تلمُّسُها بطريقةٍ مباشرة، لذلك فإنَّ طبائعَهم الأخلاقيَّة في معظمها سهلةُ الانقياد إلى الإيمان بحقائقَ حَرْفيَّةٍ من الثَّواب والعقاب. وهكذا رأى حيٌّ بعد وقت قصيرٍ ما أقنعه بأنَّ طريقة النَّبيِّ مُحمَّدٍ- كما يُعبِّر عنها القرآن- هي الطَّريقة الوحيدة التي تؤثِّر فيهم. ]وهنا أدرك حيٌّ أنَّ عليه[ أنْ يُغادِرَ إلى جزيرته غيرِ المأهولة مع صديقه أسال. وقبل أنْ يُغادِرَ حيٌّ الجزيرة المأهولة بالنَّاس اعتذر لهم عن تدخُّله في شؤون إيمانهم، وأوصاهم- متظاهرًا بالتَّوبة عن ما قاله لهم- بأنْ يُخلِصوا لدين آبائهم (19).
وإذن فحيٌّ اسمُ بطلِ هذه الأليغوريا ذو دلالة؛ فهو (حيُّ) (ابنُ) (يقظان). وبهذا الفهم من المفترض أنْ يكون اليقظان هو العقل. وبمقتضى ذلك يكون الإنسانُ حيًّا فقط عندما يكون عقلُه يقظان. من هنا فإنَّ أهمَّ خاصِّيَّة إيجابيَّة لقدرة عقل الإنسان على الوصول إلى معرفة الله أنها معرفة تأملية خالصة. إنَّها معرفةٌ لا تعتمد على الوحي برَّغم عدم مناقضتها إياه بالضَّرورة. الخاصِّيَّة الإيجابيَّة الأخرى- في رأيي- هي أنَّه ليس لحيٍّ أيُّ خصائصَ اجتماعيَّةٍ على الإطلاق، ويظهر أنَّه قادرٌ على الوصول إلى هذا المستوى العميق من المعرفة بسبب عزلته التي عاشها في لا زمان ولا مكان. وإذن فإنَّ فكرة الوصول إلى المعرفة بالعقل- بحسب هذه القصَّة، التي تعكس بشكلٍ دقيق أفكارَ الفلاسفة المسلمين ]عن المعرفة العقليَّة[- هي فكرةٌ كونيَّة.  تجدر الإشارة في هذا السِّياق إلى أنَّ لهذه الخاصِّيَّة الإيجابيَّة الثَّانية- التي تتعلَّق بفكرة الوصول إلى المعرفة عن طريق العقل، كما في قصَّة حيِّ بن يقظان- بعضَ العناصر الصّوفيَّة. وأهمُّ هذه العناصر بالنِّسبة إلى هذه الدِّراسة هو تأكيد أنَّ “الرَّمز” و”الأليغوريا” في اللُّغة القرآنيَّة هما تعميةٌ للحقيقة الخالصة القصدُ منهما أنْ يتطابقا مع عقليَّة عموم الناس (20). ومن جانبٍ آخرَ فإنَّ المقصودَ من المعنى الخفيِّ هو مخاطبة الخاصَّة الذين عليهم أنْ لا يكشفوا هذه المعرفة للعامَّة. وبهذا فإنَّ الحقيقة شخصيَّةٌ جدًّا ومن الصُّعوبة بمكانٍ توصيلُها إلى شخصٍ آخرَ؛ لأنَّها قابلةٌ للإدراك فقط من خلال رحلةٍ انقطاعيَّةٍ يستطيع الإنسانُ من خلالها أنْ يتعرَّف حقيقتَه الرُّوحيَّة والإلهيَّة المخبَّأة تحت طبقاتٍ من العناصر الكونيَّة. وكلَّما علا الإنسانُ في مستوى رحلته الانقطاعيَّة هذه أُزيحتْ من أمامه عناصرُ كونيَّة أكثرُ، وهكذا تأخذ حقيقتُه الإلهيَّة الباطنة في الظُّهور بشكلٍ تدريجيّ. وعند نهاية الرِّحلة يُصبح الإنسانُ مدركًا تمامًا لحقيقته الإلهيَّة، وبالتَّالي تنكشف له المعرفة الحقيقيَّة.  إنَّ وصفًا تفصيليًّا لرحلة الإنسان في الكون موجودٌ في كتابات ابن عربي، وهو موضوع الفقرة التالية.
III.                        لقد دمج ابنُ عربي كلَّ المعرفة الإنسانيَّة السَّابقة المعروفة لديه- من أفلاطون وحتَّى ابن رشد- في الفكر الإسلاميِّ، من أجل أنْ يُقدِّمَ نظامًا دينيًّا شاملاً أسماه بدين الحُبِّ الشَّامل (21). إنَّه من المستحيل تقريبًا تتبُّع أيٍّ من مُكوِّنات نظامه الفكريِّ في مصادرها الأصليَّة، وذلك بسبب الطَّريقة التي دمج بها تلك المُكوِّنات في نظامه الفكريِّ الموحَّد والفريد (22). إنَّ أشكالَ الوجود الثَّلاثة- السَّالفة الذِّكر- التي صاغها علماءُ الكلام والفلاسفةُ تمَّ أخذُها من قبل ابن عربي، وتمَّ إعادةُ تفسيرِها لتتلاءم مع نظامه الفكريّ (23). وعلى الرَّغم من أنَّه يستخدم المفردات نفسِها التي وظَّفها علماءُ الكلام والفلاسفةُ؛ إلا أنَّه يُخصِّصُها بدَلالاتٍ مختلفة (24)، فـ”الخلق” بالنِّسبة إليه- على سبيل المثال- عمليَّة من التَّجلِّي الإلهيِّ الأبديِّ التي لا بداية ولا نهاية لها. إنَّ لغة حديثه عن مراتب الوجود المختلفة لا تُلمِّح- ومن المفترض أن لا تُلمِّح- إلى فكرة التَّبدُّل أو التَّغيُّر أو ]التَّوالي الزَّمانيّ[ على الإطلاق (25)، ولذلك فهو يُميِّز بين ثلاثة مستويات برزخيَّة: العَمَاءِ وعالمِ الأمرِ وعالمِ الخلق.
1- “العَمَاءُ المطلَق” أو “الخيال المطلق” (26) تعبيرٌ مستخدَمٌ في لغة ابن عربي لتحديد الوجود الخفيِّ المطلق للحقيقة. إنَّه بمثابة جوهرٍ غيرِ مُدرَكٍ من قِبل أحد، بل ينكشف لنفسه بنفسه فقط. لا أسماء تشير إليه ولا صفات منسوبة إليه، بل إنَّ مجرَّد استعمال “هو” في الإشارة إليه أمرٌ غيرُ مناسب.  هذا الوجود هو الوجود لا بشرط شيء (27). إنَّ إدراكه لذاته بذاته أخرجه في صور غيريَّة يتجلَّى فيها ويرى فيها نفسَه (28). هذا الإدراكَ هو في الواقع أوَّلُ تجلٍّ باطنيٍّ للانتقال من “العماء المطلق” أو الوجود لا بشرط شيءٍ إلى مستوى الوجود بشرط لا شيء (29). هذه الحالة هي أعلى وأسمى درجات “التَّجلِّي الأقدس”. إنَّ الفارق بين هذين المستويين الوجوديَّين هو الفارق بين “اللاشرطيَّة المطلقة” ]أو الوجود المطلق غير المشروط بشيء حتَّى شرط الإطلاق[ للمستوى الأوَّل ]مرتبة الذَّات الإلهيَّة[ وبين شَرْطِيَّةِ النَّفي في المستوى الثَّاني أو ]مرتبة الألوهة[. وبكلمات أخرى فإنَّ المرتبة الوجوديَّة للامشروط تتجلَّى في الشَّرْطِيَّةِ بلا شيء، الأمرُ الذي يعني أنَّها غيرُ مشروطةٍ بأيِّ شرطٍ وجوديٍّ خارجيٍّ لكنَّها- بالأحرى- مشروطةٌ بشرط داخليٍّ مُحدَّد بالجوهر نفسِه. إنَّ هذه المرتبة الوجوديَّة هي مرتبة الألوهة المُشَارُ إليها في القرآن بالاسم: الله.  إنَّها تُمثِّل المظهرَ الظَّاهر للجوهر الإلهيّ، وهي ظاهرة لنفسها فقط، لأنَّه لا اثنينيَّة (30) ولا تغيُّر ولا تعدُّديَّة ولا كثرة فيها (31).
أمَّا مرتبة التَّجلِّي الثَّانية فهي “أسمى مراتب التَّجلِّي المقدَّس” التي تُمثِّل مرحلةَ ظهور كلِّ الأسماء والصِّفات الإلهيَّة المذكورة في القرآن. وتظهر الأسماءُ والصِّفاتُ من خلال هذه المرتبة الثَّانية التي تُمثِّل التَّجلِّي المقدَّس للذَّات الإلهيَّة في العالم. وفي هذه المرتبة تُصبح الأسماء والصِّفات الكامنة- أي التي لم تكن ظاهرة في مرتبة الألوهة إلا من خلال الاسم (الله)- ظاهرة. وعلينا أنْ نُحَذِّرَ من اعتقاد وجود فكرة الزَّمن أو التَّغيُّر ضمن هذا التَّصوُّر (32). كما أنَّه علينا أنْ ننتبه إلى أيِّ التباسٍ يمكن أنْ يُحدِثَه النِّظام التَّقليديُّ للعلامات واللُّغة ]عند توصيف ابن عربي لهذه المرتبة توصيفًا تجسيديًّا في حالة انتقالها من العدم إلى الوجود في صور الأعيان الثَّابتة[ (33).
ومرتبة التَّجلِّي الثَّالثة والأخيرة هي تلك التي تجلب الكون إلى الوجود. هذه هي مرتبة التَّجلِّي المقدَّس التي تقود إلى مرتبة الوجود بشرط شيء، وهي مرتبة مشروطة، لأنَّ الكثرة والتَّغيُّر الكامنين في مرتبة الألوهة ظاهران ومُحدَّدان في هذه المرتبة. إنَّ الأسماء الإلهيَّة والصِّفات المختلفة- المخبّأة في الاسم (الله)- هي الوسائط التي تعمل على إحضار حقيقة الكون المخبَّأة – المخبَّأة في علم الله- إلى حالة الوجود الحِسِّيِّ الظَّاهر (34). لكنَّ عمليَّة إحضار الكون إلى حالة الوجود الحِسِّيِّ الظَّاهر ليست عمليَّة منتهية، وذلك لأنَّ الكون كلَّه من أعلى إلى أدنى ليس مشروعًا- جاهز التَّصميم- تم تنفيذه في وقتٍ ما من الزَّمن ومن ثمَّ تُرِكَ يواجه مصيرَه بنفسه. إنَّ التَّجلِّي عمليَّة أبديَّة لولاها سيفنى الكون.  إنَّ النَّاس غيرُ مدركين لهذه الحقيقة المُعبَّر عنها في القرآن بـ”الخلق الجديد” (35) .
2- يُمثِّل عالَمُ الأمر عالَمَ الأرواح الكُلِّيَّة (36)، وهو التَّجلِّي الأوَّل الذي ينبثق منه العقل الأوَّل أو ما يُسمَّى أحيانًا المُبْدَعَ الأوَّل. إنَّه التَّجلِّي الأوَّل لأنَّه يشتمل على كلِّ المعرفة المتَّصلة بالكون، وهي المعرفة المُلهَمَة من قبل العلم الإلهيِّ المطلق. إنَّ هذه المعرفة محدودةٌ بالمقارنة بمصدرها، ولكنَّها معرفةٌ مطلقة إذا ما قورنت بالمعرفة المكشوفة لموجوداتٍ أدنى في المرتبة الكونيَّة نفسها. ومن جانبٍ آخرَ فهي معرفة ذاتُ فعاليَّةٍ إذا ما نُظِرَ إليها من زاوية مظهرها الخلاق الذي تنبعث منه كلُّ الموجودات الأدنى. ويُشار إلى العقل الأوَّل أيضًا بالقلم الذي ذُكِرَ في القرآن، وعلى الأخص في الآيات الأولى التي أُنزلتْ على النَّبيِّ مُحمَّد (37). إنَّ هذا العقل الأوَّل يؤدِّي وظيفتَه باعتباره وسيطٍا أنطولوجيٍّا وإپْسِيتْمولوجيٍّا معًا.  وعلى المستوى الأنطولوجيِّ فإنَّه يكشف المعلومات العمليَّة المحدَّدة والضَّروريَّة لعمليَّة الخلق/التَّجلِّي للموجودات الأدنى. أمَّا على المستوى الإپْسِيتْمولوجيِّ- من جانبٍ آخرَ- فإنَّه يُمثِّل مصدر المعرفة للأنبياء والفلاسفة معًا.
ومن خلال التَّجلِّي الأوَّل للعقل الأوَّل تبدأ النَّفس الكونيَّة في الظُّهور. ويُمثِّل اللَّوحُ المحفوظ أو (النَّفس الكُلِّيَّة)- من جانبٍ آخرَ- أولى مراتب تجلِّيات العقل الأوَّل (38)، حيث يُمثِّل الاثنينيَّة، أو المرحلة الأولى للكثرة في عالم الأمر، وذلك لأنَّه يشتمل على جانبين: العلم أو ]القوَّة العلميَّة[ والفعل أو ]القوَّة العمليَّة[ (39). وبينما يتَّصل اللَّوح المحفوظ بالعقل الأوَّل من جانب العلم فإنَّ جانب الفعل هو الجانب الذي تتفرَّع عنه الطَّبيعة (40)؛ لذلك فإنَّ الاثنينيَّة المُضْمَرَة في النَّفس الكُلِّيَّة تصبح واضحة في الطَّبيعة (41). وتظهر التَّعدُّديَّة من خلال التَّجلِّيات التي تُخرِجُ الأجسام إلى الوجود، وهي أجسامٌ تحتوي بدورها على عناصر الكون بوصفها مظهرَها المخبّأ (42). وعلى هذا فإنَّ الاثنينيَّة والكثرة المتَّصلة بعالَم اللَّوح المحفوظ من المفترض فهمُهما في سياق كونهما السَّبب الرُّوحيَّ للاثنينيَّة والتَّعدُّديَّة الحقيقيَّة التي نُدرِكُها في عالم الخلق.
3- وبينما يَكون عالَمُ الأمرِ عالمَ الأرواح المُتحكِّم يَكون عالمُ الخلق الجزءَ الميتافيزيقيَّ اللامرئيَّ المحكومَ ]أو الموجَّه[.  إنَّه- بهذا المعنى- عالم الأفلاك الثَّابتة، وأوَّلُ هذه الأفلاك هو فَلَكُ الأفلاك الذي يشتمل على  كلِّ الأفلاك في عالم الخلق.  إنَّ فَلَكَ الأفلاك هذا هو عرش الرَّحمن المذكورُ في القرآن والذي يوازي العقلَ الأوَّل في عالم الأمر، وبمثل التَّوازي مع العقل الأوَّل فإنَّ عرش الرَّحمن يُمثِّل العلمَ وكذلك العِلَّةَ الفاعلةَ ]أو القدرة في الكون[ التي تُبرِزُ الكُرْسِيَّ إلى الوجود، وهو- أي الكُرْسِيُّ- فَلَكُ التَّجلِّي الثَّالث في عالم الأمر.  وبينما يُمثِّل العرشُ الوحدةَ ]الذَّاتيَّة[ كما تُعبِّر عنها الأسماءُ الإلهيَّة بالاسم “الرَّحمن”؛ فإنَّ كرسيَّ العرش هو الفَلَكُ الذي تظهر فيه الاثنينيَّة (43)، ومن هذه الاثنينيَّة تتجلَّى الكثرةُ في فَلَكِ الأطلس أو فلك البروج الثَّابتة (44). ومثل عالم الأمر فإن عالم الخلق لديه قوَّته الرّوحيَّة التي تُحدِّد ما يحدث في عالم الأجرام السَّماويَّة وتتحكَّم فيه (45).
4- إنَّ أوَّل تجلٍّ لعالم الأجرام السَّماويَّة هو فَلَكُ الكواكب الثَّابتة التي تشتمل على كلِّ الكواكب السَّبعة التي تُسمَّى السَّموات. ويتضمَّن هذا الفلك- مكانيًّا- الجنَّة والنَّار، حيث تحتلُّ الجنَّة سطحَه بينما تحتلُّ النَّار مِقْعَرَه (46). إنَّ هذه الكواكبَ السَّماويَّة السَّبعة ثابتةٌ، لأنَّها أجسام سماويَّة، وعلى الرَّغم من كونها متحرِّكة (من السَّماء السَّابعة إلى السَّماء الدُّنيا) إلا أنَّها ليست عُرضةً للتَّغيُّر و]الفناء والاستحالة[.  وفي واقع الأمر فإنَّ حركة هذه الكواكب السَّماويَّة هي ما يُسبِّب التَّغيُّر في عالم السَّماء الدُّنيا أو عالم “الكون والفساد”. هذه الكواكبَ المتحرِّكة من السَّماء السَّابعة إلى السَّماء الدُّنيا مُحتواةٌ في فَلَكِ الكواكب الثَّابتة التي بدورها محتواةٌ في فَلَكِ الأطلس أو فَلَكِ البروج الثَّابتة، وهذه بدورها محتواةٌ في فَلَكِ الكرسيّ. إنَّ موضع الكرسيِّ داخل عرش الرَّحمن هو بمثابة حَلْقَةٍ ملقاة في فلاة (47). وكما هو الشَّأن في عالم الأمر، حيث تتحكَّم أرواحُ الأنبياء روحيًّا في الكواكب السَّماوية السَّبعة؛ فإنَّ الأرواح الملائكيَّة تتحكَّم في عالم الخلق. أمَّا الحياةُ في الفَلَكِ الواقع تحت السَّماء فمحكومةٌ بحركة الأجرام السَّماويَّة، الأمرُ الذي يعكس تعبيرًا عن طاعة أمر الله.  وطبقًا للقرآن فإنَّ كلَّ شيءٍ يُسبِّح لله بطريقة لا يفقَهها الإنسانُ ]ولكنْ لا تفقهون تسبيحهم[.  وبحسب منطوق الآية فإنَّ الحياة على الأرض مُمثَّلةٌ بشكلٍ تدريجيٍّ في أشكالٍ من الأشياء غيرِ الحيَّة وكذلك الموجودات الحيَّة: النَّباتات والحيوانات والبشر(48).
5- الكونُ كلُّه، من أعلى إلى أدنى، مُنعكِسٌ وماثلٌ في خلق الإنسان. وعلى الرَّغم من أنَّ الإنسان هو آخر تجلِّيات الموجودات في الكون فهو أوَّل الموجودات ]من حيث القصد الإلهيِّ[، لأنَّ أوَّل أسمى مراتب التَّجلِّي الأقدس تعبيرٌ عن الجوهر الإلهيِّ الذي رغب في أنْ يُعرَفَ من قِبَل عارفٍ غيره (49). إنَّ القصد من التَّجلِّيات لمختلف المراتب والمستويات الوجوديَّة هو الوصول إلى تلك النِّهاية، أي إلى الإنسان (50). وبكلماتٍ أخرى فإنَّ الله يعكس صورتَه جزئيًّا في مرايا مختلفة من خلال بثِّها في مراتب التَّجلِّيات السَّابقة الذِّكر؛ لكنَّ المرآة المثالية التي تعكس الصُّورة الإلهيَّة في كمالِها هي الإنسان (51). وهكذا يكون الإنسان مُمَثِّلاً لكلِّ الكون من ناحيةٍ ومن ناحيةٍ أخرى يكون ممثِّلاً للمرآة المثالية التي تعكس صورة الله (52). إنَّ روحَه تعكس الأُلوهةَ وعقلَه يعكس العقلَ الأوَّلَ ونَفْسَه تعكس النَّفْسَ الكونيَّة وقلبَه يُمثِّل العرشَ وجسمَه يُمثِّل الطَّبيعة الكونيَّة.
وباعتبار الإنسان كونًا صغيرًا؛ فإنَّ مهمَّته الأساسيَّة هي معرفةُ الله من خلال معرفته لنفسِه.  إنَّ عليه أنْ يتسلَّق كلَّ العناصر الكونيَّة التي تحجب حقيقتَه الإلهيَّة من أجل أنْ يصلَ إلى مثل هذه المعرفة. ويكون الانقطاع ]عن طريق الزُّهد والتَّنسُّك[ هو خطوته الأولى في هذه الرِّحلة التي يُدرِكُ في نهايتها المعرفة الحقيقيَّة. إنَّ الدِّين المُنزَّل على الأنبياء والذي تُعبِّر عنه الكتبُ المقدَّسة يُمثِّل المعرفة في لغة شعريَّة تناسب العامَّة، لكنَّها، بالرَّغم من ذلك، لغة تُلمحُ إلى الحقيقة البسيطة جدًّا بطريقة ضمنيَّة. المؤمنُ الذي ينجز رحلة الصُّعود بنجاح هو الوحيدُ فقط القادرُ على فكِّ شيفرةِ المعنى الحقيقيِّ للوحي.
IV.                        إنَّ فهم القرآن وتأويلَه ليسا نِتاجَ تأمُّلٍ فكريٍّ محضٍ بحسب أليغوريا حيِّ بن يقظان؛ بل إنَّهما نتاج “مِراسٍ من ضبط العقل والجسد على الزُّهد والتَّنسُّك”، من أجل الوصول إلى “الاتِّحاد” بـ “الرّوح الأبديَّة”. وبعد بلوغ حالة الكشفِ والانفلات من آخر حاجز ميتافيزيقيٍّ يندمج عقل الإنسان بالعِلَّة الفاعلة، ويُدرِكُ “ما لا عينٌ رأتْ ولا أذنٌ سمعتْ”. هذا التَّأليف بين العقلانيَّة والصُّوفيَّة كان قد أدخله أبو حامدٍ الغزالي- الذي سبق وتعرَّضنا له- إلى الفكر الإسلاميِّ قبل زمن ابن طفيل مؤلِّف “حيّ بن يقظان”.
وكان ابنُ رشدٍ (520هـ/1126م-595هـ/1198م)، الذي كان معاصرًا لابن طفيل، قد أدخل العقلانيَّة الأرسطوطاليسيَّة إلى الفكر الإسلاميِّ بعد أقلِّ من قرن على وفاة الغزالي. إنَّ الصِّراع بين الفلسفة الخالصة وعلم الكلام مُعبَرٌ عنه بشكلٍ واضح في كتابات المفكِّرَين كليهما، لكنَّه وعلى الرَّغم من التَّعارض بين المفكِّرَين والفارق بين تياريهما الفكريَّين حدث بينهما اقتراضٌ مُتبادلٌ لفكرةٍ واحدة، فلم يستطع ابنُ رشدٍ أنْ ينجوَ من تأثير خصمه، خصوصًا عند المدافعة عن فكرة أنَّ المعرفة الحقيقيَّة، أي المعرفةَ الفلسفيَّة العقلانيَّة الخالصة، يجب إخفاؤها عن العامَّة وإفشاؤها فقط للأقلِّيَّة من الصَّفوة.  إنّ المعرفة الحقيقيَّة يجب أنْ لا تُعلَنَ للنَّاس، لأنَّها ستؤثِّر على إيمانهم بطريقة ضارَّة. في هذا السِّياق من السُّهولة بمكان أنْ نجدَ صدى تجربة حيِّ بن يقظان مع النَّاس في الجزيرة الأخرى الذين اتَّبعوا التَّعاليم الدِّينيَّة بطريقةٍ متزمِّتة متقيِّدين بمعانيها الحرفيَّة المباشرة. وبالنِّسبة إلى الغزالي فإنَّه هو الآخرُ يؤكِّد أنَّ المقصود بالمعرفة الصّوفيَّة ليس عامَّةَ النَّاس؛ بل إنَّها معرفةٌ مُفشاةٌ فقط للصَّفوة المختارة. وهكذا- إذن- يكون كلٌّ من ابن رشد والغزاليّ متَّفقًا على مستوى المعيار العالي للمعرفة الحقيقيَّة (53).
لكنَّ الفارق بين المفكِّرَين يبقى واضحًا في كثير من الأوجه. أوَّلاً، طبقًا لابن رشد، فإنَّ المعرفة بالعالم الميتافيزيقيِّ تبدأ من الدَّلائل والعلامات التي يُهيِّئها العالَمُ الفيزيقيُّ المحسوسُ، ومن خلال هذه المعرفة المكتسبة تتمُّ مقاربة القرآن وتفسيرُه. أمَّا طريقةُ الغزالي- ]في فهم العالَمين الميتافيزيقيِّ والفيزيقيِّ[- فعلى العكس من ذلك؛ إنَّ نقطة انطلاقه هي المعرفة الصّوفيَّة المُلْهَمة- المكتسبة من خلال الزُّهد الرّوحيِّ- عن العالَم الميتافيزيقيِّ. ثانيًا: بينما اقترض الغزالي منهجيَّة الفيلسوف لدحض الفلسفة ومهاجمة الفلاسفة هاجم ابنُ رشدٍ علمَ الكلام الجدليّ وعلماءه في إحالة خاصَّة إلى الغزالي، ولكنَّه في هذا السِّياق- ]إطار تكوين معرفة بالعالم الميتافيزيقيِّ[- وظَّف المنهجيَّة الجدليَّة (الدّياليكتيكيَّة) لعلماء الكلام من أجل تفسير القرآن (54). ثالثًا: بينما يقسم الغزالي المستويات الدَّلاليَّة للنَّصِّ ]= القرآن[ إلى مستويين: “القشر” و”اللُّباب” (55)؛ فإنَّ ابنَ رشد يقسم النَّصَّ القرآنيَّ إلى ثلاثة أشكالٍ من التَّعبيرات الدَّلاليَّة (56). التَّقسيمُ الأوَّل والأكثرُ شيوعًا هو الشَّكلُ الخارجيُّ الشِّعريُّ (الخَطابيُّ) الذي يُخاطِبُ العامَّة. أمَّا الثَّاني فهو الشَّكل (الجَدَلِيُّ) والمُرادُ به علماءُ اللاهوت. والشَّكل الثَّالث، والأرقى بين الاثنين، هو الفلسفيُّ (البُرهانيُّ) الذي يُخاطب الفلاسفة فقط (57).
من دون شكٍّ فإنَّ أكثرَ كتبِ ابنِ رشدٍ أهمِّيَّةً هي رسائلُه الدِّينيَّة الفلسفيَّة السِّجاليَّة الثَّلاث المتَّصلةُ ببعضها بعضًا بشكلٍ متقاربٍ جدًّا – التي ألَّفها بين عامي 1179م و1180م- وهي فصلُ المقالِ بالإضافة إلى ملحقيه: المناهج وتهافت التَّهافت التي كانت دفاعًا عن الفلسفة. وفي أوَّل رسالتين يُعلِنُ ابنُ رشدٍ زعمًا جريئًا مؤدَّاه أنَّ المشتغل بالميتافيزيقا- الذي يوظِّف آليَّة القياس- هو وحدَه صاحبُ الأهليَّة والقادرُ- بالإضافة إلى كونه مجبرًا على ذلك- على تفسير المبادئ المتضمَّنة في الشَّريعة، وليس علماءُ الكلام الدّيالكتيكيّون الذين يتكئون على الحجج الجدليَّة. إنَّ هدف الفلسفة هو بلوغُ المعنى الحقيقيِّ والباطنيِّ للمعتقدات والقناعة الدِّينيَّة، وذلك في سعيها نحو بلوغ الحقيقة. إنَّ على هذا المعنى الباطني أنْ لا يُفشَى للعامَّة الذين عليهم أنْ يقبلوا المعنى الصِّرْفَ والخارجيَّ للكتب المقدَّسة الذي تتضمَّنُه القصص والتَّشبيه والمجاز (58). وقد وظَّف ابنُ رشدٍ جدليَّات أرسطو الثَّلاث (برهانيَّة وديالكتيكيَّة وإقناعيَّة أو بلاغيَّة وشعريَّة) بالنِّسبة إلى الفلاسفة وعلماء الكلام والعامَّة.
وبالرَّغم من ذلك فإنَّ ابنَ رشدٍ يُوصي بأنَّ مبدأ “الله نور السَّموات والأرض” هو ما يجب تعليمه للعامَّة، لأنَّه يسيرٌ على الفهم وسهلُ الهضم، وذلك من دون أنْ يتناقض مع المعرفة الفلسفيَّة الحقيقيَّة. وليستْ هناك حاجةٌ إلى التَّطرُّق إلى إشكاليَّات نظريَّة الغزالي كاملةً بالنِّسبة لمبدأ نور الله؛ لأنَّ أقلَّ هذه الإشكاليَّات هو الظَّلامُ أو اللاشيئيَّة للكون كاملاً، بمن في ذلك الإنسان. أمَّا بالنِّسبة إلى ابن عربي فإنَّ تصوُّرَه المتعلِّق بالحقيقة المحمَّديَّة، الذي سبق وتعرَّضنا له، يحمي وجودَ الكون كلَّه من السُّقوط في “اللاشيئيَّة” أو حالة “الظَّلام”. وبحكم موازاة الحقيقة المحمَّديَّة للألوهة- بحسب فلسفة ابن عربي- فإنَّها تلعب دورًا كونيًّا مهمًّا؛ إنَّها بمثابة الوسيط الأنطولوجيِّ وكذلك الإبْسِتْمولوجي بين الجوهر الإلهيِّ المطلق وبين الكون. إنَّ الوحيَ الموحى إلى محمَّدٍ التَّاريخيِّ في مكَّة- أي الإسلامَ- هو التَّعبيرُ المثاليُّ عن الحقيقة، وبالقدر نفسِه فإنَّ محمَّدًا التَّاريخيَّ هو التَّجلِّي المثاليُّ لحقيقة الإسلام. موت محمَّدٍ التَّاريخيِّ ليس النِّهاية، لأنَّ الحقيقة متجلِّيةٌ دائمًا.  إنَّها “النّور” المُشِعُّ دائمًا في الكون وكذلك في قلوب المؤمنين. وبمثل هذا النّور يكون معنى القرآن مستمرًّا في الظُّهور في عمليَّة لا نهائيَّة من التّأويل والتّأويل المضادّ. إنَّ الحقيقة، ببساطةٍ، غيرُ محدودةٍ بأيِّ مرحلةٍ من التَّمثيل أو/و التَّجلِّي، كما أنَّها ليست محدودةً بأيِّ شكلٍ من التَّعبير أو/و التّأويل.
هوامش
(1) سورة النور الآية 35
(2) للوقوف على مزيد من التَّفاصيل عن موقف الغزاليّ من المجاز ومن آية النّور على وجه التَّحديد انظر:  دراسة “إشكاليَّة “المجاز”:  النِّزاع حول الحقيقة” في نصر حامد أبو زيد، الخطاب والتَّأويل، المركز الثَّقافي العربي، بيروت، الطَّبعة الأولى، 2000، ص:194-212.  وخلافًا لموقف الغزالي فـ”قد أجمع المفسِّرون على اختلاف اتِّجاهاتهم أنَّ عبارة “الله نور السَّموات والأرض” عبارةٌ مجازيَّة”، المصدر نفسه، ص: 204.  ولأنَّنا سنشير إلى هذا المصدر وكتبٍ أخرى لأبي زيد في الهوامش فسنكتفي بذكر اسم الكتاب والصَّفحات في حال تكرار المصدر في أكثر من هامش، أمَّا مصادر الدِّراسة الأصليَّة فسنوضِّحُها بخطٍّ بارز لتمييزها عن هوامش المترجم ]المترجم[.
(3) Cf. The Niche for Lights, tr. By W. H. T. Gairdner, London, 1924, pp. 45-65.
(4) عثمان يحيى، نصوص تاريخية خاصة بنظرية التوحيد في التفكير الإسلامي ،ضمن كتاب (الكتاب التذكاري محيي الدين ابن عربي ) في الذكرى المئوية الثامنة لميلاده ، الهيئة المصرية العامة للطباعة والنشر 1969م، ص:238
(5) نصر حامد أبو زيد، فلسفة التأويل: دراسة في تأويل القرآن عند محيي الدين ابن عربي، بيروت، الطبعة الثالثة، 1996، ص 57-67
(6) المقصود بـ”علماء الكلام” من منظور هذه الدراسة المعتزلة الذين قدموا فكرًا لاهوتيَّا عقلانيَّا، وفي هذا الصدد فإنّ الإحالة الأساسية تكون إلى كتابات القاضي عبد الجبّار الأسد أبادي (ت. 410هـ\1044م) كما هو محلل في كل من: نصر حامد أبو زيد، الاتجاه العقلي في التفسير: دراسة في قضية المجاز عند المعتزلة، بيروت، الطبعة الرابعة، 1987 و Peters: God’s Created Speech, cf. next note.
(7) Peters, J. R. T. M., God’s Created Speech, Leiden 1976, p. 105.
(8) Gardet, L., Kawan wa Fasad, Encyclopaedia of Islam, new edition, iv, p. 794-795.
(9) Peters, op. cited p. 119-20
10) ( السَّابق، ص 124
السَّابق ) 11(
(12)   السَّابق، الصفحات من 124 إلى 127.
(13) القرآن: 2/117، 3/47 و59، 6/73، 16/40، 19/35، 36/82، 40/68. ]يشير الرَّقم الأوَّل إلى السّورة والثَّاني إلى الآية على التَّوالي- المترجم[.
(14) cf. Abu-Zaid, (1996), p. 80-1.
(15) المقصود هو  الوسيط الوجوديُّ السَّابقة الإشارة إليه وهو الوسيط الذي يتوسط بين الوجود الحقيقيِّ للأشياء والعدم، أو بمعنًى آخر هو المرحلة الوجوديَّة التي تتمُّ خلالها تهيئة الأشياء لتنبثق من العدم بفعل أمر الله “كُنْ” ]المترجم[.
(16) cf. Abu-Zaid (1997), p. 122f.
(17) السابق، ص 38-42.
(18) لمزيد من التفاصيل عن الإنسان بوصفه “كونًا صغيرًا” أو “عالَمًا صغيرًا” والكونِ بوصفه “إنسانًا كبيرًا”، أو بحسب مفاهيم ابن عربي فإنَّ الإنسان هو “الجِرْمُ الصَّغير” الذي تجلَّى فيه “العالَم الأكبر” انظر:  فلسفة التَّأويل، المركز الثقافي العربي، بيروت، الطبعة الأولى، 1983، ص: 159-162.  وانظر أيضًا:  نصر حامد أبو زيد، هكذا تكلَّم ابن عربي، المركز الثقافي العربي، بيروت، الطبعة الثانية، 2004، ص:211-213 وص: 230- 237 ]المترجم[.
(19) The history of Hayy ibn Yaqzan, tran. by Simon Ockley, London, n.d., A.S. Fulton’s
Introduction, pp. 15-17
(20) انظر التَّحليل التَّفصيليّ الذي يُقدِّمُه أبو زيد لقصَّة “حيّ بن يقظان” في هكذا تكلم ابن عربي (مرجع سابق)، ص: 173-180.  ولا بد من الانتباه إلى تحليل المؤلف لدلالات الأسماء الثَّلاثة في القصَّة؛ “حيّ بن يقظان” و”أسال” و”سلامان”. ومن جانبٍ آخرَ فإنَّ هذه الأليغوريا بقدر ما تُجسِّد التقاءَ “العرفان”- الذي يُمثِّلُه الفلاسفة الإشراقيون كابن سينا والسَّهروردي- “بالبرهان”- الذي يُمثِّلُه الفلاسفة العقلانيون كابن رشد- فإنَّها من جانبٍ آخرَ تلمح إلى الصِّراع الذي عاشته الفلسفة والعرفان مع الفهم الحَرْفِيِّ والتَّقليديِّ للدِّين الذي مثَّله الفقهاء. إنَّ سُكَّان الجزيرة المأهولة بالنَّاس في “حيّ بن يقظان” يرمزون إلى الفقهاء المتزمِّتين.  انظر المصدر نفسه، ص: 197 ]المترجم[.
(21) لمزيد من الشَّرح والإيضاح لاستيعاب ابن عربي للتُّراثين الإنسانيِّ والإسلاميِّ السَّابقين عليه وتأثيره فيهما انظر نصر حامد أبو زيد، هكذا تكلم ابن عربي (مرجع سابق) ص: 25 -30.  وانظر أيضًا التَّمهيد في فلسفة التَّأويل (مرجع سابق) ص 11- 43.  الإشارة إلى دين الحُبِّ الشَّامل تتمثَّل في أبيات ابن عربي الشَّهيرة:  لقد صار قلبي قابلاً كلَّ صورةٍ   فمرعًى لغزلانٍ ودَيْرٌ لرُهبانِ… إلخ. انظر محيي الدِّين بن عربي، ترجمان الأشواق، دار صادر، بيروت، الطبعة الثالثة، 2003 ص: 40 -44 ] المترجم[.
(22) انظر هكذا تكلم ابن عربي (مرجع سابق) ص: 105 وما بعدها، ويُعبِّر أبو زيد عن هذه الصُّعوبة في تتبُّع فكر ابن عربي في مكانٍ آخر من الكتاب نفسِه بقوله:  “… تتمثَّل تلك الخاصِّيَّة في أنَّ أيَّ نقطة بداية يختارها الباحث للإبحار في فكر ابن عربي تحيل إلى نظامه الفكريِّ كلِّه، إنَّه فكر يقوم على بنية دائريَّة مماثلة لبنية الوجود… وككلِّ بنية دائريَّة ثمَّة مركز ومحيط ودائرة، وأيُّ نقطة على المحيط يمكن أنْ تكون هي نقطة البداية، وتكون في الوقت نفسه هي نقطة النِّهاية.  ليس مهمًّا في نسق ابن عربي الفكري المتميِّز من أين تبدأ، لأنَّ أيَّ نقطة ستقودك إلى التَّجوال في محيط دائريٍّ ينتهي بك إلى حيث بدأت” ص: 201 ]المترجم[.
(23)  cf. Abu-Zaid, (1996), p. 37.
(24) مثال ذلك استخدام ابن عربي لمفاهيم مثل “العقل الأوَّل”-  في المستوى الثَّاني لمراتب التَّجلِّيات الوجوديَّة وهو مستوى “عالم الأمر”-  عند الفلاسفة الإشراقيِّين  و”حقيقة الحقائق الكُلِّيَّة” عند المشَّائين من أتباع أرسطو. انظر هكذا تكلَّم ابن عربي (مرجع سابق)، ص: 213-217 ]المترجم[.
(25) “وبعبارة أخرى، إذا كان الوجود كلُّه من أعلاه إلى أدناه برزخًا فاصلاً وجامعًا فإنَّ هذا البرزخ الجامع ينقسم إلى ما لا نهاية له من البرازخ.  من الضَّروريِّ الإشارةُ هنا إلى أنَّ ابن عربي حين يُسهِبُ في شرح مراتب الوجود ومستوياته يُحذِّر قارئه دائمًا من تصوُّر أيِّ نوع من التَّوالي الزَّماني؛ فالزَّمان لا مدخل له في التَّجلِّيات الإلهيَّة، لأنَّه مفهوم نسبيٌّ مُحْدَثٌ مخلوق”، هكذا تكلَّم ابن عربي (مرجع سابق)، ص:  214- 215 ]المترجم[.
(26) ويُسمَّى هذا المستوى الأوَّل أيضًا بـ”البرزخ الأعلى” و”برزخ البرازخ”، “وليس هذا المستوى إلا تعبيرًا أنطولوجيًّا/ معرفيًّا عن مستوى الذَّات في وحدتها المطلقة وغيبها الأزليّ.  ويتضمَّن هذا المستوى أربع مراتب من “الوسائط” أو “البرازخ” هي بمثابة “العلل” الكلِّية للوجود عند الفلاسفة:  أ- مرتبة “الألوهة”، ب- مرتبة “العماء أو الأعيان الثابتة في العدم”، ج- مرتبة “حقيقة الحقائق الكلية”، د- مرتبة “الحقيقة المُحمَّديَّة أو الإنسان الكامل”، هكذا تكلَّم ابن عربي (مرجع سابق)، ص: 215- 217 ]المترجم[.
(27) انظر فلسفة التَّأويل (مرجع سابق)، ص: 32-33 ]المترجم[.
(28) انظر السَّابق، ص: 75 وما بعدها.  وانظر أيضًا هكذا تكلم ابن عربي (مرجع سابق):  “يعتمد ابن عربي في هذا التَّصوُّر على تأويل خاصٍّ للحديث القدسيِّ الرَّائج في دوائر التَّصوّف فقط:  “كنت كنزًا مخفيًّا فأحببتُ أنْ أعرف؛ فخلقت الخلق فبي عرفوني” ص:  213 وما بعدها ]المترجم[.
(29) “وهكذا يكون التَّجلِّي الإلهيُّ الذَّاتيُّ من مرتبة الوجود “لا بشرط شيء” إلى مرتبة “الوجود بشرط لا شيء” تفريجًا عن “كرب” الوحدة، وعن “حبِّ” الواحد أن يرى ذاته ماثلةً في صورةٍ غيريَّة.  في هذا المستوى المُعبِّر عن “نَفَس” الذَّات بدأ رحلة تجلِّياته التي هي صورة الذَّات منعكسة في الخارج” هكذا تكلم ابن عربي (مرجع سابق)، ص: 214]  المترجم[.
(30) المقصود بالاثنينيَّة الثُّنائيَّة والكثرة والتَّعدُّد ]المترجم[.
(31) أو بكلمات أخرى فإنَّ “…وجود الذَّات الإلهيَّة وجود في مرتبة “الوجود لا بشرط شيء”، هو الوجود الذي لا تقييد فيه من أيِّ نوع؛ هو وجود بذاته ومن ذاته ولذاته، حيث لا يعقل بتاتًا تصوُّر أيِّ ثنائيَّة أو كثرة في صعيد هذا الوجود.  تتجلَّى الذَّات الإلهيَّة لذاتها بذاتها- التَّجلِّي الأقدس- فتُظهِرُ أسماءها إلى مرتبة “الوجود بشرط لا شيء”.  وهذا الوجود الثَّاني هو الوجود المطلق، ومعنى أنَّه مطلق أنَّه وجود غير مشروط بأيِّ شرط؛ إذ الإطلاق ليس شرطًا.  والفارق بين مرتبة الوجود الثَّاني هذه وبين مرتبة الوجود الأوَّل هو وجود صفة “الإطلاق” في الثَّاني دون الأوَّل” هكذا تكلم ابن عربي، ص: 208 ]المترجم[.
(32) ومعنى ذلك “أنَّ هذه المرتبة من التَّمثُّل الإلهيِّ…قد تُوهِم بأسبقيَّة مرتبة الألوهة وحقيقة الحقائق في الزَّمان.  ولكن ابن عربي– كما أشرنا- يعتبر الزَّمان- وكذلك الأزل- أمورًا اعتباريَّة لا حقيقيَّة… إنَّه العماء- بمثابة التَّعيُّن الأوَّل الظَّاهر للعلم الإلهيِّ الباطن، وهو تعيُّن معقول غيرُ محسوس، وتعيُّنُ مرتبةٍ تنفي أيَّ كثرة أو تدرُّجٍ زمنيٍّ” فلسفة التأويل، الطبعة الأولى، 1983: ص 76 و ما بعدها ]المترجم [.
(33) إنَّ “علينا أنْ نفهم ذلك ]التَّصوير التَّجسيديّ[ في ضوء تحذير ابن عربي الدَّائم من الاستسلام لما تُعطيه طبيعة اللُّغة من قوَّة في أصل وضعها”.  ومعنى ذلك أنَّ لهذه الأعيان الثَّابتة المنبثقة من العدم إلى الوجود في مرحلة الوسيط الوجوديِّ- الذي يخرج من العدم إلى الوجود بفعل الأمر “كن”- وجودًا ذهنيًّا معقولاً، أو وجودًا خياليًّا بين الوجود والعدم.  انظر السَّابق ص: 81 وما بعدها ]المترجم[.
(34) لمزيد من التَّفاصيل انظر المرجع السَّابق ص 51 وما بعدها.
(35) القرآن، السورة رقم 50 آية 17
(36) يُسمَّى عالمُ الأمرِ بعالم العقول الكلِّيَّة أو الأرواح الكلِّيَّة، وهو العالم “الذي يتوسَّط بين عالم الخيال المطلق ]…[  وبين عالم الخلق والشَّهادة ]…[ وتبدأ هذه العقول أو الأرواح بالمُبْدَع الأوَّل الذي هو القلم الأعلى أو العقل الأوَّل أو الرُّوح الكلِّيُّ أو حقيقة مُحمَّد أو الإنسانُ الكاملُ كما سبقت الإشارة” انظر فلسفة التأويل، ص: 97 وما بعدها. ]المترجم[.
(37) السورة رقم 96  حيث يؤمر محمد بأنْ “يقرأ” باسم ربِّه،  إلى آخر السورة.
(38) “يمثل العقل الأوَّل أو القلم ]…[ في ذاته برزخًا بين عالم الخيال المطلق ]العماء[ وعالم المعقولات الكلِّيَّة ]عالم الأمر[“.  انظر السَّابق، ص: 99  ]المترجم[.
(39) “ويمكننا أن نميز- مع ابن عربي- بين جانبين لحقيقة اللوح المحفوظ (النفس الكلية) جانب منه يتصل بالعقل الأول ويطلق عليه ابن عربي اسم “القوة العلمية”، وجانب منها يتصل بما يليها من المعقولات– وهي الطبيعة- ويطلق عليه ابن عربي اسم “القوة العملية””.  انظر فلسفة التأويل، ص: 103] المترجم[.
(40)انظر السَّابق، ص: 102 وما بعدها ]المترجم[.
(41) المقصود هو تعدُّد المراتب في النَّفس الكلِّيَّة أو اللَّوح المحفوظ، “ومعنى ذلك أنَّ اللَّوح المحفوظ بدوره له باطن وظاهر، باطنه إلى القلم حيث يُمثِّل العلم الإلهيَّ بالعالم، وهذه هي حقيقته الرّوحيَّة أو العلميَّة.  أمَّا ظاهرُه فهو ظِلُّه الذي يمتدُّ عنه مكوِّنًا الطَّبيعة”، وتُمثِّل الطَّبيعة المرتبة الثَّانية من مراتب التَّجلِّي عن العقل الأوَّل، وهي المرتبة الثَّالثة من مراتب التَّجلِّي عن العَمَاء أو الخيال المطلق.  انظر السَّابق، ص: 103 وما بعدها ]المترجم[.
(42) cf. Abu-Zaid, (1996), p. 97ff.
(43) انظر القرآن، السورة 20/5 والسورة 25/59 اللتين تُظهران المكانة الأعلى لعرش الرَّحمن.  وقد أثارتْ هاتان الآيتان تأويلاتٍ متباينةً    من قِبَل علماء الكلام.  أمَّا الكرسيُّ المذكورُ في السورة 2 آية 255 فإنَّه من جانب آخر يُمثِّل موضع قدم الله بحسب ابن عربي.
(44) لمزيد من الشَّرح والإيضاح راجع فلسفة التَّأويل، الطَّبعة الأولى، 1983، ص: 118 -121 ]المترجم[.
(45)  cf. Abu-Zaid, (1996), p. 113ff.
(46) لمزيد من التَّفاصيل والشَّرح انظر فلسفة التأويل، بيروت، الطبعة الأولى، 1983، ص: 127 وما بعدها ]المترجم[.
(47) انظر المرجع السَّابق ص 126- 133] المترجم[.
(48) القرآن: السورة 17 آية 44.
(49) انظر التَّحليلات السَّابقة عن العماء أو الخيال المطلق والهوامش التَّابعة له]المترجم[.
(50) انظر الشَّرح التَّفصيليَّ الذي يُقدِّمه أبو زيد لمرتبة الإنسان- آخر مراتب الوجود- في هكذا تكلم ابن عربي (مرجع سابق)، ص: 230-237 ]المترجم[.
(51) أو، بحسب تعبير ابن عربي، كان العالم قبل إيجاد الإنسان “وجود شبح لا روح فيه، فكان مرآةً غيرَ مَجْلُوَّة…فاقتضى الأمر جلاء تلك المرآة، فكان آدم جلاء تلك المرآة، وروح تلك الصورة”، ومعنى ذلك في شرح أبي زيد أنَّ العالم هو المرآة غير المجلوَّةِ والتي يجلوها وجود الإنسان؛ أي أنَّ الإنسان بالنِّسبة إلى العالم بمثابة “الرّوح” بالنِّسبة إلى الجسد”.  انظر:  المرجع السَّابق، ص: 232-237.  ولعلَّه من الضَّروريَّ- في هذا السِّياق- ذكر منطوق حديث يُنسَبُ إلى النَّبيِّ ورد في صحيح البخاري:  “إنَّ الله خلق الإنسان على صورته”.  انظر الهامش في المرجع السَّابق، ص: 233 ]المترجم[.
(52) معنى ذلك أنَّ الإنسان موازٍ للألوهة أو هو على صورة الله، كما أنَّ ذلك يعني أنَّ الإنسان لا يتطابق مع الأصل- الله- بقدر ما يُماثِلُه ويُشابهه، أو بمعنًى آخرَ فإنَّ الإنسان- الصورة-  يعكس الأصل- الله-  وليس هو الأصل.  بل إنَّ ابن عربي يصف الإنسان بأنَّه “الأوَّل والآخر”، وكذلك “الظَّاهر والباطن”، لتأكيد أوجه التَّشابه بينه وبين الله. ولمزيد من الكشف والإيضاح في هذا السِّياق من الأفضل اقتباس أبي زيد:  “لكنَّ علينا أيضًا أنْ نؤكد أنَّ ابن عربي يتحدَّث هنا عن تشابه وتماثل لا عن تطابق؛ فالعالم والإنسان صور ومرايا لحقيقة واحدة.  وأيًّا كانتِ الصُّورة فهي تعكس الأصل بحسب طبيعتها، وليست هي الأصل.  وعلى ذلك فالإنسان ليس هو الله وإنْ جمع في ذاته بين الصُّورتين الإلهيَّة والكونيَّة]…[.  فالإنسان مماثل لله ومماثل للعالم، لكنَّ هذه المماثلة لا تنفي التَّغاير بين الله والإنسان من جهة، وبين الله والعالم من جهة أخرى، فضلاً عن التَّغاير بين الإنسان والعالم.  ومن الواجب علينا حين يُوازي ابن عربي بين حقائق الألوهة وحقائق العالم أنْ نفهمَ أنَّ “العالم” في هذه الموازاة يتضمَّن الإنسان.  وعلينا أيضًا أنْ نُلاحظ أنَّ الإنسان الذي يُوازي ابن عربي بينه وبين العالم من جهة وبينه وبين حقائق الألوهة من جهة أخرى هو الإنسان العارفُ الذي وصل إلى معرفة حقيقة نفسه.  إنَّه الإنسانُ الكاملُ الذي يُعَدُّ آدم المَجْلى الأوَّل له، كما يُعَدُّ الرُّسُلُ والأنبياءُ والعارفون الوارثون تجلِّياتٍ مختلفةً لحقيقته الرُّوحيَّة”.  انظر:  المرجع السَّابق، ص: 232-234 ]المترجم[.
(53) حول هذا الموقف المشترك بين ابن رشدٍ والغزالي في تقسيم مستوى المعرفة إلى معرفةٍ خاصَّة بالصّفوة وأخرى خاصَّةٍ بالعامَّة انظر دراسة أبي زيد:  “مركزية الغزالي وهامشيَّة ابن رشد:  خطاب التَّنوير بين حقِّ المعرفة وضغوط الخطاب النَّقيض” ضمن نصر حامد أبو زيد، الخطاب والتّأويل (مرجع سابق) ص:41-57.  ويعتبِر أبو زيد موقفَ ابن رشد هذا نوعًا من “التَّهافت” الذي يكشف عن صدى حضور طاغٍ عند ابن رشد لسلطة الخطاب النَّقيض- الرَّجعيّ-  الذي يُمثِّلُه الغزالي والأشاعرة.  وفي مكانٍ آخرَ يصف أبو زيد موقف ابن رشد من هذا التَّصنيف للمعرفة “بالتَّعالي واحتقار العامَّة”، وهو موقف نابعٌ من معايشة ابن رشد للعامَّة ومشكلاتهم بحكم كونه فقيهًا وقاضيًا، انظر:  هكذا تكلم ابن عربي (مرجع سابق)، ص:181-184.  وسنرى في الفقرات التَّالية- في متن التَّرجمة- أنَّ موقف ابن رشد هذا يُمثِّل صدًى لقلق فيلسوفِ قرطبة من التَّلاعب بأحكام الشَّريعة من قبل المتكلِّمين والفقهاء الذين يوظِّفون آليَّة الجدل التي- في نظر ابن رشد- لا تُعطي يقينيات صارمة بالمقارنة بالبرهان الذي من المفترض أنْ يكون الوحيدَ المخوَّلَ لاستنباط أحكام الشَّريعة بحسب ابن رشد]المترجم[.
(54) المقصود توظيف مفهوم “قياس الغائب على الشَّاهد” ]المترجم[.
(55) لمطالعة مزيد من تحليل منهجيَّة الغزالي التَّأويليَّة للقرآن انظر:  نصر حامد أبو زيد، مفهوم النَّصّ:  دراسة في علوم القرآن، المركز الثَّقافي العربي، بيروت، الطبعة الخامسة، 2000، الباب الثالث، ص: 243 وما بعدها ]المترجم[.
(56) ومع أنَّ ابن رشد يعتبِر الشَّكل الفلسفيَّ (البرهانيَّ) أرقى أشكال التَّعبير القرآنيَّة إلا أنَّه لا يعتبِر المعنى الشِّعريَّ (الخطابيَّ) في القرآن أقلَّ مرتبةً من المعنى البرهانيِّ.  انظر:
Abu Zayd, Nasr Hamid, Rethinking the Quran: Towards Humanistic Hermeneutics, UVH, 2004, p. 17.
وقد ظهرت النُّسخة العربيَّة من هذه الدِّراسة-  التي كانت بالأساس المحاضرة التي قدَّمها أبو زيد في 2004 لاعتلاء كرسيِّ ابن رشد في جامعة الإنسانيَّات بيوترخت، هولندا- تحت عنوان:  مقاربةٌ جديدةٌ للقرآن:  من “النَّصّ” إلى “الخطاب”:  نحو تأويلية إنسانوية. وقد نشرت هذه الدراسة مؤخرا في كتاب لأبي زيد –صدر بعد وفاته عن المركز الثقافي العربي- ويحمل عنوان: التجديد والتحريم والتأويل ]المترجم[.
(57) فصل المقال فيما بين الحكمة والشَّريعة من الاتصال، تحقيق محمد عمارة، القاهرة، 1972، ص 31.
(58) لمزيد من التَّفاصيل انظر:  الخطاب والتأويل (مرجع سابق) ص: 41-66 ]المترجم[.
الكلمة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى